لماذا أنا هنا؟

سؤال عظيم جهل حقيقته كثير من الناس، فعاشوا صنوف الشقاء والضياع، والشك والحيرة، وحياة الضنك، مسكين من يجهل الإجابة على هذا السؤال الذي من أدرك أهميته والإجابة عليه، وطبقها واقعًا عمليًّا في الحياة عاش حياة الأنس والسعد والمسرات، وفاز في الدنيا والآخرة.

سؤال فقهت الإجابة عليه كل المخلوقات، النملة الصغيرة والجبل العظيم الأشم، السماوات والأرض والشجر، والدواب والطير، كلها فقهت الإجابة على السؤال العظيم: لماذا أنا هنا؟

تأمل قوال الله تعالى: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت: 11]، وتأمل قوله سبحانه: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [الحج: 18]، وتأمل قوله جل وعلا: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ [النور: 41].

تأمل حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: « قرصت نملة نبيًّا من الأنبياء، فأمر بقرية النمل، فأُحرقت، فأوحى الله إليه: أن قرصتك نملة أحرقت أمةً من الأمم تسبح »؛ [رواه البخاري ومسلم].

كل المخلوقات أدركت حقيقة وجودها هنا، وقامت بوظيفتها التي من أجلها خُلقت عابدة طاعة منقادة لربها جل وعلا: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 44].

بقي أن نعلم - عباد الله - أن هذه المخلوقات كلها إنما خُلقت من أجلنا لنستمتع بها؛ تأمل قول المولى جل وعلا: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ [البقرة: 29]، وتأمل قوله سبحانه: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 32 - 34]، وتأمل قول ربنا: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 13]، ليتنا نعقل هذه الحقيقة العظيمة، ليتنا ندرك أن الله كرمنا وفضلنا على كل هذه المخلوقات، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70]، كل ذلك للإجابة على هذا السؤال: لماذا أنا هنا؟ سؤال فقهت إجابته كل المخلوقات، كل قالت بلسان حالها ومقالها: أنا هنا لعبادة الله وطاعته والانقياد له.

هل فقه البشر الجواب على هذا السؤال؟ وهل واقعهم يدل على ذلك؟ لماذا أنا هنا؟

تأمل في أعداد البشر اليوم أكثر من سبعة مليار نسمة، أكثرهم لم يفقه الجواب على هذا السؤال، فهم يكدون في هذه الحياة طلبًا لإسعاد أنفسهم فيتقلبون في صنوف الشقاء.

لماذا أنا هنا؟ هل أنا هنا للهو واللعب؟ هل أنا هنا للأكل والشرب؟ هل أن هنا لإشباع رغباتي وشهواتي؟ هل أنا هنا للكسب وجمع المال؟ هل أنا هنا للسفر والترحال والتنقل؟ هل هذه الغاية التي من أجلها خُلقت ووُجدت؟

بيَّن الله جل وعلا الغاية من خلق الثقلين؛ فقال سبحانه: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، وبين ذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ فعن معاذ بن جبل، قال: ((كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل، فقال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك رسول الله، وسعديك، ثم سار ساعةً، ثم قال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك رسول الله وسعديك، ثم سار ساعةً، ثم قال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: هل تدري ما حق الله على العباد؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا، ثم سار ساعةً، ثم قال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك رسول الله، وسعديك، قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ألا يعذبهم))؛ [رواه مسلم].

لماذا أنا هنا؟ أنا هنا لعبادة الله عز وجل، هذه الغاية الكبرى التي جهلها أكثر البشر، أنا هنا لعبادة الله عز وجل، أنا هنا للصلة به، أنا هنا لمحبته والانقياد له، حياتي كلها لله عز وجل: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 161 - 163].

كيف نحن مع توحيد الله والبراءة من الشرك؟ هل نصرف كل عبادتنا لله، فلا ندعو غير الله، لا نطلب جلب النفع ودفع الضر من غيره؟ هل نفرده بالحب والتعظيم؟ ذلكم هو توحيد الله، كيف نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته والتأسي به؟ كيف نحن مع الصلاة؟ كيف نحن مع نداء: حي على الصلاة، حي على الفلاح؟ هل نبادر لإجابة النداء، ونستشعر أن مالك الملك جل وعلا يدعونا للصلة واللقاء به؛ فنقبل فرحين مستبشرين بلقاء ربنا جل وعلا؟

كيف نحن مع بر الوالدين وصلة الأرحام أعظم الحقوق عند الله قرنها بتوحيده؟ هل نتلذذ بر والدينا وصلة أرحامنا، نستشعر أننا بصلتهم يصلنا الله، فتصل إلينا الخيرات والمسرات؟

كيف نحن مع زوجاتنا وأهلينا، هل نعاملهم على أنهم نعمة الله وآية من آياته جل وعلا، فتكون علاقتنا بهم قائمة على الحب والمودة والرحمة؟ هل نستشعر قول رسول الله صلى الله وسلم: ((اللهم إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة))؛ [رواه أحمد وابن ماجه، وحسنه الألباني].

لماذا أنا هنا؟ لتكون حياتي كلها لله، قلب تقي نقي شاكر، وعمل صالح، ولسان ذاكر، وخلق كريم، وجوارح طائعة لربها منقادة له.

هنا السعادة والهناء، الابتسامة في وجه مَن تلقاه صدقة، وطلاقة الوجه معروف، والسلام جالب للمحبة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، نفعك للناس وإحسانك إليهم جالب لمحبة ربك، هنا السعادة والهناء، لا كبر ولا غش، ولا وشحناء ولا بغضاء، صفاء ونقاء، حب وتواصل، ولقاء، هذه هي العبودية الجالبة للسعادة والهناء، حتى المباحات إذا احتسبتها عند الله وحمدته عليها، وأدمت شكره، كانت لك عبادة وقربة، هذه هي إجابة: لماذا أنا هنا؟


المصدر: موقع الألوكة


أَيَعْجِزُ أحدُكم ، أن يكسِبَ كُلَّ يومٍ ألفَ حسَنَةٍ ؟ يُسَبِّحُ اللهَ مائَةَ تسبيحَةٍ ؛ فَيَكْتُبُ اللهُ لَهُ بَها ألفَ حسَنَةٍ ، ويَحُطُّ عنه بِها ألْفَ خَطِيئَةٍ