من عظيم فضل كلمة التوحيد على العبد يوم القيامة





قال الشيخ الفوزان في شرحه لفتح المجيد من شرح كتاب التوحيد:


ولما كان بالناس - بل بالعالم كله - من الضرورة إلى لا إله إلا الله ما لا نهاية له، كانت من أكثر الأذكار وجوداً، وأيسرها حصولاً ، وأعظمها معنى . والعوام والجهال يعدلون عنها إلى الدعوات المبتدعة التي ليست في الكتاب ولا في السنة.

قوله: "وعامرهن غيري" هو بالنصب عطف على السموات، أي لو أن السموات السبع ومن فيهن من العمار غير الله تعالى، والأرضين السبع ومن فيهن ، وضعوا فى كفة الميزان ولا إله إلا الله في الكفة الأخرى، مالت بهن لا إله إلا الله.

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أن نوحاً عليه السلام قال لابنه عند موته : "آمرك بلا إله إلا الله، فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ولا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله ، ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة لقصمتهن لا إله إلا الله" .

قوله: "في كفة" هو بكسر الكاف وتشديد الفاء، أي كفة الميزان .

قوله: "مالت بهن" أي رجحت.

وذلك لما اشتملت عليه من نفي الشرك، وتوحيد الله الذي هو أفضل الأعمال . وأساس الملة والدين ، فمن قالها بإخلاص ويقين ، وعمل بمقتضاها ولوازمها وحقوقها ، واستقام على ذلك ، فهذه الحسنة لا يوازنها شيء، كما قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) .

ودل الحديث على أن لا إله إلا الله أفضل الذكر . كحديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً : "خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" رواه أحمد والترمذي، وعنه أيضا مرفوعاً "يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر ثم يقال : أتنكر من هذا شيئا ؟ أظلمك كتبتى الحافظون فيقول: لا يارب . فيقال : أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا، فيقا: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله . فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة" رواه الترمذي وحسنه .

والنسائى وابن حبان والحاكم . وقال : صحيح على شرط مسلم ، وقال الذهبي في تلخيصه : صحيح .

قال ابن القيم رحمه الله: فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها ، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض. قال : وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً كل سجل منها مدى البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب. ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة وكثير منهم يدخل النار بذنوبه .

قال المصنف رحمه الله: وللترمذي - وحسنه - عن أنس رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى يا بن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة".

ذكر المصنف رحمه الله تعالى الجملة الأخيرة من الحديث، وقد رواه الترمذي بتمامه فقال: عن أنس رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تبارك وتعالى : يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالى يا بن آدم ، إنك لو أتيتني" الحديث.

والحديث قد رواه الإمام أحمد من حديث أبي ذر بمعناه، وهذا لفظه: "ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي جعلت له مثلها مغفرة" ورواه مسلم، وأخرجه الطبرانى من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: "لو أتيتني بقراب الأرض" بضم القاف: وقيل بكسرها والضم أشهر وهو ملؤها أو ما يقارب ملئها.

قوله: "ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً" شرط ثقيل فى الوعد بحصول المغفرة، وهو السلامة من الشرك : كثيره وقليله ، صغيره وكبيره. ولا يسلم من ذلك إلا من سلم الله تعالى، وذلك هو القلب السليم كما قال تعالى: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ* إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).

قال ابن رجب: من جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة -إلى أن قال - فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله تعالى فيه، وقام بشروطه بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت، أعقب ذلك مغفرة ما قد سلف من الذنوب كلها ومنعه من دخول النار بالكلية. فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كل ما سوى الله: محبة وتعظيماً، وإجلالاً ومهابة وخشية وتوكلاً، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها، وإن كانت مثل زبد البحر ا هـ ملخصاً .

قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في معنى الحديث: ويعفى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك. فلو لقى الموحد الذي لم يشرك بالله شيئاً ألبته ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده. فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب، لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه، وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضة والدافع لها قوى . ا هـ .

وفى هذا الحديث: كثرة ثواب التوحيد، وسعة كرم الله وجوده ورحمته والرد على الخوارج الذين يكفرون المسلم بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بالمنزلة بين المنزلتين، وهي الفسوق، ويقولون ليس بمؤمن ولا كافر، ويخلد في النار.

والصواب قول أهل السنه: أنه لا يسلب عنه اسم الإيمان، ولا يعطاه على الإطلاق، بل يقال هو مؤمن عاص، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. وعلى هذا يدل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة. وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى، فأعطي ثلاثاً: أعطى الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئاً: المقحمات" رواه مسلم .

قال ابن كثير فى تفسيره : وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والنسائى: عن أنس بن مالك قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليبه وسلم هذه الآية (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) وقال: قال ربكم: أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله، فمن اتقى أن يجعل معي إلهاً كان أهلاً أن أغفر له".