«إنَّكَ لن تدَعَ شيئًا اتِّقاءَ اللَّهِ، جَلَّ وعَزَّ، إلَّا أعطاكَ اللَّهُ خيرًا منهُ »

[b]من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه[/b]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فقد رُوِيَ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((مَنْ تَرَكَ شَيْئًا للهِ عَوَّضَهُ اللهُ خَيْرًا مِنْه)).
وهذا الحديث ضعيف لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ، وإن كان مشهورًا - لغويًا - عند كثير من الناس، وقد ثبت بِلَفْظٍ آخر

«إنَّكَ لن تدَعَ شيئًا اتِّقاءَ اللَّهِ، جَلَّ وعَزَّ، إلَّا أعطاكَ اللَّهُ خيرًا منهُ »
. الراوي: رجل من أهل البادية المحدث: الوادعي - المصدر: الصحيح المسند - الصفحة أو الرقم: 1523
خلاصة حكم المحدث: صحيح
=1&m[0]=0&s[0]=0&phrase=on&page=2]الدرر السنية

وهذا الحديث العظيم قد اشتمل على ثلاث جُمَل.

الأولى قوله: ((لن تدع شيئًا))، وهذا لفظ عام يشمل كل شيء يتركه الإنسان؛ ابتغاءَ وجه الله تعالى.

الثانية: قوله: ((اتقاء الله - عزَّ وجلَّ -))، هذه الجملة بَيَّن فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الترك لابد أن يكون ابتغاءَ مرضاة الله لا خوفًا من سُلْطان، أو حَيَاء من إنسان، أو عدم القدرة على التمكن منه، أو غير ذلك.

الثالثة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أبدله الله خيرًا منه))، وهذه الجملة فيها بيانٌ للجزاء

الذي يناله من قام بذلك الشرط، وهو تعويض الله للتارك خيرًا وأفضل
مما ترك، والعوض من الله قد يكون من جنس المتروك، أو من غير جنسه، ومنه الأنس بالله - عز وجل - ومحبته وطُمأنينة القلب وانشراح الصدر، ويكون في الدنيا والآخرة؛ كما عَلَّم اللهُ المؤمِنَ أن يدعو: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 201].


قال قتادة السدوسي: لا يقدر رجلٌ على حرام ثم يدعه، ليس به إلا مخافة الله - عز وجل -، إلا أَبْدَلَهُ في عاجل الدنيا قبل الآخرة.


وفي حديث أبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم - فيما يَرْوِيه عن ربه قال: ((يقول الله: إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أنْ يَعْمَلَ سَيئَةً فَلا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَة، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوا لَهُ حَسَنَة، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سُبْعُمَائَة))[2].


والأمثلة التي تُبيِّن عظيم خلف الله تعالى لعباده كثيرة جدًا، منها:

ما قصه الله تعالى عن نبي الله سليمان - عليه السلام - في سورة (ص)، وخلاصته: أنه كان محبًّا للجهاد في سبيل الله، ولذلك كانت عنده خيل كثيرة وكان يحبها حبًّا شديدًا، فاشتغل بها يومًا حتى فاتته صلاة العصر، فغربت الشمس قبل أن يصلي، فأمر بها فرُدَّتْ عليه، فضرب أعناقها وعراقبيها بالسيوف؛ إيثارًا لمحبة الله - عز وجل -، وقد كان ذلك جائزًا في شريعتهم.

فعَوَّضه الله - عز وجل - خيرًا منها الريح التي تجري بأمره رخاءً حيث أصاب، تقطع في النهار ما يقطعه غيرها في شَهْرَيْن.


وإليك الآيات فتدبر. قال تعالى:
{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ * وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص: 30: 36].


المثال الثاني: النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لما هاجروا تركوا ديارهم، وأموالهم لله تعالى، فعوَّضهم الله بأن جعلهم قادة الدنيا، وحُكَّام الأرض وفتح عليهم خزائن كِسْرَى وقيصر، ومَكَّنهم من رقاب الملوك والجبابرة، هذا مع ما يرجى لهم من نعيم الآخرة، فشكروا، ولم يكفروا، وتواضعوا ولم يتكبروا، وحكموا بالعدل بين الناس، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].

وتأمل قصة أحد هؤلاءِ المهاجرين، وهو صُهَيْب الرومي - رضي الله عنه -، فعن عِكْرِمة قال: لمَّا خرج صهيب مُهاجرًا تبعه أهل مكة، فنثل كنانته فأخرج منها أربعين سَهْمًا، فقال: "لا تَصِلُونَ إليّ حتَّى أضع في كُلِّ رجُلٍ منكم سهمًا، ثم أصير بعد إلى السيف، فتعلمون أني رجل، وقد خلفت بمكة قينتين فهما لكم.. ونزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فلمَّا رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أَبَا يَحْيَى رَبِحَ البَيْعُ، قَالَ: وتلا عليه الآية))[3].


المثال الثالث: نبي الله يوسف - عليه الصلاة والسلام - عُرِضَتْ عليه المغريات في أرقى صورها، فاستعصم فعصمه الله، وترك ذلك لله - عز وجل -؛ لأنَّ الله جعله من المخلصين، وأُوذِيَ بسبب ذلك؛ فاختار السجن على ما يدعونه إليه، فصبر واختار ما عند الله فعوضه الله تعالى أحسن العوض، فملَّكه على خزائن الأرض، وعلمه تأويل الرؤيا، فنعم المُعْطِي، ونعم المُعْطَى، ونعمت العَطِيَّة.

قال تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف: 33: 34].


وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 56].


والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ـــــــــــــــ


[2] صحيح البخاري (4/404) برقم (7501).
[3] مستدرك الحاكم (3/450) ورقم (1298) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وحسنه الشيخ مقبل الوادعي في كتابه الصحيح المسند من أسباب النزول (ص33).
منقول بتصرف

لمَّا خرجَ صهَيبٌ مهاجرًا تبِعَه أهلُ مكَّةَ ، فنَثَلَ كِنانتَهُ ، فأخرجَ مِنها أربعينَ سهمًا فقال : لا تصِلونَ إليَّ حتَّى أضعَ في كلِّ رجلٍ منكُم سهمًا ثمَّ أصيرَ بعدَه إلى السَّيفِ فتعلَمونَ أنِّي رجلٌ وقد خلَّفتُ بمكَّةَ قَينتَينِ فهُما لكُم قال : وحدَّثنا حمَّادُ بنُ سَلمةَ عن ثابتٍ عن أنسٍ نحوَه ونزلَت علَى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّمَ : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ الآيةُ . فلمَّا رآهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّمَ قال : أبا يحيَى رَبِحَ البَيعُ ، قال : وتلا عليهِ الآيةَ . الراوي: أنس بن مالك المحدث: الوادعي - المصدر: صحيح أسباب النزول - الصفحة أو الرقم: 40
خلاصة حكم المحدث: له طرق أخر أغلبها مراسيل وهي بمجموعها تزيد الحديث قوة وتدل على ثبوته
=1&m[]=0&s[]=0]الدرر السنية