يقول المؤرخ "جييون" : لقد كان القائد المسلم "صلاح الدين" هو رمز الفروسية و الأخلاق في العصور الوسطى ..
كان "صلاح الدين" يلهم فرسانه بتلك الأخلاق النبيلة ، فحدث في موقعة "أرسوف" أن ملك إنجلترا "ريتشارد قلب الأسد" كان يبارز أحد فرسان المسلمين ، فسقط فرسه صريعا أسفل منه و وقع "ريتشارد" على الأرض ، و بدلا من أن يجهز الفارس المسلم عليه قاضيا عليه و منهيا للمعركة ، إذا به ينسحب و يخبر "صلاح الدين" بالخبر ، فيرسل له فرسين قائلا : إن فرسان الإسلام لا تقتل من سقط أمامها أبدا ..
فكان من "ريتشارد" أن قال أنه يحارب فرسان بعراقة و أصالة بيت المقدس ..
و لقد قالها "دانبورت" بكل حيادية : لقد كان الفارس الصليبي يعود إلى دياره في أوروبا ، و رأس ماله وسط قومه هو ما يحفظه من قصص عن بطولة و أخلاق "صلاح الدين" ، و ينقل عن القس "هيبورد" قوله : لقد كان اكثر ما يؤرقنا أمام افتتان فرساننا به هو تبرير كيف لدين خاطيء مثل الإسلام أن يوجد نموذجا للكمال الأخلاقي و الإنساني بذلك الكمال التام ..
و لكننا عندما ننقل الخيط إلى المؤرخ "جيبون" قائلا : كان في العادة شفيقاً على الضعفاء ، رحيماً بالمغلوبين ، و كان يعامل خدمه أرق معاملة ، و يستمع بنفسه إلى مطالب الشعب جميعها ، و كانت قيمة المال عنده لا تزيد على قيمة التراب ، و لم يترك في خزانته الخاصة بعد موته إلا ديناراً واحداً ، و قد ترك لابنه قبل موته بزمن قليل وصية ، لا تسمو فوقها أية فلسفة مسيحية ..
و يروي "وليم الصوري" أن فتاة صليبية فقدت ولدها ، فنصحها القسوس بالذهاب إلى "صلاح الدين" الذي يأمر باستضافتها في مخيمات نساء المسلمين حتى يعثر على ولدها ، و قد كان ..
و في حطين التقى 12 ألف فارس مسلم يساندهم 10 آلاف من المشاة و المتطوعة ، أمام ستين ألف فارس من نخبة فرسان أوروبا ، و كانت النتيجة أنهم سقطوا جميعا ، نصفهم قتلى و النصف الثاني أسرى ، و كانت فاجعة أودت بحياة البابا "اوربان الثالث" قهرا و كمدا ..
و لو رجعنا إلى تفصيلات المعركة ، سنجدها محدودة في تيكتيكاتها و خططها و مناورتها ، و السبب يعود إلى طبيعة المقاتلين من كلا الجانبين ، فالجيشان عبارة عن صفوة فرسان زمانهم ، و الكر والفر ليس من أدبياتهم القتالية ، بل المبارزات الفردية و الطعن و الضراب و المواجهات المباشرة هي الفيصل في قتالهم ، و السبب يعود إلى افتقاد الجيشين الى العدد الضخم من المشاة و المتطوعة ، بل إن الجيشين كانا عبارة عن فرسان ثقيلة ، باستثناء بعض الفرق المساندة مثل الرماة و المشاة الثقيلة التدريع ، و لكن لماذا تندهش و أنت تعلم أن هذا العصر المجيد كان فيه أمثال الفرسان "قيمار النجمي" و "لؤلؤ الحاجب" و "تقي الدين عمر" و "كوكبوري" و غيرهم من زهرة فرسان الإسلام و أبطاله ..
حتى أن "ابن الأثير" يتحدث عن المعركة قائلا : إنك إن نظرت إلى عدد القتلى من الصليبيين ، ستشعر لأول وهلة أنه لا أسرى لهم ، و لو نظرت للأسرى ستوقن أنه لا قتلى لهم ، و هذا يعود إلى كفاءة و رفع مستوى الفرسان المسلمين ، لتعويض فارق العدد أمام الصليبيين ، و هو ما فشل فيه السلاجقة في مواجهاتهم الأولى مع الصليبيين في "ضورليوم" ، إذ كانت كفاءة الفرسان الثقيلة الصليبية و العدد هما عنصرا الحسم ، و لم تجد تكتيكات السلاجقة البارعة لها سبيلا في المواجهات الأولى ، مما جعل "صلاح الدين" يفطن للأمر و يستعد له بعد هزائمه الأولى في الرملة و في صيدا ..
لقد كان "صلاح الدين" رجلا مؤمنا تقيا صحيح العقيدة و الديانة ، و كان يعلم أن إقامة الأمة الإسلامية لن يكون إلا بشرطين اثنين ..
الأول هو تطهير الأمة الإسلامية من خبث الشيعة و إستئصال شأفتهم تماما ، و هنا نلقي الضوء على ما قاله "محمد جواد مغنية" في كتابه "الشيعة في الميزان" : و لولا سياسة الضغط و التنكيل التي اتبعها "صلاح الدين الأيوبي" مع الشيعة لكان لمذهب التشيّع في مصر اليوم و بعد اليوم شأنٌ أي شأن ..
الشرط الثاني هو توحيد الأمة الإسلامية تحت زعامة موحدة و قيادة صالحة لمواجهة أطماع الغرب في الأمة ..
لقد كان "صلاح الدين" قائدا تقيا لا يلبس إلا العباءة الخشنة من الصوف ، و كان يحلم بأداء فريضة الحج و لكنه خاف علي مشروعه الإسلامي من التأخير ، كما أورد ذلك المؤرخ "جيبون" ، و كيف أن هذا الكردي كان أول من فكر في توحيد الأمة ، بعيدا عن كلاب و حثالات القومية و الحدوية العربية ، و الذين لم نر من خلفهم إلا العار و الإندحار و القهر على يد زبالات البشر ، و كيف استطاع أن يقدم نموذجا أخلاقيا إنسانيا بقوة و نصر ، و ليس بهزيمة و كسر ، و بأفعال على أرض الواقع ، لا بأقوال و خطب فارغة للعدو ، و سجن و قتل و فقر و قهر لشعوبهم ..