دعوة للتأمل
للشيخ علي عبد الخالق القرني
(الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)
الحمد لله، أصبحت له الوجوه ذليلة عَانِيَة، وحذرته النُّفوس مجدّة ومتوانية، ذمَّ الدنيا إذا هي حقيرة فانية، وشوَّق لجنة قطوفها دانية، وخوَّف صرعى الهوى أن يُسقوا من عين آنية، أحمده على تقويم شانيه، وأستعينه وأستعيذه من شر كل شان وشانية، وأحصِّن بتحقيق التوحيد إيمانيه، أحمده وهو العليم العالم بالسِّر والعلانية، فالسر عنده علانية.
فهو العليم أحاط علمًا بالذي *** في الكون من سر ومن إعلان
وهو العليم بما يوسوس عبده *** في نفسه من غير نطق لسان
بل يستوي في علمه الداني *** مع القاصي وذو الإصرار والإعلان
فهو العليم بما يكون غدًا وما *** قد كان والمعلوم في ذا الآن
وبكل شي لم يكن لو كان كيف *** يكون موجودًا لذي الأعيان
فهو السميع يرى ويسمع كل ما *** في الكون من سرٍ ومن إعلان
فلكل صوت منه سمع حاضر *** فالسر والإعلان مستويان
والسمع منه واسع الأصوات لا *** يخفى عليه بعيدها والدَّاني
ويري دبيب النمل في غسق الدُّجى *** ويرى كذاك تقلُّب الأجفان
لهو البصير يرى دبيب النملة *** السوداء تحت الصَّخر والصَّوَّان
ويرى مجاري القوت في أعضائها *** ويرى نِيَاطَ عروقها بعيان
ويرى خيانات العيون بِلَحْظِها *** إي والذي برأ الورى وبَرَانِي
فهو الحميد فكل حمدٍ واقع *** أو كان مفروضًا على الأزمان
هو أهله سبحانه وبحمده *** كل المحامد وصف ذي الإحسان
فلك المحامد والمدائح كلها *** بخواطري وجوارحي ولساني
ولك المحامد ربنا حمًدا كما *** يرضيك لا يفنى على الأزمان
ملء السماوات العلا والأرض *** والموجود بعد ومنتهى الإمكان
مما تشاء وراء ذلك كله *** حمدًا بغير نهاية بزمان
وعلى رسولك أفضل الصلوات *** والتسليم منك وأكمل الرضوان
صلى الإله على النبي محمد *** ما ناح قُمْرِيٌ على الأغصان
وعلى جميع بناته ونسائه *** وعلى جميع الصَّحب والإخوان
وعلى صحابته جميعًا والأُلَى *** تبعوهم من بعد بالإحسان

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ)
أما بعد، أحبتي في الله، إنها دعوة، دعوة إلى التأمل، دعوة موجَّهة إلى القلوب الذاكرة، العابدة، الخاشعة، دعوة إلى من يتفكرون، ويسمعون، ويعقلون، ويؤمنون، ويفقهون، إلى أولي الألباب، إلى أولي الأبصار، إلى أولي الأحلام والنُّهَى، إلى من يتأملون، ويتدبرون فينتفعون، فلا عند حدود النظر المشهود للعيان يقفون، بل إلى قدرة القادر في خلقه ينظرون، ولسان حالهم ومقالهم: (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإليه تُرْجَعُونَ) ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم وكذلك يفعلون. وهي كذلك دعوة إلى الغافلين، السَّاهين، اللاهين، المعْرِضين، إلى من لهم عيون بها لا يبصرون، وآذان بها لا يسمعون، وقلوب بها لا يفقهون. إلى من هم كالأنعام يأكلون ويشربون ويتمتعون ولم يحققوا معنى إلاّ ليعبدون. إلى من هاجموا التوحيد ولم يفهموه، وهاجموا الإسلام ولم يعرفوه، ونقدوا القرآن ولم يقرؤوه. إلى من يمرُّون على آيات الله وهم عنها معرضون، إليهم هذه الدعوة؛ علَّهم يستيقظون، ويفقهون، ويعقلون، فيقدرون الله حقَّ قدره، لا إله إلا هو فأنى يؤفكون. (ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) إنها باختصار دعوة إلى العلم بالله علمًا يقود إلى خشيته ومحبته، فمن كان به أعلم كان له أخشى (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) وهي أيضًا دعوى لتعبد الله بمقتضى ذلك العلم، في تمام خضوع وذل ومحبة من طريقين اثنين؛ الأول: التدبر في آيات الله الشرعية المتلوة في كتابه العزيز، والثاني: النظر في مخلوقات الله، وآياته الكونية المشهودة (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْل وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) هي دعوة إلى التأمل في بديع صنع الله، وخلق الله، وبيان ما في هذا الكون من إبداع ينطق بعظمة الخالق جل وعلا، ووحدانيته في ربوبيَّته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته، كيف والكون كتاب مفتوح، يُقرأ بكل لغة، ويُدرك بكل وسيلة، يطالعه ساكن الخيمة، وساكن الكوخ، وساكن العمارة والقصر، كل يطالعه فيجد فيه زادًا من الحق إن أراد التطلع إلى الحق، إنه كتاب قائم مفتوح في كل زمان ومكان، تبصرة وذكرى لكل عبدٍ خضع وأناب، يأخذك كتاب الله إن تأمَّلته في جولات وجولات، ترتاد آفاق السماء، وتجول في جنبات الأرض والأحياء، يقف بك عند زهرات الحقول، ويصعد بك إلى مدارات الكواكب والنجوم، يفتح بصرك وبصيرتك إلى غاية إحكام وإتقان لا له مثيل، قد وضع كل شيء في موضع مناسب، وخُلِق بمقدار مناسب، يُرِيك عظمة الله، وقدرة الله، وتقديره في المخلوقات، ثم يكشف لك أسرار الخلق والتكوين، ويهديك إلى الحكمة من الخلق والتصوير، ثم يقرع الفؤاد بقوله: (أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) إن نظرت إليه بعين البصيرة طالعك بوحدانية الله في الربوبية مستدلا بها على وحدانيته في العبادة والألوهية، ذلَّت لعزة وجهه الثَّقلان. وفي نهاية الآيات، يقرع القلوب، ويطرق الآذان، ويصكُّ المشاعر والأحاسيس بذلك التعقيب الإلهي العظيم، لعلهم يذكَّرون، لعلهم يتفكرون، لعلهم يتَّقون، لعلهم يرجعون، كل هذا، وهناك من هم عنه معرضون، أم تحسب أنَّ أكثرهم يسمعون. إنه حديث طويل، يطالعك في طوال السور وقصارها، لكنه مع ذلك شائق جميل، تسكن له النفس، ويتلذَّذ به السمع، وتتحرك له الأحاسيس والمشاعر، تستجيب له الفِطَر السليمة المستقيمة، ومع ذا ينبِّه الغافل، ويدمغ المجادل المكابر؛ إذ هو حق، والحق يسطع ويقطع.
والحق شمس والعيون نواظر *** لا يختفي إلا على العميان
والشرع والقرآن أكبر عُدَّة *** فهما لقطع لجاجهم سيفان

فتعالَ معي أخي لجولة أرجو ألا يستطيلها مَلُول، وألا يستكثرها مشغول، نرتاد فيها هذا الكون بسماواته وأرضه وأحيائه، متأملين، متدبِّرين (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فاللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا، وأنت تجعل الحَزن إذا شئت سهلا.
تأمل في الوجود بعين فكر *** ترى الدنيا الدنيئة كالخيال
ومن فيها جميعًا سوف يفنى *** ويبقى وجه ربك ذو الجلال
تأمَّل واطعن برمح الحق كل معاندٍ *** واركب جواد العزم في الجولان


واجعل كتاب الله درعًا سابغًا *** والشرع سيفك وابْدُ في الميدانالسماء بغير عمدٍ ترونها من رفعها؟ بالكواكب من زيَّنها؟ الجبال من نصبها؟ الأرض من سطحها وذلَّلها وقال: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) الطبيب من أرداه، وقد كان يرجى بإذن ربه شفاه؟. المريض وقد يُئِس منه، من عافاه؟ الصحيح من بالمنايا رماه؟ البصير في الحفرة من أهواه؟ والأعمى في الزِّحام من يقود خُطَاه؟ الجنين في ظلماتٍ ثلاثٍ من يرعاه؟ الوليد من أبكاه؟ الثعبان من أحياه، والسُّم يملأ فاه؟! الشَّهد من حلاَّه؟ اللبن من بين فرث ودم من صفَّاه؟ الهواء تحسُّه الأيدي ولا تراه من أخفاه؟ النَّبت في الصحراء من أرْبَاه؟ البدر من أتمَّه وأسراه؟ النخل من شقَّ نواه؟ الجبل من أرساه؟ الصخر من فجَّر منه المياه؟ النهر من أجراه؟ البحر من أطغاه؟ الليل من حاك دُجَاه؟ الصُّبح من أسفره وصاغ ضحاه؟ النوم من جعله وفاة؟ واليقظة منه بعثًا وحياة؟!! العقل من منحه وأعطاه؟ النحل من هداه؟ الطير في جو السماء من أمسكه ورعاه؟ في أوكاره من غذَّاه ونمَّاه؟ الجبار من يقصمه؟ المظلوم من ينصره؟ المضطَّر من يجيبه؟ الملهوف من يغيثه؟ الضال من يهديه؟ الحيران من يرشده؟ العاري من يكسوه؟ الجائع من يشبعه؟ الكسير من يجبره؟ الفقير من يغنيه؟. أنت، أنت مَنْ خلقك؟ من صوَّرك؟ من شق سمعك وبصرك؟ من سوَّاك فعَدَلَك؟ من رزقك؟ من أطعمك؟ من آواك ونصرك؟ من جعل ملايين الكائنات ترتادُ وأنت لا تشعر فَمَك؟ ولو اختفت لاختلفت وظائف فمك. من هداك؟ إنه الله الذي أحسن كل شيء خلقه. لا إله إلا هو. أنت من آياته، والكون من آياته، والآفاق من آياته، تشهد بوحدانيته. إن تأملت ذلك عرفت حقًا كونه موحدًا خالقًا؟ وكونك عبدًا مخلوقًا، الكون كتاب مسطور ينطق تسبيحًا وتوحيدًا، وذراته تهتف تمجيدًا: (هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ)

لله في الآفاق آيات لعل *** أقلها هو ما إليه هداك
ولعل ما في النفس من آياته *** عجب عجاب لو ترى عيناك
والكون مشحون بأسرار إذا *** حاولْتَ تفسيرًا لها أعياك
قل للطبيب تخطَّفته يد الردى *** من يا طبيب بطبِّه أرْدَاك؟
قل للمريض نجا وعُوفيَ بعدما *** عجزت فنون الطب من عافاك؟
قل للصحيح يموت لا من علة *** من بالمنايا يا صحيح دهاك؟
قل للبصير وكان يحذر حفرة *** فهَوَى بها من ذا الذي أهواك؟
بل سائل الأعمى خَطَا بين الزحام *** بلا اصطدام من يقود خطاك؟
قل للجنين يعيش معزولا بلا *** راعٍ ومرعى ما الذي يرعاك؟
قل للوليد بكى وأجهش بالبكاء *** لدى الولادة ما الذي أبكاك؟
وإذا ترى الثعبان ينفث سمَّهُ *** فاسأله من ذا بالسموم حَشَاكَ؟
واسأله كيف تعيش يا ثعبان *** أو تحيى وهذا السمُّ يملأ فَاكَ؟
واسأل بطون النَّحل كيف تقاطرت *** شهدًا وقل للشهد من حلاَّك؟
بل سائل اللبن المُصَفَّى كان *** بين دم وفرث ما الذي صفَّاك؟
وإذا رأيت الحي يخرج من *** حَنَايا ميتٍ فاسأله من أحياك؟
قل للهواء تحثُّه الأيدي ويخفى *** عن عيون الناس من أخفاك؟
قل للنبات يجفُّ بعد تعهُّدٍ *** ورعاية من بالجفاف رَمَاك؟
وإذا رأيت النَّبت في الصحراء *** يربو وحده فاسأله من أَرْبَاكَ؟
وإذا رأيت البدر يسري ناشرًا *** أنواره فاسأله من أسْرَاك؟
واسأل شعاع الشمس يدنو وهي *** أبعد كل شيء ما الذي أدناك؟
قل للمرير من الثمار من الذي *** بالمرِّ من دون الثمار غذاك؟
وإذا رأيت النخل مشقوق النوى *** فاسأله من يا نخل شقَّ نواك؟
وإذا رأيت النار شبَّ لهيبها *** فاسأل لهيب النار من أوراك؟
وإذا ترى الجبل الأشَمَّ مناطحًا *** قِمَمَ السَّحاب فسَلْه من أرساك؟
وإذا ترى صخرًا تفجر بالمياه *** فسله من بالماء شقَّ صَفَاك؟
وإذا رأيت النهر بالعذب الزُّلال *** جرى فسَلْه من الذي أجراك؟
وإذا رأيت البحر بالملح الأُجاج *** طغى فسَلْه من الذي أطغاك؟
وإذا رأيت الليل يغشى داجيًا *** فاسأله من يا ليل حاك دُجاك؟
وإذا رأيت الصُّبح يسفر ضاحيًا *** فاسأله من يا صبح صاغ ضُحَاك؟
ستجيب ما في الكون من آياته *** عجب عجاب لو ترى عيناك
ربي لك الحمد العظيم لذاتك *** حمدًا وليس لواحد إلاَّك
يا مدرك الأبصار والأبصار *** لا تدري له ولِكُنْهِهِ إدراكًا
إن لم تكن عيني تراك فإنني *** في كل شيء أستبين عُلاك
[ ]