منافع الحج الروحية
الدكتور حسين حسين شحاتة أستاذ الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر
الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام ، ولكن تجتمع فيه كل شعائر العبادات ، ففيه يعلن الناس الشهادة بالوحدانية لله سبحانه وتعالى ولا حاكمية لغيرة يقولون : " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك " ،
وفيه تؤدى الصلاة طوعاً لله ورجاء : " رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " ،
وفيه ينفق الناس المال على حبه ابتغاء مرضات الله يرجون تجارة لن تبور ...
وفيه يجاهد الناس بالمال والنفس ...
وبكل نفيس فى سبيل الفوز بالجنة التى وعد الله بها عباده المؤمنين .
والحج مدرسة روحية، تصقل فيها النفوس، وتستنير فيها الأفئدة، وتطمئن فيها القلوب وتطهر فيها الأحاسيس، وتقوى فيها المعنويات، كما تعمل على توحيد المسلمين على كلمة لا إله إلاّ الله محمد رسول الله.
ففى الحج منافع روحية عظيمة، منها:
أولاً : استشعار القلوب بواحدنية الله، حيث يستشعر الناس فى شعيرة الحج بوحدانية الله سبحانه وتعالى وذلك من خلال وحدة المناسك والمشاعر والقصد والسعى والقول والدعاء، الجميع مسلمون يطوفون ببيت واحد، ويعبدون إلهاً واحداً، ويتبعون رسولاً واحداً، وينتهجون منهجاً واحداً،
كل هذا تجسيد حقيقى لمدلول :" لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير، لا إله إلاّ الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ".
إن هذا الشعور يترك فى نفوس المسلمين أهمية الوحدة والعمل فى ظل جماعة واحدة حتى يتمكنوا من الانتصار على أعدائهم ...
ويكونوا بحق خير أمة أخرجت للناس، وذلك مصداقاً لقوله تعالى : "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا".
ثانياً : تعويد النفس على الطاعة والامتثال لأمر الله: فالحج فرض فى العمر مرة على كل مسلم ومسلمة لمن استطاع ذلك، ومن ينكر فرضية الحج فقد كفر، وأصل ذلك قول الله تبارك وتعالى:"وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً"، وتأسيساً على فرضية الحج نجد أن الحجاج يؤدون المناسك مثل : الطواف، والوقوف بعرفه، والسعى، والحلق والتقصير، والهدى ...
وغير ذلك من النسك دون نقاش أو جدل، بل طاعة وامتثالاً واستسلاماً لأمر الله سبحانه وتعال، وفى هذا تعويد للنفس البشرية على الالتقاء على طاعة الله والاتحاد على دعوته، ولقد وعد الله سبحانه وتعالى أصحاب هذه النفوس المطيعة والمستسلمة له بالجنة،
فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "الحجاج والعمار وفد الله عز وجل وزواره إن سألوه أعطاهم وإن استغفروه غفر لهم وإن دعوا استجيب لهم وإن شفعوا شفعوا".
ثالثاً: تزويد القلوب بالإيمان والتقوى، فمن منافع الحج الروحية التزود بالتقوى، ولقد بين الله سبحانه وتعالى ذلك بقوله : "لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ"،
وقال أيضاً : "ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ"، ولقد ورد فى تفسير هذه الآيات أن من أهم مقاصد أداء مناسك الحج هو " استشعار التقوى والتزود منها "،
فقد ورد فى ظلال القرآن فى هذا الشأن: "إن التقوى زاد القلوب والأرواح منه تقتات وبها وترى وتشرق وعليها تستند فى الوصول والنجاة وأولوا الألباب هم أول من يدرك التوجيه إلى التقوى وخير من ينتفع بهذا الزاد".
فالحج مناسبة طيبة ومباركة لتزويد القلوب بالتقوى وهو خير الزاد.
رابعاً : اختبار قوة الإيمان، فلا شك أنمن أهم غرائز النفس البشرية حب الشهوات من النساء والبنين والأموال والتمتع بلذائذ الحياة الدنيا المختلفة، وفى الحج يترك الناس هذه اللذائذ وينسون رغبات الدنيا ويتجنبون الشهوات ..
ففى ذلك اختبار على قوة الإيمان وصدق العقيدة والإخلاص فى حب الله ورسوله ، فالحجاج أثناء أداء المناسك ويؤمنون إيماناً بأن اتقاء الله والعمل على الفوز برضائه وغفرانه خير من تلك الشهوات الزائلة ويتذكرون قول الله تبارك وتعالى: "وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ لِّلَّهِ"،
كما أنهم يحسون بحلاوة الإيمان ولقد قال عن هؤلاء الرسول صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلاّ الله وأن يكره أن يعود فى الكفر كما يكره أن يقذف فى النار"، ولذلك يعتبر الحج المبرور من مقاييس صدق العقيدة وقوة الإيمان.
خامساً : تطهير النفس من مظاهر الكبرياء والعظمة، حيث يلبس الحجاج ملابس بسيطة، يستبدل الغنى الفاخر الثمن من الثياب بثوبين لا زينة ولا زخرفة فيهما كما يقف أمام الله سبحانه وتعالى متجرداً من كل مظاهر الحياة الدنيا الزائلة يتذكر يوم لقاء الله،
وهذا يطهر النفس البشرية من الكبرياء والعظمة والغرور والتفاخر بالأنساب والألقاب، كما يعود النفس البشرية على التواضع حتى لا يبغى أحد على أحد ولا يفخر أحد متذكرين قول الله تبارك وتعالى:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ.."
سادساً : التعويد على الجهاد، فقد خلق الله سبحانه وتعالى فى النفس البشرية نوازع الخير والشر، فقال تعالى:"وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا"،
فالإنسان قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشر، ولذلك يجب على المسلم أن يستخدم القدرة الكامنة فى كيانه فى توجيه نفسه إلى الخير، وذلك عن طريق كثرة الذكر والطاعات والالتزام بالطريق المستقيم ، ويعتبر ذلك من أنواع جهاد النفس الأمارة بالسوء.
ويعتبر الحج من وسائل تزكية النفس وتطهيرها وتنمية استعدادها للسير فى طريق الخير ، فالحجاج يضحون بالمال مع حبه ، ويتجنبون الشهوات مع لذائذها ، ويركبون الصعاب ويعانون من المتاعب، فى سبيل أداء تلك الفريضة ليفوزوا برضاء الله،
فهذا يعتبر نوعاً من أنواع جهاد النفس ولقد أكد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد روى البخارى عن السيدة عائشة رضى الله عنها أنها قالت: "يا رسول الله نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لكن أفضل الجهاد حج مبرور" ،
وعن ابن خزيمه فى صحيحه ، قالت السيدة عائشة رضى الله عنها: " قلت يا رسول الله، هل على النساء من جهاد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: عليهن جهاد لا قتال فيه ... الحج والعمرة".