الخطيئة والإنسان اسمان بينهما من التلازم مثل الذي بين الشمس والظل، فالخطيئة تكاد تكون من طبيعة الإنسان وجبلته، وقد تعامل الإسلام مع العصاة بمنطق جمع بين الحكمة والرحمة فهو لم يطرد العصاة من رحمة الله، بل أمرهم بالتوبة والرجوع إليه، وحذرهم من المعاصي، وتوعدهم بالعقاب.
وقد كان العاصي يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيعاتبه، ويأتيه آخر فيأمر بإقامة الحد عليه، ويأتيه آخر فيأمره بالتوبة والرجوع إلى الله، كل حسب معصيته وحكمها، إلا أن الثابت تواتراً أنه – صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعامل العصاة كما يعامل المرتدين الخارجين عن الإسلام، ولا أدل على ذلك من إقامة الحدود الشرعية فعلى الرغم من أن كل ما ترتب عليه حد فهو من الكبائر، إلا أن الشرع عاقب كل جريمة بحسبها، فالسارق تقطع يده، وشارب الخمر يجلد، وكذلك الزاني غير المحصن، ولو كانت هذه الكبائر كفراً لوجب قتل هؤلاء جميعاً ما لم يتوبوا .
وفي قصة ماعز والغامدية أعظم دلالة على ذلك، فقد جاء ماعز إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – معترفاً بذنبه، فقال: ( إني زنيت، فأعرض عنه النبي - عليه الصلاة والسلام - حتى شهد على نفسه أربع شهادات، فأقبل عليه النبي قائلاً: أبك جنون ؟ قال: لا، يا رسول الله، فقال: أتزوجت، قال: نعم يا رسول الله، فقال النبي للصحابة: اذهبوا به، فارجموه ) رواه البخاري ، وتخلف ثلاثة من الصحابة عن غزوة تبوك في وقت كان النفير فيه عاماً، وكان الجهاد واجباً على كل قادر، فلما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - واعتذر المنافقون عن تخلفهم، شعر هؤلاء الصحابة بعظم ما اقترفوا من التخلف عن النبي – صلى الله عليه وسلم – والجهاد معه، فاعترفوا بذنبهم، وأدركوا خطأهم، فأعرض عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم – وهجرهم عقوبة لهم، غير أنه لم يعاملهم معاملة المرتدين الكافرين .
ومضى على هذا النهج الخلفاء الراشدون، مستندين في تعاملهم مع أصحاب الكبائر على ما دلت عليه دلائل الكتاب والسنة، وما علموه من سيرة نبي الأمة .
حيث دلَّ القرآن في آيات كثيرة على عدم كفر العصاة كقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان }(البقرة: 78) فقد سمى الله القاتل أخاً في الدين، ولو كان كافرا لنفى عنه الأخوة الإيمانية .
وقوله تعالى: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون }(الحجرات: 9) فقد أثبت الله الإيمان للطائفتين المتقاتلين رغم كون إحداهما باغية، والبغي - ولا سيما في دماء المؤمنين - من أعظم الكبائر وأشنعها، ومع ذلك سمى الله المتصفين به مؤمنين، ودعاهم إلى الصلح والتوبة .
ومن الآيات الدالة على عدم تكفير مرتكبي الكبائر، قوله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }(النساء: 48) حيث قسّم سبحانه الذنوب إلى قسمين: ذنوب لا يغفرها الله - لمن مات مصراً عليها - وهي الشرك، وذنوب أصحابها تحت مشيئة الله، إن شاء غفر لهم، وإن شاء عاقبهم، ولا شك أن السرقة، وشرب الخمر، وقتل النفس المعصومة، ذنوب دون الشرك، ولا يمكن مساواتها به، فأصحابها تحت مشيئة الله إن شاء عذبهم فترة من الزمن، ثم يخرجهم من النار بتوحيدهم على ما دلت عليه أحاديث الشفاعة، وإن شاء عفا عنهم وأدخلهم الجنة برحمته .
هذه بعض أدلة القرآن الكريم على عدم تكفير مرتكبي الكبائر، أما أدلة السنة فكثيرة جداً، بلغت مبلغ التواتر، فمنها حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لجماعة من أصحابه: ( بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه ) فبايعناه على ذلك . متفق عليه . وهو حديث صحيح صريح بيّن فيه النبي - صلى الله عليه وسلم – أن أصحاب الكبائر من السراق والزناة والقتلة إن أقيم عليهم الحد في الدنيا فهو كفارة لهم عن خطاياهم، وإن قدموا على الله بتلك الذنوب فهم تحت مشيئته إن شاء عفا عنهم، وإن شاء عاقبهم، ودخولهم تحت المشيئة دليل على عدم كفرهم، لأن مصير الكفار محسوم، وهو النار وبئس المصير .
ومن أدلة السنة على عدم تكفير أصحاب الكبائر، حديث أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق، على رغم أنف أبي ذر ) متفق عليه . وهو حديث صريح في أن هذه الكبائر لا تبطل التوحيد، ولا تحول دون دخول الموحد الجنة، حتى وإن عوقب عليها .
ومن الأدلة أيضاً حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( خمس صلوات كتبهن الله على العباد، من جاء بهن لم يضيع منهن شيئاً، استخفافاً بحقهن، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة ) رواه أبو داود و النسائي . فترك الصلاة من أكبر الكبائر عند الله، ومع ذلك فقد نص الحديث على أن التارك لها تحت مشيئة الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له .
ومنها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: ( أتدرون من المفلس ؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له، ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار ) رواه مسلم . فقد أثبت النبي – صلى الله عليه وسلم - أن الظالم الذي سفك الدماء، وقذف العفيفات، وأكل أموال الناس بالباطل، قد تكون له حسنات يُقْتَصُّ للناس منها، ولو كان كافراً لم تكن له حسنات، لأن الكفر يبطل كل عمل صالح، كما قال تعالى: { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون }(الأنعام: 88) .
ومن الأحاديث أيضاً حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول: قال الله: ( يا بن آدم: إنك لو أتيتني بقراب الأرض – ما يقارب ملأها - خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة ) رواه الترمذي . ولا شك أن من لقي الله بالمعاصي كالزنا والسرقة والقتل لم يلقه مشركاً، فهو داخل تحت هذا الوعد الإلهي بالمغفرة والصفح .
ومن الأدلة أيضاً على عدم كفر أصحاب الكبائر أحاديث الشفاعة، وهي أحاديث تنص على خروج طوائف من عصاة الأمة من النار بعد أن دخلوها بذنوبهم، كحديث
أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال – بخطاياهم، فأماتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر – أي جماعات - فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل ) رواه مسلم . وحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير ) رواه البخاري ومسلم ، وهي أحاديث صحيحة نص العلماء على تواترها منهم شيخ الإسلام ابن تيمية ، والحافظ ابن حجر العسقلاني ، و السخاوي ، والقاضي عياض وغيرهم، يقول الإمام البيهقي في "شعب الإيمان" : " وقد ورد عن سيدنا المصطفي - صلى الله عليه وسلم - في إثبات الشفاعة وإخراج قوم من أهل التوحيد من النار، وإدخالهم في الجنة أخبار صحيحة قد صارت من الاستفاضة والشهرة بحيث قاربت الأخبار المتواترة، وكذلك في مغفرة الله تبارك وتعالى جماعة من أهل الكبائر دون الشرك من غير تعذيب فضلا منه ورحمة والله واسع كريم " .
أدلة الخوارج في تكفير عصاة الأمة
وبناء على ما سبق قد يسأل سائل إذا كانت أدلة أهل السنة والجماعة على عدم تكفير أصحاب الكبائر بهذه الكثرة، وبهذا الوضوح، فعلى ماذا اعتمد من خالفهم ؟ وكيف تأتّى لمخالفيهم تكفير عصاة الأمة وفساقها ؟
والجواب عن هذا أن أول من ابتدع القول بكفر أصحاب الكبائر هم الخوارج، وكان كلامهم ونقدهم – في بدايته - مسلطاً على الحكام، الذين وقعت منهم معاص استحقوا الكفر بسببها – من وجهة نظرهم –، فكفَّر الخوارج الحكام أولاً، ثم عمموا القول بالتكفير على كل أصحاب الكبائر، وبذلك يظهر أن مسلك التكفير لم يكن مسلكا علميا بحتا قاد إليه الكتاب والسنة، وإنما كان مسلكاً قادت إليه الحماسة الزائدة، وظروف الحرب السائدة آنذاك بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما –.
ثم تطورت الفكرة بعد ذلك، واضطر أصحابها إلى الاستدلال لها من الكتاب والسنة، فزعموا أن القرآن والسنة مليئان بأدلة تكفير العصاة، وذكروا كثيرا من الأمثلة والتي يمكن تقسيمها إلى أقسام:
القسم الأول: أدلة تخليد العصاة في النار: كقوله تعالى: { بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } (البقرة:81 ) فقالوا إن لفظ "سيئة " نكرة في سياق الشرط فتعم كل سيئة، وأصحاب الكبائر مرتكبون للسيئات بلا شك فهم خالدون في النار بحسب استدلالهم .
ومما استدلوا به قوله تعالى: { ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين }(البقرة: 275) حيث نصت الآية على أن العصيان وتجاوز حدود الله موجب للعذاب والخلود في النار، ولا يخلد في النار إلا كافر .
وذكروا أيضاً بعض الأدلة الخاصة التي تؤيد عموم الآيات السابقة، منها قوله تعالى في أكلة الربا: { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }(البقرة: 275). وقوله في قاتل المؤمن: { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما }(النساء: 93) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في قاتل نفسه: ( من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ – يطعن - بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا، ومن شرب سماً فقتل نفسه فهو يتحساه – يشربه - في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا ) رواه مسلم .
القسم الثاني: أدلة تنفي دخول أصحاب المعاصي الجنة: كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ( لا يدخل الجنة قاطع رحم ) رواه مسلم ، وقوله: ( لا يدخل الجنة نمام ) رواه مسلم . وقوله: ( لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ) رواه مسلم ، وقوله: ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ) رواه مسلم . وغيرها من الأحاديث التي تنفي دخول العصاة الجنة .
القسم الثالث: أدلة تصرّح بكفر بعض أصحاب الكبائر: كقوله - عليه الصلاة والسلام – ( أيما عبد أبق – هرب - من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم ) رواه مسلم ، وقوله : ( من أتى حائضاً، أو امرأة في دبرها، أو كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد ) رواه الترمذي ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ) رواه الترمذي وقوله: ( لا ترغبوا عن آبائكم فإنه من رغب عن أبيه فقد كفر ) رواه ابن حبان وغيرها من الأحاديث التي فيها التصريح بتكفير من أذنب ذنبا معيناً.
القسم الرابع: أدلة تنفي الإيمان عمن ارتكب بعض الكبائر، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) متفق عليه، وكقوله : ( لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له ) رواه أحمد ، وكقوله : ( والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن قيل: من يا رسول الله ؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه – شره - ) رواه البخاري .
الرد على شبهات الخوارج في تكفير أصحاب الكبائر
والرد على ما ذكروه من أدلة في القسم الأول من أوجه:
الوجه الأول: أن جميع الأدلة التي احتجوا بها أدلة عامة، وأدلة أهل السنة أدلة خاصة، والخاص يقدم على العام .
الوجه الثاني: أن أدلتهم التي استدلوا بها لم يقولوا هم أنفسهم بعمومها، بل أخرجوا من عمومها صغائر الذنوب فلم يُكفِّروا بها، وإذا جاز إخراج صغائر الذنوب من عموم تلك الأدلة وتخصيصها بأدلة أخرى، فلم لا يجوز إخراج أصحاب الكبائر للأدلة الكثيرة والمتواترة التي تصرح بعدم كفر مرتكب الكبيرة .
الوجه الثالث: أن اعتمادهم على هذه مبني على تصورهم أن الخلود المنصوص عليه فيها يُقصد به الخلود الأبدي الذي لا ينقطع، وهو تصور مردود لأن الخلود يطلق ويراد به الخلود الأبدي السرمدي، ويطلق ويراد به المكث الطويل، تقول العرب في الرجل المسن إِذا بقـي سواد رأْسه ولـحيته علـى الكبر: إِنه لـمخـلِد، ويقال للرجل إِذا لـم تسقط أَسنانه من الهرم: إِنه لـمخـلِد . وإذا كان معنى الخلود يحتمل كل هذه المعاني فمن المتعين حمله في الآيات التي استدلوا بها على الخلود غير الأبدي وذلك للجمع بين الأدلة .
وقد يعترض على هذا بأنه إذا جاز حمل الخلود الوارد في النصوص السابقة على الخلود غير الأبدي، فكيف يصح حمله إذا اقترن الخلود بالأبد كقوله – صلى الله عليه وسلم – في القاتل نفسه : ( فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا ) والجواب عن هذا من وجهين:
الوجه الأول: أن يضمّن معنى الاستحلال، فيكون المعنى أن من قتل نفسه مستحلا قتلها، فهو كافر، والكافر خالد في النار خلودا أبدياً.
الثاني: أن المنتحر قد يقع في الكفر إذا يأس من فرج الله، وقنط من رحمته، فاعتقد أن الله غير قادر على تفريج همه، وإذهاب غمه، وبهذا الاعتقاد يستحق الخلود الأبدي في النار على كفره، قال تعالى: { ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون }(يوسف:87) أي لا ينقطع رجاؤكم في ربكم، ولا أملكم في رحمته، فإن ذلك شأن الكافرين الذين لا يعتقدون عموم قدرة الله عز وجل وشمولها لكل شيء .
أما الرد على ما ذكروه من أدلة في القسم الثاني والتي تنص على عدم دخول بعض أصحاب المعاصي الجنة، فليست صريحة في كفرهم، وخروجهم عن الإسلام، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يقل: إنهم لن يدخلوا الجنة مطلقاً، بل يحتمل كلامه أنهم لن يدخلوها مع أوائل الداخلين، بل سيدخلونها متأخرين عن غيرهم ؟ ويحتمل أنهم سيدخلونها بعد عقوبة وعذاب ؟ كل هذه الاحتمالات واردة . والذي يرجح أحدها هو النظر في الأدلة الأخرى، والتي دلت على أنه لن يخلد في النار موحد كما في أحاديث الشفاعة . وعليه يجب حمل هذا القسم من الأدلة على غيرها من الأدلة المصرحة بخروج الموحدين من النار .
على أن هناك محملاً آخر يمكن حمل كل تلك الأدلة عليه، وهو بتضمين معنى الاستحلال فيها، فيكون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا يدخل الجنة قاطع رحم، أي: لا يدخل الجنة من استحل قطيعة الرحم، ولا يدخل الجنة من استحل النميمة، ولا يدخل الجنة من استحل أذية جاره، ولا يدخل الجنة من استحل الكبر وهكذا، فيتعلق الحكم بعدم دخول الجنة مطلقا لمن استحل معلوما من الدين بالضرورة لأنه بذلك يكون كافرا لتكذيبه الله في حكمه .
أما الردُّ على ما ذكروه من أدلة القسم الثالث: وهو التصريح بكفر بعض أصحاب الكبائر، كالعبد الآبق، ومن انتسب لغير والده مع علمه به، ومن أتى حائضاً وغيرهم، فهي كذلك ليست صريحة في الحكم بالكفر المخرج من الملة، إذ من المعلوم أن الكفر في نصوص الشرع كفران: كفر مخرج من الإسلام، وكفر غير مخرج منه، وعليه فليس كل ذنب أطلق الشارع عليه كفراً يكون صاحبه كافراً خارجاً من الدين، بدليل أن الشرع أطلق الكفر على جحود الزوجة حق زوجها، وليس ذلك بكفر مخرج من الإسلام، وأطلق الكفر على جحد النعم وعدم شكرها، كما في قوله تعالى: { لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد }(إبراهيم:7) . وعليه فلفظ الكفر لا يعني بالضرورة الكفر المخرج من الملة، وإنما قد يستعمل في غيره، وبالتالي فلا يصح الاستدلال بما ذكروا من أدلة على تكفير أصحاب الكبائر، لجواز حملها على كفر النعمة والكفر الأصغر، وهو ما يقتضيه واجب الجمع بين الأدلة، والمصير إلى هذا التأويل هو من باب تقديم الدليل الأقوى على ما دونه فأدلة عدم تكفير أصحاب الكبائر تمتاز بأنها قطعية ومتواترة وإجماع السلف على وفقها، فكل دليل يخالفها يجب تأويله وحمله على ما يتفق وهذه النصوص .
أما الرد على ما ذكروه من أدلة في القسم الرابع من أن نصوص الشرع نفت الإيمان عن بعض أصحاب الكبائر فيقال: إن نفي الإيمان لا يقتضي الكفر بإطلاق، وإنما يطلق ويراد به نقصان الإيمان وعدم كماله، والدليل على ذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم - وإن نفى الإيمان في قوله: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) فقد أثبته في موضع آخر حين قال: ( ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق ) ومقتضى الجمع بين النصوص أن يقال إن ما نفاه النبي - صلى الله عليه وسلم - غير ما أثبته فالذي نفاه هو كمال الإيمان والذي أثبته هو أصل الإيمان الواجب .
والتعبير بنفي الشيء وإرادة نفي الكمال أمر معروف في استعمال الناس كما يقال: لا سعادة في هذه الحياة، والمراد نفي كمال السعادة لا مطلق السعادة، وكما يقال لا خير في هذا الولد، والمراد نفي كمال الخير لا مطلق الخير، وعليه فكل حديث ورد فيه نفي الإيمان عمن ارتكب كبيرة فلا يقتضي التكفير بإطلاق، وإنما المراد به نفي كمال الإيمان والتحذير من المعاصي لكونها تنقص إيمان المؤمن .
وبهذا يظهر بطلان مذهب الخوارج وغيرهم ممن وافقهم في تكفير أصحاب الكبائر، والذي أدى بهم إلى تكفير عموم الأمة واستحلال دمائها وأموالها .
ولا يخفى ما جرَّ هذا المذهب على الأمة من بلاء وفتن وآثار مدمرة، والعجب بعد ذلك أن يأتي من يدعي أن مذهب أهل السنة كان سببا في انتشار المعاصي في عموم الأمة، فانتشر الزنا والربا وشرب الخمور وغيرها، وهو قول لا ينم عن معرفة بمذهب أهل الحق، وإنما يدل على غرض سيء في التشنيع عليهم دون حجة أو برهان، ولو تأمل هذا القائل مذهب أهل السنة لما قال ما قال، فأهل السنة لم يقولوا: أن مجرد الإيمان يكفي، أو أن الذنوب لا تضر من عملها، كما تقول بذلك المرجئة، ولم يقولوا إن العاصي لا يعذب مطلقاً، وإنما مذهبهم أن العاصي تجب معاقبته في الدنيا زجراً له وليعتبر به غيره، وأنه مستحق للعقوبة في الآخرة، وأن جزءاً كبيراً من العصاة سيدخلون جهنم فترة قد تطول أو تقصر كل حسب ذنبه، ولا شك أن مجرد تصور دخول النار يبث الخوف والرهبة في قلوب المسلمين وله أثره البالغ في التحذير من الذنوب والمعاصي .
ثم إننا لو نظرنا إلى أثر مذهب تكفير العصاة على الأمة لوجدنا أن كثيراً من الناس لا يكاد يخلو عن كبيرة يقترفها، والعاصي إذا وجد أنه كلما فعل كبيرة خرج من الإسلام، ربما دخل عليه الشيطان من هذا المدخل فوسوس له بالقول: إذا كنت كلما دخلت الإسلام خرجت منه، فلا أنت قادر على الكف على المعاصي، ولا أنت باق على الإسلام، فلم التعب والمشقة، فخير لك أن تبقى على كفرك !!. فبذلك تفسد الأمة وتخرج من دينها ويعم الباطل وينتشر .
وقد كان العاصي يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيعاتبه، ويأتيه آخر فيأمر بإقامة الحد عليه، ويأتيه آخر فيأمره بالتوبة والرجوع إلى الله، كل حسب معصيته وحكمها، إلا أن الثابت تواتراً أنه – صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعامل العصاة كما يعامل المرتدين الخارجين عن الإسلام، ولا أدل على ذلك من إقامة الحدود الشرعية فعلى الرغم من أن كل ما ترتب عليه حد فهو من الكبائر، إلا أن الشرع عاقب كل جريمة بحسبها، فالسارق تقطع يده، وشارب الخمر يجلد، وكذلك الزاني غير المحصن، ولو كانت هذه الكبائر كفراً لوجب قتل هؤلاء جميعاً ما لم يتوبوا .
وفي قصة ماعز والغامدية أعظم دلالة على ذلك، فقد جاء ماعز إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – معترفاً بذنبه، فقال: ( إني زنيت، فأعرض عنه النبي - عليه الصلاة والسلام - حتى شهد على نفسه أربع شهادات، فأقبل عليه النبي قائلاً: أبك جنون ؟ قال: لا، يا رسول الله، فقال: أتزوجت، قال: نعم يا رسول الله، فقال النبي للصحابة: اذهبوا به، فارجموه ) رواه البخاري ، وتخلف ثلاثة من الصحابة عن غزوة تبوك في وقت كان النفير فيه عاماً، وكان الجهاد واجباً على كل قادر، فلما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - واعتذر المنافقون عن تخلفهم، شعر هؤلاء الصحابة بعظم ما اقترفوا من التخلف عن النبي – صلى الله عليه وسلم – والجهاد معه، فاعترفوا بذنبهم، وأدركوا خطأهم، فأعرض عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم – وهجرهم عقوبة لهم، غير أنه لم يعاملهم معاملة المرتدين الكافرين .
ومضى على هذا النهج الخلفاء الراشدون، مستندين في تعاملهم مع أصحاب الكبائر على ما دلت عليه دلائل الكتاب والسنة، وما علموه من سيرة نبي الأمة .
حيث دلَّ القرآن في آيات كثيرة على عدم كفر العصاة كقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان }(البقرة: 78) فقد سمى الله القاتل أخاً في الدين، ولو كان كافرا لنفى عنه الأخوة الإيمانية .
وقوله تعالى: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون }(الحجرات: 9) فقد أثبت الله الإيمان للطائفتين المتقاتلين رغم كون إحداهما باغية، والبغي - ولا سيما في دماء المؤمنين - من أعظم الكبائر وأشنعها، ومع ذلك سمى الله المتصفين به مؤمنين، ودعاهم إلى الصلح والتوبة .
ومن الآيات الدالة على عدم تكفير مرتكبي الكبائر، قوله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }(النساء: 48) حيث قسّم سبحانه الذنوب إلى قسمين: ذنوب لا يغفرها الله - لمن مات مصراً عليها - وهي الشرك، وذنوب أصحابها تحت مشيئة الله، إن شاء غفر لهم، وإن شاء عاقبهم، ولا شك أن السرقة، وشرب الخمر، وقتل النفس المعصومة، ذنوب دون الشرك، ولا يمكن مساواتها به، فأصحابها تحت مشيئة الله إن شاء عذبهم فترة من الزمن، ثم يخرجهم من النار بتوحيدهم على ما دلت عليه أحاديث الشفاعة، وإن شاء عفا عنهم وأدخلهم الجنة برحمته .
هذه بعض أدلة القرآن الكريم على عدم تكفير مرتكبي الكبائر، أما أدلة السنة فكثيرة جداً، بلغت مبلغ التواتر، فمنها حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لجماعة من أصحابه: ( بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه ) فبايعناه على ذلك . متفق عليه . وهو حديث صحيح صريح بيّن فيه النبي - صلى الله عليه وسلم – أن أصحاب الكبائر من السراق والزناة والقتلة إن أقيم عليهم الحد في الدنيا فهو كفارة لهم عن خطاياهم، وإن قدموا على الله بتلك الذنوب فهم تحت مشيئته إن شاء عفا عنهم، وإن شاء عاقبهم، ودخولهم تحت المشيئة دليل على عدم كفرهم، لأن مصير الكفار محسوم، وهو النار وبئس المصير .
ومن أدلة السنة على عدم تكفير أصحاب الكبائر، حديث أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق، على رغم أنف أبي ذر ) متفق عليه . وهو حديث صريح في أن هذه الكبائر لا تبطل التوحيد، ولا تحول دون دخول الموحد الجنة، حتى وإن عوقب عليها .
ومن الأدلة أيضاً حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( خمس صلوات كتبهن الله على العباد، من جاء بهن لم يضيع منهن شيئاً، استخفافاً بحقهن، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة ) رواه أبو داود و النسائي . فترك الصلاة من أكبر الكبائر عند الله، ومع ذلك فقد نص الحديث على أن التارك لها تحت مشيئة الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له .
ومنها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: ( أتدرون من المفلس ؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له، ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار ) رواه مسلم . فقد أثبت النبي – صلى الله عليه وسلم - أن الظالم الذي سفك الدماء، وقذف العفيفات، وأكل أموال الناس بالباطل، قد تكون له حسنات يُقْتَصُّ للناس منها، ولو كان كافراً لم تكن له حسنات، لأن الكفر يبطل كل عمل صالح، كما قال تعالى: { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون }(الأنعام: 88) .
ومن الأحاديث أيضاً حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول: قال الله: ( يا بن آدم: إنك لو أتيتني بقراب الأرض – ما يقارب ملأها - خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة ) رواه الترمذي . ولا شك أن من لقي الله بالمعاصي كالزنا والسرقة والقتل لم يلقه مشركاً، فهو داخل تحت هذا الوعد الإلهي بالمغفرة والصفح .
ومن الأدلة أيضاً على عدم كفر أصحاب الكبائر أحاديث الشفاعة، وهي أحاديث تنص على خروج طوائف من عصاة الأمة من النار بعد أن دخلوها بذنوبهم، كحديث
أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال – بخطاياهم، فأماتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر – أي جماعات - فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل ) رواه مسلم . وحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير ) رواه البخاري ومسلم ، وهي أحاديث صحيحة نص العلماء على تواترها منهم شيخ الإسلام ابن تيمية ، والحافظ ابن حجر العسقلاني ، و السخاوي ، والقاضي عياض وغيرهم، يقول الإمام البيهقي في "شعب الإيمان" : " وقد ورد عن سيدنا المصطفي - صلى الله عليه وسلم - في إثبات الشفاعة وإخراج قوم من أهل التوحيد من النار، وإدخالهم في الجنة أخبار صحيحة قد صارت من الاستفاضة والشهرة بحيث قاربت الأخبار المتواترة، وكذلك في مغفرة الله تبارك وتعالى جماعة من أهل الكبائر دون الشرك من غير تعذيب فضلا منه ورحمة والله واسع كريم " .
أدلة الخوارج في تكفير عصاة الأمة
وبناء على ما سبق قد يسأل سائل إذا كانت أدلة أهل السنة والجماعة على عدم تكفير أصحاب الكبائر بهذه الكثرة، وبهذا الوضوح، فعلى ماذا اعتمد من خالفهم ؟ وكيف تأتّى لمخالفيهم تكفير عصاة الأمة وفساقها ؟
والجواب عن هذا أن أول من ابتدع القول بكفر أصحاب الكبائر هم الخوارج، وكان كلامهم ونقدهم – في بدايته - مسلطاً على الحكام، الذين وقعت منهم معاص استحقوا الكفر بسببها – من وجهة نظرهم –، فكفَّر الخوارج الحكام أولاً، ثم عمموا القول بالتكفير على كل أصحاب الكبائر، وبذلك يظهر أن مسلك التكفير لم يكن مسلكا علميا بحتا قاد إليه الكتاب والسنة، وإنما كان مسلكاً قادت إليه الحماسة الزائدة، وظروف الحرب السائدة آنذاك بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما –.
ثم تطورت الفكرة بعد ذلك، واضطر أصحابها إلى الاستدلال لها من الكتاب والسنة، فزعموا أن القرآن والسنة مليئان بأدلة تكفير العصاة، وذكروا كثيرا من الأمثلة والتي يمكن تقسيمها إلى أقسام:
القسم الأول: أدلة تخليد العصاة في النار: كقوله تعالى: { بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } (البقرة:81 ) فقالوا إن لفظ "سيئة " نكرة في سياق الشرط فتعم كل سيئة، وأصحاب الكبائر مرتكبون للسيئات بلا شك فهم خالدون في النار بحسب استدلالهم .
ومما استدلوا به قوله تعالى: { ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين }(البقرة: 275) حيث نصت الآية على أن العصيان وتجاوز حدود الله موجب للعذاب والخلود في النار، ولا يخلد في النار إلا كافر .
وذكروا أيضاً بعض الأدلة الخاصة التي تؤيد عموم الآيات السابقة، منها قوله تعالى في أكلة الربا: { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }(البقرة: 275). وقوله في قاتل المؤمن: { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما }(النساء: 93) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في قاتل نفسه: ( من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ – يطعن - بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا، ومن شرب سماً فقتل نفسه فهو يتحساه – يشربه - في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا ) رواه مسلم .
القسم الثاني: أدلة تنفي دخول أصحاب المعاصي الجنة: كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ( لا يدخل الجنة قاطع رحم ) رواه مسلم ، وقوله: ( لا يدخل الجنة نمام ) رواه مسلم . وقوله: ( لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ) رواه مسلم ، وقوله: ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ) رواه مسلم . وغيرها من الأحاديث التي تنفي دخول العصاة الجنة .
القسم الثالث: أدلة تصرّح بكفر بعض أصحاب الكبائر: كقوله - عليه الصلاة والسلام – ( أيما عبد أبق – هرب - من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم ) رواه مسلم ، وقوله : ( من أتى حائضاً، أو امرأة في دبرها، أو كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد ) رواه الترمذي ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ) رواه الترمذي وقوله: ( لا ترغبوا عن آبائكم فإنه من رغب عن أبيه فقد كفر ) رواه ابن حبان وغيرها من الأحاديث التي فيها التصريح بتكفير من أذنب ذنبا معيناً.
القسم الرابع: أدلة تنفي الإيمان عمن ارتكب بعض الكبائر، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) متفق عليه، وكقوله : ( لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له ) رواه أحمد ، وكقوله : ( والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن قيل: من يا رسول الله ؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه – شره - ) رواه البخاري .
الرد على شبهات الخوارج في تكفير أصحاب الكبائر
والرد على ما ذكروه من أدلة في القسم الأول من أوجه:
الوجه الأول: أن جميع الأدلة التي احتجوا بها أدلة عامة، وأدلة أهل السنة أدلة خاصة، والخاص يقدم على العام .
الوجه الثاني: أن أدلتهم التي استدلوا بها لم يقولوا هم أنفسهم بعمومها، بل أخرجوا من عمومها صغائر الذنوب فلم يُكفِّروا بها، وإذا جاز إخراج صغائر الذنوب من عموم تلك الأدلة وتخصيصها بأدلة أخرى، فلم لا يجوز إخراج أصحاب الكبائر للأدلة الكثيرة والمتواترة التي تصرح بعدم كفر مرتكب الكبيرة .
الوجه الثالث: أن اعتمادهم على هذه مبني على تصورهم أن الخلود المنصوص عليه فيها يُقصد به الخلود الأبدي الذي لا ينقطع، وهو تصور مردود لأن الخلود يطلق ويراد به الخلود الأبدي السرمدي، ويطلق ويراد به المكث الطويل، تقول العرب في الرجل المسن إِذا بقـي سواد رأْسه ولـحيته علـى الكبر: إِنه لـمخـلِد، ويقال للرجل إِذا لـم تسقط أَسنانه من الهرم: إِنه لـمخـلِد . وإذا كان معنى الخلود يحتمل كل هذه المعاني فمن المتعين حمله في الآيات التي استدلوا بها على الخلود غير الأبدي وذلك للجمع بين الأدلة .
وقد يعترض على هذا بأنه إذا جاز حمل الخلود الوارد في النصوص السابقة على الخلود غير الأبدي، فكيف يصح حمله إذا اقترن الخلود بالأبد كقوله – صلى الله عليه وسلم – في القاتل نفسه : ( فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا ) والجواب عن هذا من وجهين:
الوجه الأول: أن يضمّن معنى الاستحلال، فيكون المعنى أن من قتل نفسه مستحلا قتلها، فهو كافر، والكافر خالد في النار خلودا أبدياً.
الثاني: أن المنتحر قد يقع في الكفر إذا يأس من فرج الله، وقنط من رحمته، فاعتقد أن الله غير قادر على تفريج همه، وإذهاب غمه، وبهذا الاعتقاد يستحق الخلود الأبدي في النار على كفره، قال تعالى: { ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون }(يوسف:87) أي لا ينقطع رجاؤكم في ربكم، ولا أملكم في رحمته، فإن ذلك شأن الكافرين الذين لا يعتقدون عموم قدرة الله عز وجل وشمولها لكل شيء .
أما الرد على ما ذكروه من أدلة في القسم الثاني والتي تنص على عدم دخول بعض أصحاب المعاصي الجنة، فليست صريحة في كفرهم، وخروجهم عن الإسلام، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يقل: إنهم لن يدخلوا الجنة مطلقاً، بل يحتمل كلامه أنهم لن يدخلوها مع أوائل الداخلين، بل سيدخلونها متأخرين عن غيرهم ؟ ويحتمل أنهم سيدخلونها بعد عقوبة وعذاب ؟ كل هذه الاحتمالات واردة . والذي يرجح أحدها هو النظر في الأدلة الأخرى، والتي دلت على أنه لن يخلد في النار موحد كما في أحاديث الشفاعة . وعليه يجب حمل هذا القسم من الأدلة على غيرها من الأدلة المصرحة بخروج الموحدين من النار .
على أن هناك محملاً آخر يمكن حمل كل تلك الأدلة عليه، وهو بتضمين معنى الاستحلال فيها، فيكون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا يدخل الجنة قاطع رحم، أي: لا يدخل الجنة من استحل قطيعة الرحم، ولا يدخل الجنة من استحل النميمة، ولا يدخل الجنة من استحل أذية جاره، ولا يدخل الجنة من استحل الكبر وهكذا، فيتعلق الحكم بعدم دخول الجنة مطلقا لمن استحل معلوما من الدين بالضرورة لأنه بذلك يكون كافرا لتكذيبه الله في حكمه .
أما الردُّ على ما ذكروه من أدلة القسم الثالث: وهو التصريح بكفر بعض أصحاب الكبائر، كالعبد الآبق، ومن انتسب لغير والده مع علمه به، ومن أتى حائضاً وغيرهم، فهي كذلك ليست صريحة في الحكم بالكفر المخرج من الملة، إذ من المعلوم أن الكفر في نصوص الشرع كفران: كفر مخرج من الإسلام، وكفر غير مخرج منه، وعليه فليس كل ذنب أطلق الشارع عليه كفراً يكون صاحبه كافراً خارجاً من الدين، بدليل أن الشرع أطلق الكفر على جحود الزوجة حق زوجها، وليس ذلك بكفر مخرج من الإسلام، وأطلق الكفر على جحد النعم وعدم شكرها، كما في قوله تعالى: { لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد }(إبراهيم:7) . وعليه فلفظ الكفر لا يعني بالضرورة الكفر المخرج من الملة، وإنما قد يستعمل في غيره، وبالتالي فلا يصح الاستدلال بما ذكروا من أدلة على تكفير أصحاب الكبائر، لجواز حملها على كفر النعمة والكفر الأصغر، وهو ما يقتضيه واجب الجمع بين الأدلة، والمصير إلى هذا التأويل هو من باب تقديم الدليل الأقوى على ما دونه فأدلة عدم تكفير أصحاب الكبائر تمتاز بأنها قطعية ومتواترة وإجماع السلف على وفقها، فكل دليل يخالفها يجب تأويله وحمله على ما يتفق وهذه النصوص .
أما الرد على ما ذكروه من أدلة في القسم الرابع من أن نصوص الشرع نفت الإيمان عن بعض أصحاب الكبائر فيقال: إن نفي الإيمان لا يقتضي الكفر بإطلاق، وإنما يطلق ويراد به نقصان الإيمان وعدم كماله، والدليل على ذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم - وإن نفى الإيمان في قوله: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) فقد أثبته في موضع آخر حين قال: ( ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق ) ومقتضى الجمع بين النصوص أن يقال إن ما نفاه النبي - صلى الله عليه وسلم - غير ما أثبته فالذي نفاه هو كمال الإيمان والذي أثبته هو أصل الإيمان الواجب .
والتعبير بنفي الشيء وإرادة نفي الكمال أمر معروف في استعمال الناس كما يقال: لا سعادة في هذه الحياة، والمراد نفي كمال السعادة لا مطلق السعادة، وكما يقال لا خير في هذا الولد، والمراد نفي كمال الخير لا مطلق الخير، وعليه فكل حديث ورد فيه نفي الإيمان عمن ارتكب كبيرة فلا يقتضي التكفير بإطلاق، وإنما المراد به نفي كمال الإيمان والتحذير من المعاصي لكونها تنقص إيمان المؤمن .
وبهذا يظهر بطلان مذهب الخوارج وغيرهم ممن وافقهم في تكفير أصحاب الكبائر، والذي أدى بهم إلى تكفير عموم الأمة واستحلال دمائها وأموالها .
ولا يخفى ما جرَّ هذا المذهب على الأمة من بلاء وفتن وآثار مدمرة، والعجب بعد ذلك أن يأتي من يدعي أن مذهب أهل السنة كان سببا في انتشار المعاصي في عموم الأمة، فانتشر الزنا والربا وشرب الخمور وغيرها، وهو قول لا ينم عن معرفة بمذهب أهل الحق، وإنما يدل على غرض سيء في التشنيع عليهم دون حجة أو برهان، ولو تأمل هذا القائل مذهب أهل السنة لما قال ما قال، فأهل السنة لم يقولوا: أن مجرد الإيمان يكفي، أو أن الذنوب لا تضر من عملها، كما تقول بذلك المرجئة، ولم يقولوا إن العاصي لا يعذب مطلقاً، وإنما مذهبهم أن العاصي تجب معاقبته في الدنيا زجراً له وليعتبر به غيره، وأنه مستحق للعقوبة في الآخرة، وأن جزءاً كبيراً من العصاة سيدخلون جهنم فترة قد تطول أو تقصر كل حسب ذنبه، ولا شك أن مجرد تصور دخول النار يبث الخوف والرهبة في قلوب المسلمين وله أثره البالغ في التحذير من الذنوب والمعاصي .
ثم إننا لو نظرنا إلى أثر مذهب تكفير العصاة على الأمة لوجدنا أن كثيراً من الناس لا يكاد يخلو عن كبيرة يقترفها، والعاصي إذا وجد أنه كلما فعل كبيرة خرج من الإسلام، ربما دخل عليه الشيطان من هذا المدخل فوسوس له بالقول: إذا كنت كلما دخلت الإسلام خرجت منه، فلا أنت قادر على الكف على المعاصي، ولا أنت باق على الإسلام، فلم التعب والمشقة، فخير لك أن تبقى على كفرك !!. فبذلك تفسد الأمة وتخرج من دينها ويعم الباطل وينتشر .
منتديات عرب مسلم | منتدى برامج نت | منتدى عرب مسلم | منتديات برامج نت | منتدى المشاغب | منتدى فتكات | منتديات مثقف دوت كوم | منتديات العرب | إعلانات مبوبة مجانية | إعلانات مجانية |اعلانات مبوبة مجانية | اعلانات مجانية | القرآن الكريم | القرآن الكريم قراءة واستماع | المكتبة الصوتية للقران الكريم mp3 | مكتبة القران الكريم mp3 | ترجمة القرآن | القرآن مع الترجمة | أفضل ترجمة للقرآن الكريم | ترجمة القرآن الكريم | Quran Translation | Quran with Translation | Best Quran Translation | Quran Translation Transliteration | تبادل إعلاني مجاني