تابع كتاب الرقاق من صحيح البخاري
8 محرم 1436 هـــ
باب مثل الدنيا في الآخرة
المجلس الثالث
المجلس الثالث
وقوله تعالى { أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} .
قال الإمام البخاري رحمه الله
] 6052 ] حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما
فيها ولغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها.
موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما
فيها ولغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها.
الشرح
قوله باب مثل الدنيا في الآخرة هذه الترجمة بعض لفظ حديث أخرجه مسلم والترمذي والنسائي من طريق قيس بن أبي حازم عن المستورد بن شداد رفعه والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع وسنده إلى التابعي على شرط البخاري لأنه لم يخرج للمستورد ، واقتصر على ذكر حديث سهل بن سعد موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها فإن قدر السوط من الجنة إذا كان خيرا من الدنيا فيكون الذي يساويها مما في الجنة دون قدر السوط فيوافق ما دل عليه حديث المستورد وقد تقدم شرح قوله " غدوة في سبيل الله " في كتاب الجهاد .
قال القرطبي : هذا نحو قوله - تعالى - قل متاع الدنيا قليل وهذا بالنسبة إلى ذاتها وأما بالنسبة إلى الآخرة فلا قدر لها ولا خطر وإنما أورد ذلك على سبيل التمثيل والتقريب وإلا فلا نسبة بين المتناهي وبين ما لا يتناهى وإلى ذلك الإشارة بقوله " فلينظر بم يرجع " ووجهه أن القدر الذي يتعلق بالإصبع من ماء البحر لا قدر له ولا خطر وكذلك الدنيا بالنسبة إلى الآخرة والحاصل أن الدنيا كالماء الذي يعلق في الأصبع من البحر والآخرة كسائر البحر
قال القرطبي : هذا نحو قوله - تعالى - قل متاع الدنيا قليل وهذا بالنسبة إلى ذاتها وأما بالنسبة إلى الآخرة فلا قدر لها ولا خطر وإنما أورد ذلك على سبيل التمثيل والتقريب وإلا فلا نسبة بين المتناهي وبين ما لا يتناهى وإلى ذلك الإشارة بقوله " فلينظر بم يرجع " ووجهه أن القدر الذي يتعلق بالإصبع من ماء البحر لا قدر له ولا خطر وكذلك الدنيا بالنسبة إلى الآخرة والحاصل أن الدنيا كالماء الذي يعلق في الأصبع من البحر والآخرة كسائر البحر
قوله : وقوله - تعالى - أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ - إلى قوله : - مَتَاعُ الْغُرُورِكذا في رواية أبي ذر وساق في رواية الآية الكريمة كلها وعلى هذا فتفتح الهمزة في إنما محافظة على لفظ التلاوة فإن أول الآية اعلموا أنما الحياة الدنيا إلخ ولولا ما وقع من سياق بقية الآية لجوزت أن يكون المصنف أراد الآية التي في القتال وهي قوله - تعالى – ( إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ) الآية 36 سورة محمد .
قال ابن عطية : المراد بالحياة الدنيا في هذه الآية ما يختص بدار الدنيا من تصرف وأما ما كان فيها من الطاعة وما لا بد منه مما يقيم الأود ويعين على الطاعة فليس مرادا هنا والزينة ما يتزين به مما هو خارج عن ذات الشيء مما يحسن به الشيء والتفاخر يقع بالنسب غالبا كعادة العرب والتكاثر ذكر متعلقه في الآية وصورة هذا المثال أن المرء يولد فينشأ فيقوى فيكسب المال والولد ويرأس ثم يأخذ بعد ذلك في الانحطاط فيشيب ويضعف ويسقم وتصيبه النوائب من مرض ونقص في مال وعز ثم يموت فيضمحل أمره ويصير ماله لغيره وتغير رسومه فحاله كحال أرض أصابها مطر فنبت عليها العشب نباتا معجبا أنيقا ثم هاج أي يبس واصفر ثم تحطم وتفرق إلى أن اضمحل
قال واختلف في المراد بالكفار ، فقيل جمع كافر بالله لأنهم أشد تعظيما للدنيا وإعجابا بمحاسنها . وقيل [ ص: 237 ] المراد بهم الزراع مأخوذ من كفر الحب في الأرض أي ستره بها وخصهم بالذكر لأنهم أهل البصر بالنبات فلا يعجبهم إلا المعجب حقيقة انتهى
ملخصا وقوله في آخر الآية وفي الآخرة عذاب شديد قال الفراء : لا يوقف على شديد لأن تقدير الكلام أنها إما عذاب شديد وإما مغفرة من الله ورضوان واستحسن غيره الوقف على شديد لما فيه من المبالغة في التنفير من الدنيا والتقدير للكافرين ويبتدئ ومغفرة من الله ورضوان أي للمؤمنين وقيل إن قوله وفي الآخرة قسيم لقوله إنما الحياة الدنيا لعب ولهو والأول صفة الدنيا وهي اللعب وسائر ما ذكر .
والثاني صفة الآخرة وهي عذاب شديد لمن عصى ومغفرة ورضوان لمن أطاع وأما قوله وما الحياة الدنيا إلخ فهو تأكيد لما سبق أي تغر من كن إليها وأما التقي فهي له بلاغ إلى الآخرة ولما أورد الغزالي حديث المستورد في الإحياء عقبه بأن قال ما ملخصه اعلم أن مثل أهل الدنيا في غفلتهم كمثل قوم ركبوا سفينة فانتهوا إلى جزيرة معشبة فخرجوا لقضاء الحاجة فحذرهم الملاح من التأخر فيها وأمرهم أن يقيموا بقدر حاجتهم وحذرهم أن يقلع بالسفينة ويتركهم فبادر بعضهم فرجع سريعا فصادف أحسن الأمكنة وأوسعها فاستقر فيه وانقسم الباقون فرقا الأولى استغرقت في النظر إلى أزهارها المونقة وأنهارها المطردة وثمارها الطيبة وجواهرها ومعادنها ثم استيقظ فبادر إلى السفينة فلقي مكانا دون الأول فنجا في الجملة الثانية كالأولى لكنها أكبت على تلك الجواهر والثمار والأزهار ولم تسمح نفسه لتركها فحمل منها ما قدر عليه فتشاغل بجمعه وحمله فوصل إلى السفينة فوجد مكانا أضيق من الأول ولم تسمح نفسه برمي ما استصحبه فصار مثقلا به ثم لم يلبث أن ذبلت الأزهار ويبست الثمار وهاجت الرياح فلم يجد بدا من إلقاء ما استصحبه حتى نجا بحشاشة نفسه الثالثة تولجت في الغياض وغفلت عن وصية الملاح ثم سمعوا نداءه بالرحيل فمرت فوجدت السفينة سارت فبقيت بما استصحبت في البر حتى هلكت والرابعة اشتدت بها الغفلة عن سماع النداء وسارت السفينة فتقسموا فرقا منهم من افترسته السباع ومنهم من تاه على وجهه حتى هلك ومنهم من مات جوعا ومنهم من نهشته الحيات قال فهذا مثل أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة وغفلتهم عن عاقبة أمرهم ثم ختم بأن قال وما أقبح من يزعم أنه بصير عاقل أن يغتر بالأحجار من الذهب والفضة والهشيم من الأزهار والثمار وهو لا يصحبه شيء من ذلك بعد الموت .
والله المستعان
المصدر قال ابن عطية : المراد بالحياة الدنيا في هذه الآية ما يختص بدار الدنيا من تصرف وأما ما كان فيها من الطاعة وما لا بد منه مما يقيم الأود ويعين على الطاعة فليس مرادا هنا والزينة ما يتزين به مما هو خارج عن ذات الشيء مما يحسن به الشيء والتفاخر يقع بالنسب غالبا كعادة العرب والتكاثر ذكر متعلقه في الآية وصورة هذا المثال أن المرء يولد فينشأ فيقوى فيكسب المال والولد ويرأس ثم يأخذ بعد ذلك في الانحطاط فيشيب ويضعف ويسقم وتصيبه النوائب من مرض ونقص في مال وعز ثم يموت فيضمحل أمره ويصير ماله لغيره وتغير رسومه فحاله كحال أرض أصابها مطر فنبت عليها العشب نباتا معجبا أنيقا ثم هاج أي يبس واصفر ثم تحطم وتفرق إلى أن اضمحل
قال واختلف في المراد بالكفار ، فقيل جمع كافر بالله لأنهم أشد تعظيما للدنيا وإعجابا بمحاسنها . وقيل [ ص: 237 ] المراد بهم الزراع مأخوذ من كفر الحب في الأرض أي ستره بها وخصهم بالذكر لأنهم أهل البصر بالنبات فلا يعجبهم إلا المعجب حقيقة انتهى
ملخصا وقوله في آخر الآية وفي الآخرة عذاب شديد قال الفراء : لا يوقف على شديد لأن تقدير الكلام أنها إما عذاب شديد وإما مغفرة من الله ورضوان واستحسن غيره الوقف على شديد لما فيه من المبالغة في التنفير من الدنيا والتقدير للكافرين ويبتدئ ومغفرة من الله ورضوان أي للمؤمنين وقيل إن قوله وفي الآخرة قسيم لقوله إنما الحياة الدنيا لعب ولهو والأول صفة الدنيا وهي اللعب وسائر ما ذكر .
والثاني صفة الآخرة وهي عذاب شديد لمن عصى ومغفرة ورضوان لمن أطاع وأما قوله وما الحياة الدنيا إلخ فهو تأكيد لما سبق أي تغر من كن إليها وأما التقي فهي له بلاغ إلى الآخرة ولما أورد الغزالي حديث المستورد في الإحياء عقبه بأن قال ما ملخصه اعلم أن مثل أهل الدنيا في غفلتهم كمثل قوم ركبوا سفينة فانتهوا إلى جزيرة معشبة فخرجوا لقضاء الحاجة فحذرهم الملاح من التأخر فيها وأمرهم أن يقيموا بقدر حاجتهم وحذرهم أن يقلع بالسفينة ويتركهم فبادر بعضهم فرجع سريعا فصادف أحسن الأمكنة وأوسعها فاستقر فيه وانقسم الباقون فرقا الأولى استغرقت في النظر إلى أزهارها المونقة وأنهارها المطردة وثمارها الطيبة وجواهرها ومعادنها ثم استيقظ فبادر إلى السفينة فلقي مكانا دون الأول فنجا في الجملة الثانية كالأولى لكنها أكبت على تلك الجواهر والثمار والأزهار ولم تسمح نفسه لتركها فحمل منها ما قدر عليه فتشاغل بجمعه وحمله فوصل إلى السفينة فوجد مكانا أضيق من الأول ولم تسمح نفسه برمي ما استصحبه فصار مثقلا به ثم لم يلبث أن ذبلت الأزهار ويبست الثمار وهاجت الرياح فلم يجد بدا من إلقاء ما استصحبه حتى نجا بحشاشة نفسه الثالثة تولجت في الغياض وغفلت عن وصية الملاح ثم سمعوا نداءه بالرحيل فمرت فوجدت السفينة سارت فبقيت بما استصحبت في البر حتى هلكت والرابعة اشتدت بها الغفلة عن سماع النداء وسارت السفينة فتقسموا فرقا منهم من افترسته السباع ومنهم من تاه على وجهه حتى هلك ومنهم من مات جوعا ومنهم من نهشته الحيات قال فهذا مثل أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة وغفلتهم عن عاقبة أمرهم ثم ختم بأن قال وما أقبح من يزعم أنه بصير عاقل أن يغتر بالأحجار من الذهب والفضة والهشيم من الأزهار والثمار وهو لا يصحبه شيء من ذلك بعد الموت .
والله المستعان
والدنيا: هي حياتنا هذه التي نعيش فيها، وسميت دنيا لسببين:
السبب الأول: أنها أدنى من الآخرة؛ لأنها قبلها كما
قال تعالى: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى) (الضحى:4).
والثاني: أنها دنيئة ليست بشيء بالنسبة للآخرة،
كما روى الإمام أحمد رحمه الله من حديث المستورد بن
شداد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها" موضع السوط: موضع العصى القصيرة الصغيرة في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها من أولها على آخرها، فهذه هي الدنيا.(أ.هـ) .
شرح رياض الصالحين للشيخ بن عثيمين رحمه الله
السبب الأول: أنها أدنى من الآخرة؛ لأنها قبلها كما
قال تعالى: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى) (الضحى:4).
والثاني: أنها دنيئة ليست بشيء بالنسبة للآخرة،
كما روى الإمام أحمد رحمه الله من حديث المستورد بن
شداد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها" موضع السوط: موضع العصى القصيرة الصغيرة في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها من أولها على آخرها، فهذه هي الدنيا.(أ.هـ) .
شرح رياض الصالحين للشيخ بن عثيمين رحمه الله