اداب الدعاء عند المعصومين ( عليهم السلام )
الدعاء حاجة فطرية عند
الإنسان ، ومن الطبيعي أن يتعرض الإنسان خلال حياته الاجتماعية المعقدة إلى
مشاكل يصعب عليه حلها أحياناً ، ويتعرض أحياناً أخرى إلى حالات حرجة يشعر
بأنه هالك لا محالة ، فنراه يلجأ ويتوسل بقوة غَيبيَّة يعتقد أنها قادرة
على إنقاذه .
وقد يلجأ إليها حتى الذين لا يؤمنون بها ، فقال الله عزَّ
وجل : ( فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلنَاهُ
نِعمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلمٍ بَل هِيَ فِتنَةٌ
وَلَكِنَّ أَكثَرَهُم لا يَعلَمُونَ ) الزمر : 49 .
أما في حياة المؤمن ،
فالدعاء يشكل أساساً متيناً لشخصيته ، لأنه يؤمن بالله تعالى القادر على
كل شيء ، والذي بيده ملكوت السماوات والأرض ، فالله هو الرحمن الرحيم ،
الذي وسعت رحمته كل شيء ، وهو اللطيف بعباده ، الرؤوف بمخلوقاته ، وهو
القادر على ما يريد ، الكريم الذي لم يجعل بينه وبين عبده ما يحجبه عنه
سبحانه وتعالى .
فقد جعل أبوابه مفتَّحة لدعاء الداعين ، وقال لعباده : ( ادعُونِي أَستَجِب لَكُم ) غافر : 60 .
والمؤمن
يتحبب إلى ربه وخالقه سبحانه بالتحدث إليه ، وطلب المزيد من رضاه ورحمته ،
ويسأنس بالدعاء والمناجاة إذا استوحش من الدنيا ، ويتلذذ بالقرب منه تعالى
، والدعاء مناجاة تزول به الهموم والكروب ، وتطمئن النفس باللجوء إلى مَن
بيده مقاليد الأمور .
والمؤمن يلجأ إلى الله ويثق بقدراته ، لأن الإنسان
كلما ازداد معرفة بالله وعلماً ازداد إيماناً وتضرعاً وطاعةً ، وأكثر
الناس معرفة وعلماً بالله سبحانه وتعالى أكثرهم له مسألة وطلباً .
هكذا
يقف العارفون بربهم ، أذلاء خاشعين لم تنسهم دنياهم ذكر الله ، ولم تلههم
تجارتهم عن المناجاة مع الله ، وهم يعلمون أن الإنسان قد يتعرض للخطأ في
معاملاته ، وقد يقترف السيئة فيؤوب إلى ربه منيباً مذعناً معترفاً يطلب
التوبة والمغفرة .
فليس أمام العبد الذي أوبقته الذنوب إلا التوبة
والإنابة إلى الله والدعاء إليه لأنه لا مفرَّ من الله إلا إليه ، فلنجتهد
في مرضاته ، ونعدُّ العدَّة لملاقاته ، عسى أن نحظى بلقائه بوجوه بيضاء
مشرقة بالإيمان الصادق والعمل الصالح ، فحاشا لله أن يناجيه العبد ويمدُّ
إليه يدَ الاستكانة والمذلة ويرده وهو الكريم الجواد ، فالله تعالى لا يرد
السائلين ، وإن أخَّر ذلك إلى حين فلحكمة هو يراها .
فهو الذي أخذ على
نفسه أن لا يخيب من دعاه ، وهو بعباده رؤوف رحيم ، يجيب دعوة الداعي إذا
دعاه ، فَمَن غير الله ندعوه ونتوسل إليه ، وهو أرحم بنا من أبوينا ؟ وقد
جربنا ظلم العباد للعباد .
آداب الدعاء :
لقد حدَّدت النصوص
الإسلامية عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) وآل البيت ( عليهم السلام )
آداباً للدعاء ، وقررت شروطاً لابد للداعي أن يراعيها كي يتقرب إلى خزائن
رحمة الله تعالى وذخائر لطفه ، ويتحقّق مطلوبه من الدعاء ، وإذا أهملها
الداعي فلا تتحقق له الاستجابة المرجوة من الدعاء ، ولا تحصل له نورانية
القلب ، وتهذيب النفس ، وسُمُوُّ الروح المطلوبة في الدعاء ، وفيما يلي أهم
هذه الشروط والآداب :
الأول : الطهارة :
من آداب الدعاء أن يكون
الداعي على وضوء ، سيَّما إذا أراد الدعاء عقيب الصلاة ، فقد رَوَى مسمع عن
الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : ( يا مسمع ، ما يمنع أحدكم إذا
دخل عليه غَمٌّ من غموم الدنيا أن يتوضأ ثم يدخل مسجده ، فيركع ركعتين
فيدعو الله فيهما ؟ ) .
الثاني : الصدقة ، وشمُّ الطيب ، والذهاب إلى المسجد :
روي
عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : ( كان أبي إذا طلب الحاجة ..
قدَّم شيئاً فتصدق به ، وشمَّ شيئاً من طيب ، وراح إلى المسجد ) .
الثالث : الصلاة :
ويستحب
أن يصلي الداعي ركعتين قبل أن يشرع بالدعاء ، فقال الإمام الصادق ( عليه
السلام ) : ( من توضأ فأحسن الوضوء ، ثم صلى ركعتين ، فأتمَّ ركوعهما
وسجودهما ، ثم سلَّم وأثنى على الله عزَّ وجل وعلى رسول الله ( صلى الله
عليه وآله ) ثم سأل حاجته فقد طلب الخير في مظانِّه ، ومن طلب الخير في
مظانِّه لم يخب ) .
الرابع : البسملة :
ومن آداب الدعاء أن يبدأ
الداعي دعاءه بالبسملة ، لقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( لا
يُرَدُّ دعاءٌ أوَّله بسم الله الرحمن الرحيم ) .
الخامس : الثناء على الله تعالى :
ينبغي
للداعي إذا أراد أن يسأل ربه شيئاً من حوائج الدنيا والآخرة أن يحمد الله
ويثني عليه ، ويشكر ألطافه ونعمه قبل أن يشرع في الدعاء .
يقول أمير
المؤمنين ( عليه السلام ) : ( الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره ،
وسبباً للمزيد من فضله ) ، وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إذا طلب
أحدكم الحاجة فَليُثنِ على ربه وليمدحه ) .
وقد أعدَّ الله تعالى لمن
يمدحه ويُمَجِّده على حسن آلائه جزيل الثواب بما يفوق رغبة السائلين ، فقال
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( من تشاغل بالثناء على الله ، أعطاه
الله فوق رغبة السائلين ) .
أمّا ما يجزي من الثناء على الله سبحانه قبل
الشروع بالدعاء ، فقد روي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه سُئل عن
ذلك فقال : ( تقول اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك
شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، وأنت
العزيز الكريم ) .
السادس : الدعاء بالأسماء الحسنى :
على الداعي أن
يدعو الله تعالى بأسمائه الحسنى لقوله تعالى : ( ولله الأسماء الحسنى
فادعوه بها ) الأعراف : 180 ، وقوله تعالى : ( أيا ما تدعو قل ادعو الله
أول ادعوا الرحمن فله الأسماء الحسنى ) الأسراء : 110 .
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( لله عزوجل تسعة وتسعون اسماً ، من دعا الله بها استجيب له ) .
يقول
بعض أهل العلم : ينبغي للداعي إذا مجَّد الله سبحانه وأثنى عليه أن يذكر
من أسماء الله الحسنى ما يناسب مطلوبه ، فإذا كان مطلوبه ( الرزق ) يقول :
يا رزاق ، يا وهاب ، يا جواد ، يا مغني ، يا منعم ، يا مفضل ، يا معطي ، يا
كريم ، يا واسع ، يا مسبب الأسباب ، يا منان ، يا رزاق من يشاء بغير حساب .
وإن
كان مطلوبه ( المغفرة والتوبة ) ، يقول : يا تواب ، يا رحمن ، يا رحيم ،
يا رؤوف ، يا عطوف ، يا صبور ، يا شكور ، يا عفو ، يا غفور ، يا فتاح ، يا
ذا المجد والسماح ، يا محسن ، يا مجمل ، يا منعم .
وإن كان مطلوبه (
الانتقام ) من العدو يقول : يا عزيز ، يا جبار ، يا قهار ، يا منتقم ، ياذا
البطش الشديد ، يا فعال لما يريد ، يا قاصم المردة ، يا طالب ، يا غالب ،
يا مهلك ، يا مدرك ، يا من لا يعجزه شيء .
ولو كان مطلوبه ( العلم ) يقول : يا عالم ، يا فتاح ، يا هادي ، يا مرشد ، يا معز ، يا رافع ، وما أشبه ذلك .
وقد
ورد في الروايات عن أهل البيت ( عليهم السلام ) تأكيدٌ كثير على الدعاء
بالأسماء الحسنى ، وأنَّ الله تعالى يستجيب لعبده المؤمن إذا دعاه بأسمائه
الحسنى ، خصوصاً في حال السجود .
السابع : الصلاة على النبي وآله ( عليهم السلام ) :
لابد
للداعي أن يصلي على محمد وآله ( عليهم السلام ) بعد الحمد والثناء على
الله سبحانه ، وهي تؤكد الولاء لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولأهل
بيته المعصومين ( عليهم السلام ) الذي هو في امتداد الولاء لله تعالى ، لذا
فهي من أهم الوسائل في صعود الأعمال واستجابة الدعاء .
قال رسول الله (
صلى الله عليه وآله ) : ( لا يزال الدعاء محجوباً حتى يصلى عليَّ وعلى أهل
بيتي ) ، وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( كل دعاء محجوب حتى يصلى
على محمد وآل محمد ) .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( من دعا
ولم يذكر النبي ( صلى الله عليه وآله ) رفرف الدعاء على رأسه ، فإذا ذكر
النبي ( صلى الله عليه وآله ) رُفع الدعاء ) .
أما في كيفية الصلاة على
النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فقد روي بالإسناد عن بريدة ، قال : قلنا :
يا رسول الله ، قد عُلِّمنا كيف نسلِّم عليك ، فكيف نصلّي عليك ؟ قال ( صلى
الله عليه وآله ) : ( قولوا : اللهمَّ اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على
محمد وآل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد ) .
ومن
نماذج الصلاة على النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) وأهل بيته ( عليهم
السلام ) في الدعاء ما روي بالإسناد عن حريز ، قال : قلت لأبي عبد الله (
عليه السلام ) : جعلت فداك ، كيف الصلاة على النبي ( صلى الله وآله ) ؟
فقال
: ( قل : اللهمَّ صلِّ على محمد وأهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس
وطهِّرهم تطهيراً ، اللهمَّ صلِّ على محمد وأهل بيته الذين ألهمتهم علمك ،
واستحفظتهم كتابك ، واسترعيتهم عبادك ، اللهمَّ صلِّ على محمد وأهل بيته
الذين أمرت بطاعتهم وأوجبت حبهم ومودتهم ، اللهمَّ صلِّ على محمد وأهل بيته
، الذين جعلتهم ولاة أمرك بعد نبيك صلى الله عليه وعلى أهل بيته ) .
ومن
أدب الدعاء عند سيد الساجدين الإمام علي بن الحسين ( عليهما السلام ) أنه
يجعل الثناء والصلاة على النبي وآله مفتاحاً لأغلب فقرات الدعاء ، وهذا
واضح لمن تأَمَّل الصحيفة السجادية ، وهو المراد بقوله ( صلى الله عليه
وآله ) : ( لا تجعلوني كقدح الراكب ، إن الراكب يملأ قدحه فيشربه إذا شاء ،
اجعلوني في أول الدعاء وآخره ووسطه ) .
الثامن : التوسل بمحمد وأهل بيته ( عليهم السلام ) :
وينبغي
للداعي أن يلج من الأبواب التي أمر الله تعالى بها ، وأهل البيت ( عليهم
السلام ) هم سفن النجاة لهذه الأمَّة ، فحريٌّ بمن دعا الله تعالى أن يتوسل
إلى الله بهم ( عليهم السلام ) ، ويسأله بحقهم ، ويقدمهم بين يدي حوائجه .
قال
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( الأوصياء مني بهم تُنصر أُمتي ،
وبهم يمطرون ، وبهم يدفع الله عنهم ، وبهم استجاب دعاءهم ) ، وقال الإمام
الباقر ( عليه السلام ) : ( من دعا الله بنا أفلح ، ومن دعاه بغيرنا هلك
واستهلك ) .
وعن داود الرقي ، قال : إني كنت أسمع أبا عبد الله ( عليه
السلام ) أكثر ما يلحُّ به في الدعاء على الله بحق الخمسة ، يعني رسول الله
( صلى الله عليه وآله ) وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم
السلام ) .
ومن نماذج التوسل المروي عنهم ( عليهم السلام ) هو أن تقول :
( اللهم أني أتوجه إليك بمحمد وآل محمد ، وأتقرب بهم إليك ، وأقدمهم بين
يدي حوائجي ) .
التاسع : الإقرار بالذنوب :
وعلى الداعي أن يعترف
بذنوبه مقراً ، مذعناً ، تائباً عمَّا اقترفه من خطايا ، وما ارتكبه من
ذنوب ، فقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إنما هي مدحة ، ثم الثناء ،
ثم الإقرار بالذنب ، ثم المسألة ، إنه والله ما خرج عبد من ذنب إلا
بالإقرار ) .
وكان من دعاء أمير المؤمنين ( عليه السلام ) المروي عن
كميل بن زياد : ( وقد أتيتك يا الهي بعد تقصيري وإسرافي على نفسي ، معتذراً
نادماً ، منكسراً مستقيلاً ، مستغفراً منيباً ، مقراً مذعناً معترفاً ، لا
أجد مفراً مما كان مني ، ولا مفزعاً أتوجه إليه في أمري ، غير قبولك عذري
وإدخالك إياي في سعة من رحمتك ، اللهمَّ فاقبل عذري ، وارحم شدة ضري ،
وفُكَّني من شدِّ وثاقي ) .
العاشر : المسألة :
وينبغي للداعي أن
يذكر - بعد الثناء على الله تعالى والصلاة على النبي وآله ( عليهم السلام )
والإقرار بالذنب - ما يريد من خير الدنيا والآخرة ، وأن لا يستكثر مطلوبه ،
لأنه يطلب من ربِّ السموات والأرض الذي لا يعجزه شيء ، ولا تنفد خزائن
رحمته التي وسعت كل شيء .
وعليه أيضاً أن لا يستصغر صغيرة لصغرها ، لما
روي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : ( ولا تتركوا صغيرة
لصِغَرها أن تدعوا بها ، إن صاحب الصغار هو صاحب الكبار ) ، وروي عن رسول
الله ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال : ( ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها ،
حتّى يسأله شسع نعله إذا انقطع ) .
ويستحب للداعي إذا كان دعاؤه عبادة
خالصة يتقرب بها إلى مولاه أن يسأل ما يبقى جماله من خير القضاء في الآجلة
والعاجلة ، وأن تعكس مسألته حالة الافتقار إلى الله تعالى التي يتساوى فيها
جميع البشر .
جاء في الحديث القدسي : ( ياعبادي كُلُّكُم ضالٌّ إلا من
هَدَيتُه ، فاسألوني الهدى أَهدِكم ، وكُلُّكُم فقير إلا من أغنيتُه ،
فاسألوني الغِنى أرزقكم ، وكُلُّكُم مذنب إلا من عافيتُه ، فاسألوني
المغفرةَ أغفر لكم ) .
ومن دعاء الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : (
ياذا الجلال والإكرام ، أسألك عملاً تحب به من عمل به ، ويقيناً تنفع به
من استيقن به حقَّ اليقين في نفاذ أمرك ، اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد ،
واقبض على الصدق نفسي ، واقطع من الدنيا حاجتي ، واجعل فيما عندك رغبتي
شوقاً إلى لقائك ، وهب لي صدق التوكل عليك ) .
الحادي عشر : معرفة الله ، وحسن الظن به سبحانه :
قال
العلامة الحلي ( رضوان الله عليه ) : من شروط حسن الدعاء علم الداعي كون
ما يطلبه بدعائه مقدوراً لمن يدعوه ، وهذا يتضمن أن من دعا الله تعالى يجب
أن يكون عارفاً به وبصفاته ، فعلى الداعي أن يوقن برحمة الله اللامتناهية ،
وبأنه سبحانه لا يمنع أحداً من فيض نعمته ، وأن باب رحمته لا يغلق أبداً .
قال
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( قال الله عزَّ وجل : من سألني وهو
يعلم أني أضرُّ وأنفع استجبت له ) ، وقيل للاِمام الصادق ( عليه السلام ) :
ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا ؟! قال ( عليه السلام ) : ( لأنكم تدعون من
لا تعرفونه ) .
وإن حسن الظن بالله من شعب معرفته سبحانه ، فعلى الداعي
أن يحسن الظن باستجابة دعائه ، فيجب أن يرى العبد أن ربه صادقاً في قوله
تعالى : ( ادعُونِي أَستَجِب لَكُم ) ، وقوله : ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه
ويكشف السوء ) .
ويرى أيضاً أنه تعالى لا يخلف الميعاد حتى يُستجاب
دعائه ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( ادعوا الله وأنتم موقنون
بالإجابة ) ، وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إذا دعوت فَأَقبِل
بقلبك ، وظُنَّ حاجتك بالباب ) .
الثاني عشر : العمل بما تقتضيه المعرفة :
على الداعي أن يعمل بما تقتضيه المعرفة لخالقه ، بأن يفي بعهد الله ويطيع أوامره ، وهما من أهم الشروط في استجابة الدعاء .
عن
الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، قال : قال له رجل : جعلت فداك ، إن الله
يقول : ( ادعُونِي أَستَجِب لَكُم ) ، وإنَّا ندعو فلا يُستجاب لنا ؟! قال (
عليه السلام ) : ( لأنكم لا توفون بعهد الله ، لو وفيتم لوفى الله لكم ) .
وعن
أبي حمزة ، قال : إن الله أوحى إلى داود ( عليه السلام ) : يا داود أنه
ليس عبد من عبادي يطيعني فيما آمره إلا أعطيته قبل أن يسألني ، واستجب له
قبل أن يدعوني .
الثالث عشر : الإقبال على الله :
من أهم آداب الدعاء
هو أن يقبل الداعي على الله سبحانه بقلبه ، وعواطفه ، ووجوده ، وأن لا
يدعو بلسانه وقلبه مشغول بشؤون الدنيا ، فهناك اختلاف كبير بين مجرد قراءة
الدعاء ، وبين الدعاء الحقيقي الذي ينسجم فيه اللسان انسجاماً تاماً مع
القلب ، فَتَهتَزُّ له الروح ، وتحصل فيه الحاجة في قلب الإنسان ومشاعره .
قال
الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إن الله عزَّ وجل لا يستجيب دعاء بظهر
قلبٍ ساهٍ ، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن بالإجابة ) .
الرابع عشر : الاضطرار إلى الله سبحانه :
لابد
للداعي أن يتوجه إلى الله تعالى توجه المضطر الذي لا يرجو غيره ، وأن يرجع
في كلِّ حوائجه إلى ربه ، ولا ينزلها بغيره من الأسباب العادية التي لا
تملك ضراً ولا نفعاً ، فإذا لجأ الداعي إلى ربه بقلب سليم وكان دعاؤه
حقيقياً صادقاً جاداً ، وكان مدعوُّه ربَّه وحده لا شريك له ، تحقق
الانقطاع الصادق بالاضطرار الحقيقي إلى الله تعالى الذي هو شرط في قبول
الدعاء .
ويقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في وصيته لولده الحسن (
عليه السلام ) : ( وألجئ نفسك في أمورك كلها إلى إلهك ، فإنك تُلجئها إلى
كهفٍ حريز ، ومانع عزيز ، فالمسألة لربك ، فإن بيده العطاء والحرمان ) .
روي
أن الله تعالى أوحى إلى عيسى ( عليه السلام ) : ( ادعني دعاء الحزين
الغريق الذي ليس له مغيث ، يا عيسى ، سلني ولا تسأل غيري ، فيحسن منك
الدعاء ومني الإجابة ) .
الخامس عشر : تسمية الحوائج :
إن الله تعالى
محيط بعباده ، يعلم حالهم وحاجاتهم ، وهو أقرب إليهم من حبل الوريد ،
ولكنه سبحانه يحبُّ أن تُبثُّ إليه الحوائج ، وتُسمَّى بين يديه تعالى ،
وذلك كي يُقبل الداعي إلى ربه ، محتاجاً إلى كرمه ، فقيراً إلى لطفه
ومغفرته .
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( أن الله تبارك وتعالى
يعلم ما يريد العبد إذا دعاه ، لكنه يحبُّ أن تُبثّ إليه الحوائج ، فإذا
دعوت فسمِّ حاجتك ) .
السادس عشر : ترقيق القلب :
ويستحب الدعاء عند
استشعار رقة القلب وحالة الخشية التي تنتابه بذكر الموت ، والبرزخ ، ومنازل
الآخرة ، وأهوال يوم المحشر ، وذلك لأن رقَّة القلب سبب في الإخلاص المؤدي
إلى القرب من رحمة الله وفضله .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) :
( اغتنموا الدعاء عند الرقة ، فإنها رحمة ) ، وقال أمير المؤمنين ( عليه
السلام ) : ( بالإخلاص يكون الخلاص ، فإذا اشتدَّ الفزغ ، فإلى الله المفزع
) ، وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إذا رقَّ أحدكم فَليَدعُ ،
فإن القلب لا يَرقُّ حتى يخلص ) .
وكلما رقَّ قلب الداعي كلما كان
مهيئاً لاستقبال ذخائر الرحمة الاِلهية ، وتحقق قصده في الاستجابة ، قال
الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إذا اقشَعَرَّ جلدك ، ودمعت عينك ، ووجل
قلبك ، فدونك دونك ، فقد قصد قصدك ) .
أما القلب القاسي بكثرة الذنوب
والمعاصي ، والقلب اللاهي عن ذكر الله ، المتعلق بعرض الدنيا وزخرفها ،
فكلاهما مطرودان عن رحاب الله تعالى ورحمته ، ولا يستجاب لهما دعاء ، لأنه
ليس ثَمَّةَ انسجام بين القلب واللسان ، فقد جاء في وصية النبي الأكرم (
صلى الله عليه وآله ) لعليٍّ ( عليه السلام ) : ( لا يقبل اللهُ دعاءَ قلبٍ
ساهٍ ) .
وعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( لا يقبل اللهُ عزَّ
وجل دعاءَ قلبٍ لاهٍ ) ، وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إن الله
عزَّ وجل لا يستجيب دعاءً بظهر قلبٍ قاس ) .
السابع عشر : البكاء والتباكي :
خير
الدعاء ما هيجه الوجد والأحزان ، وانتهى بالعبد إلى البكاء من خشية الله ،
الذي هو سيد آداب الدعاء وذروتها ، ذلك لأن الدمعة لسان المذنب الذي يفصح
عن توبته وخشوعه وانقطاعه إلى بارئه ، والدمعة سفير رِقَّةِ القلب الذي
يؤذن بالإخلاص والقرب من رحاب الله تعالى .
فقال الإمام الصادق ( عليه
السلام ) لأبي بصير : ( إن خفتَ إمراً يكون أو حاجة تريدها فابدأ بالله
ومَجِّدهُ واثنِ عليه كما هو أهله ، وصلِّ على النبي ( صلى الله عليه وآله )
وَسَل حاجتَكَ وتباكَ ولو مثل رأس الذباب ، إن أبي كان يقول : إن أقرب ما
يكون العبد من الرب عزَّ وجل وهو ساجد باكٍ ) .
وفي البكاء من خشية الله
من الخصوصيات والفضائل ما لا يوجد في غيره من أصناف الطاعات ، فهو رحمة
مزجاة من الخالق العزيز لعباده ، تقرِّبُهُم من منازل لطفه وكرمه ، وتتجاوز
بهم عقبات الآخرة وأهوالها .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : (
إذا أحب الله عبداً نصب في قلبه نائحةً من الحزن ، فإن الله لا يدخل النار
من بكى من خشية الله حتى يعود اللبن إلى الضرع ) ، وقال أمير المؤمنين (
عليه السلام ) : ( بكاء العيون وخشية القلوب من رحمة الله تعالى ذكره ،
فإذا وجدتموها فاغتنموا الدعاء ، ولو أن عبداً بكى في أُمة لرحم الله تعالى
ذكره تلك الأمة لبكاء ذلك العبد ) .
وإذا كان البكاء يفتح القلب على
الله تعالى ، فإن جُمُودَ العين يُعبِّرُ عن قساوة القلب التي تطرد العبد
من رحمة الله ولطفه وتؤدي إلى الشقاء ، وكان فيما أوصى به رسول الله ( صلى
الله عليه وآله ) علياً ( عليه السلام ) : ( يا علي ، أربع خصال من الشقاء :
جمود العين ، وقساوة القلب ، وبُعد الأمل ، وحب البقاء ) .
وما يجب أن
يُعلم أن البكاء إلى الله سبحانه فرقاً من الذنوب ، ووصفٌ محبوب ، لكنه غير
مجدٍ مع عدم الإقلاع عنها ، والتوبة منها ، قال سيد العابدين الإمام علي
بن الحسين ( عليهما السلام ) : ( وليس الخوف من بكى وجرت دموعه ما لم يكن
له ورع يحجزه عن معاصي الله ، وإنما ذلك خوف كاذب ) .
واذا تهيأت للدعاء
ولم تساعدك العينان على البكاء ، فاحمل نفسك على البكاء وتشبَّه بالباكين ،
متذكراً الذنوب العظام ومنازل مشهد اليوم العظيم ، يوم تُبلى السرائر ،
وتظهر فيه الضمائر ، وتنكشف فيه العورات ، عندها يحصل لك باعث الخشية ،
وداعية البكاء الحقيقي ، والرقة وإخلاص القلب .
الثامن عشر : العموم في الدعاء :
ومن
آداب الدعاء أن لا يخصَّ الداعي نفسه بالدعاء ، بل يذكر إخوانه المسلمين
والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ، وهذا من أهم آداب الدعاء ، لأنه يدل على
التضامن ونشر المودَّة والمحبة بين المؤمنين ، وإزالة أسباب الضغينة
والاختلاف فيما بينهم .
وذلك من منازل الرحمة الإلهية ، ومن أقوى
الأسباب في استجابة الدعاء ، فضلاً عن ثوابه الجزيل للداعي والمدعو له ،
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( إذا دعا أحدكم فليعمُّ ، فإنه
أوجب للدعاء ) .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إذا قال الرجل :
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم وجميع
الأموات ، ردَّ الله عليه بعدد ما مضى ومن بقي من كل إنسان دعوة ) ، وقال (
عليه السلام ) : ( دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب يدرُّ الرزق ، ويدفع
المكروه ) .
التاسع عشر : التضرع ومد اليدين :
ومن آداب الدعاء
إظهار التضرع والخشوع ، فقد قال تعالى : ( واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخفية )
الأعراف : 205 ، وقد ذمَّ الله تعالى الذين لا يتضرعون إليه في قوله تعالى
: ( ولقد أخذنا بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ) المؤمنون : 76 .
وعن
محمد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر ( عليه السلام ) عن قول الله عزَّ وجل
: ( فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ) ، فقال ( عليه السلام ) : (
الاستكانة هي الخضوع ، والتضرُّع هو رفع اليدين والتضرُّع بهما ) .
وعن
أبي عبد الله الحسين ( عليه السلام ) قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه
وآله ) يرفع يديه إذا ابتهل ، ودعا كما يستطعم المسكين ، والتضرُّع من
أسباب استجابة الدعاء ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( إن الله
يستحي من العبد أن يرفع إليه يديه فيردَّهُمَا خائبتين ) .
والعلة في
رفع اليدين هي إظهار الاستكانة والفاقة بين يديه تبارك وتعالى ، ولليدين
وظائف وهيئات في الدعاء تتغير حسب حال الداعي في الرغبة والرهبة ،
والتضرُّع ، والتبتُّل والابتهال .
فقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
( الرغبة : تبسط يديك وتظهر باطنهما ، والرهبة : بسط يديك وتظهر ظهرهما ،
والتضرُّع : تُحَرِّك السبابة اليمنى يميناً وشمالاً ، والتَبَتُّل :
تُحَرِّك السبابة اليسرى ترفعها في السماء رسلاً وتضعها ، والابتهال : تبسط
يديك وذراعيك إلى السماء ، والابتهال حين ترى أسباب البكاء ) .
ويكره
أن يرفع الداعي بصره إلى السماء ، لما روي عن الإمام الصادق ( عليه السلام )
عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : ( مَرَّ النبي ( صلى الله عليه وآله )
على رجل رافع بصره إلى السماء يدعو ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه
وآله ) : ( غُضَّ بصرَك ، فإنك لن تراه ) .
العشرون : الإسرار بالدعاء :
فيستحب
أن يدعو الاِنسان خُفية ليبتعد عن مظاهر الرياء التي تمحق الأعمال وتجعلها
هباءً منثوراً ، فقال تعالى : ( ادعو ربكم تضرعا وخفية ) الأعراف : 55 .
وقال
الإمام الرضا ( عليه السلام ) : ( دعوة العبد سِراً دعوة واحدة تعدل سبعين
دعوة علانية ) ، وفي رواية أخرى عنه ( عليه السلام ) : ( دعوة تخفيها أفضل
عند الله من سبعين دعوة تظهرها ) .
الواحد والعشرون : التريُث بالدُعاء :
ومن
آداب الدعاء أن لا يستعجل الداعي في الدعاء ، بل يدعو مترسلاً ، وذلك لأن
العجلة تنافي حالة الإقبال والتوجه إلى الله تعالى ، وما يلزم ذلك من
التضرُّع والرقة ، كما أن العجلة قد تؤدي إلى ارتباك في صورة الدعاء أو
نسيان لبعض أجزائه .
فقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إن رجلاً
دخل المسجد فصلى ركعتين ، ثم سأل الله عزَّ وجل ، فقال رسول الله ( صلى
الله عليه وآله ) : ( عجَّل العبد ربه ) ، وجاء آخر فصلى ركعتين ثم أثنى
على الله عزَّ وجل وصلى على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال رسول الله
( صلى الله عليه وآله ) : ( سَل تُعطَ ) .
الثاني والعشرون : عدم القنوط :
وعلى
الداعي أن لا يقنط من رحمة الله ، ولا يستبطىء الإجابة فيترك الدعاء ، لأن
ذلك من الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء ، وهو بذلك أشبه بالزارع الذي
بذر بذراً فجعل يتعاهده ويرعاه ، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله .
فعن
أبي بصير ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : ( لا يزال المؤمن
بخير ورجاء رحمة من الله عزَّ وجل ما لم يستعجل فيقنط ويترك الدعاء ) ،
فقلتُ : كيف يستعجل ؟ قال ( عليه السلام ) : ( يقول قد دعوت منذ كذا وكذا
وما أرى الاِجابة ) .
وعليه يجب على الداعي أن يفوِّض أمره إلى الله ،
واثقاً بربه ، راضياً بقضائه سبحانه ، وأن يحمل تأخر الإجابة على المصلحة
والخيرة التي حباها إياه مولاه ، وأن يبسط يد الرجاء معاوداً الدعاء لما
فيه من الأجر الكريم والثواب الجزيل .
جاء في وصية أمير المؤمنين ( عليه
السلام ) لولده الحسن ( عليه السلام ) : ( فلا يقنطك إبطاء إجابته ، فإن
العطية على قدر النية ، وربما أُخرت عنك الاِجابة ليكون ذلك أعظم لأجر
السائل ، وأجزل لعطاء الآمل ، وربما سألت الشيء فلا تؤتاه وأُوتيت خيراً
منه عاجلاً أو آجلاً ، أو صرف عنك لما هو خير لك ، فَلَرُبَّ أمر قد طلبته
فيه هلاك دينك لو أوتيته ) .
الثالث والعشرون : الإلحاح بالدعاء :
وعلى
الداعي أن يواظب على الدعاء والمسألة في حال الاِجابة وعدمها ، لأن ترك
الدعاء مع الإجابة من الجفاء الذي ذَمَّهُ تعالى في محكم كتابه بقوله : (
ثم وإذا مس الإنسان ضر دعا ربّه منيباً إليه خوّله نعمة منه نسي ما كان
يدعو إليه من قبل ) الزمر : 8 ، وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لرجل
يَعِظُهُ : ( لا تكن ممن إن أصابه بلاء دعا مضطراً ، وإن ناله رخاء أعرض
مغتراً ) .
أما في حال تأخر الإجابة فيجب معاودة الدعاء وملازمة المسألة
، لفضيلة الدعاء في كونه مخُّ العبادة ، ولأنه سلاح المؤمن الذي يقيه شر
أعدائه من الشيطان ، وحُبُّ الدنيا ، وهوى النفس والنفس الأمَّارة ، ولربما
كان تأخير الإجابة لمصالح لا يعلمها إلا من يعلم السر وأخفى ، فيكون
الدعاء خيراً للعبد في الآجلة ، أو يدفع عنه بلاءً مقدراً لا يعلمه في
العاجلة .
ولعل تأخير الإجابة لمنزلته عند الله سبحانه ، فهو يحب سماع
صوته والإكثار من دعائه ، فعليه أن لا يترك ما يحبه الله سبحانه ، فقد روي
عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) أنه قال : ( إن المؤمن يسأل الله عزَّ
وجل حاجة فيؤخر عنه تعجيل إجابته حُباً لصوته واستماع نحيبه ) .
وعليه ،
فيجب الإلحاح بالدعاء في جميع الأحوال ، ولما في ذلك من الرحمة ، والمغفرة
، واستجابة الدعوات ، وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( رحم الله
عبداً طلب من الله عزَّ وجل حاجَةً فَأَلَحَّ في الدعاء ، استجيب له أو لم
يستجب ) .
وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إن الله عزَّ وجل كره
إلحاح الناس بعضهم على بعض في المسألة ، وأحبَّ ذلك لنفسه ، إن الله عزَّ
وجل يحب أن يُسأل ويُطلب ما عنده ) .
الرابع والعشرون : التقدُم في الدعاء :
ومن
آداب الدعاء أن يدعو العبد في الرخاء على نحو دعائه في الشدة ، لما في ذلك
من الثقة بالله ، والانقطاع إليه ، ولفضله في دفع البلاء ، واستجابة
الدعاء عند الشدة ، فقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( من سَرَّهُ أن
يُستجابَ له في الشدة ، فليكثر الدعاء في الرخاء ) .
وكان من دعاء
الإمام السجاد ( عليه السلام ) : ( ولا تجعلني ممن يبطره الرخاء ، ويصرعه
البلاء ، فلا يدعوك إلا عند حلول نازلة ، ولا يذكرك إلا عند وقوع جانحة ،
فيضرع لك خدَّه ، وترفع بالمسألة إليك يده ) .
الخامس والعشرون : التختم بالعقيق والفَيرُوزَج :
ويستحب
في الدعاء لبس خاتم من عقيق أو من فيروزج ، وذلك لقول الإمام الصادق (
عليه السلام ) : ( ما رُفِعَت كفٌّ إلى الله عزَّ وجل أحبُّ إليه من كفٍّ
فيها عقيق ) ، ولقوله ( عليه السلام ) : ( قال رسول الله ( صلى الله عليه
وآله ) : قال الله عزَّ وجل : إني لأستحي من عبدٍ يرفع يدَه وفيها خاتم
فيروزج فأَرُدَّهَا خائبة ) .
السادس والعشرون : الآداب المتأخرة عند الدعاء :
وهناك جملة آداب متأخرة عن الدعاء ، أَكَّدَت عليها النصوصُ الاِسلامية ، وفيما يلي أهمها :
1 - أن يقول الداعي : ( ما شاء الله لا قوة إلا بالله ) :
فيستحب
أن يقال بعد الدعاء : ( ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله ) ، وفي هذه
الكلمة فضل عظيم لما تنطوي عليه من إقرار العبد بالمشيئة المطلقة ،
وانقطاعه عن جميع الأسباب ، وتعلّقه بحول الله وقوته ، فقال الإمام الصادق (
عليه السلام ) : ( إذا دعا رجل فقال بعدما دعا : ما شاء الله ، لا حول ولا
قوة إلا بالله ، قال الله عزَّ وجل : استَبسَلَ عبدي واستَسلَمَ لأمري ،
اقضوا حاجتَهُ ) ، وعنه ( عليه السلام ) : ( ما من رجل دعا فختم دعاءه بقول
: ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، إلا أجيب صاحبه ) .
2 - أن يصلي الداعي على النبي وآله ( عليهم السلام ) :
فقال
الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( من كانت له إلى الله عزَّ وجل حاجة
فليبدأ بالصلاة على محمد وآله ، ثم يسأل حاجته ، ثم يختم بالصلاة على محمد
وآل محمد ، فإن الله عزَّ وجل أكرم من أن يقبل الطرفين ويدع الوسط ) .
3 - أن يمسح الداعي وجهه ورأسه بيديه :
فمن
الآداب المتأخرة عن الدعاء أن يمسح الداعي وجهه ورأسه بيديه ، فروي عن
الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( ما أبرز عبد يده إلى الله العزيز الجبار
إلا استحيا الله عزَّ وجل أن يردَّها صفراً حتى يجعل فيها من فضل رحمته ما
يشاء ، فإذا دعا أحدكم فلا يَرُدُّ يده حتى يمسح على وجهه ورأسه ) ، وفي
دعائهم ( عليهم السلام ) : ( ولم ترجع يد طالبة صفراً من عطائك ، ولا خائبة
من نحل هباتك ) .
4 - أن يقول الداعي في حالة استجابة دعائه : ( الحمد لله الذي بعزته تتم الصالحات ) وأن يصلي صلاة الشكر .
5 - أن يقول الداعي في حالة عدم استجابة دعائه : ( الحمدُ لله على كلِّ حال ) وأن لا يسأم من الدعاء .
فالدعاء
يُعدُّ صفحة مشرقة من صفحات التراث الإسلامي ، فهو من حيث الفصاحة
والبلاغة آية من آيات الأدب الرفيع ، ومن حيث المضمون وسيلة لنشر تعاليم
القرآن ، وآداب الإسلام ، وتلقين أصول العقيدة ، وكذلك هو تهذيب للنفوس
وسبب لصفائها ، وعامل في تنمية نزعاتها الخيرة ، لتصل إلى درجات الطاعة
والفضيلة .
الدعاء حاجة فطرية عند
الإنسان ، ومن الطبيعي أن يتعرض الإنسان خلال حياته الاجتماعية المعقدة إلى
مشاكل يصعب عليه حلها أحياناً ، ويتعرض أحياناً أخرى إلى حالات حرجة يشعر
بأنه هالك لا محالة ، فنراه يلجأ ويتوسل بقوة غَيبيَّة يعتقد أنها قادرة
على إنقاذه .
وقد يلجأ إليها حتى الذين لا يؤمنون بها ، فقال الله عزَّ
وجل : ( فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلنَاهُ
نِعمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلمٍ بَل هِيَ فِتنَةٌ
وَلَكِنَّ أَكثَرَهُم لا يَعلَمُونَ ) الزمر : 49 .
أما في حياة المؤمن ،
فالدعاء يشكل أساساً متيناً لشخصيته ، لأنه يؤمن بالله تعالى القادر على
كل شيء ، والذي بيده ملكوت السماوات والأرض ، فالله هو الرحمن الرحيم ،
الذي وسعت رحمته كل شيء ، وهو اللطيف بعباده ، الرؤوف بمخلوقاته ، وهو
القادر على ما يريد ، الكريم الذي لم يجعل بينه وبين عبده ما يحجبه عنه
سبحانه وتعالى .
فقد جعل أبوابه مفتَّحة لدعاء الداعين ، وقال لعباده : ( ادعُونِي أَستَجِب لَكُم ) غافر : 60 .
والمؤمن
يتحبب إلى ربه وخالقه سبحانه بالتحدث إليه ، وطلب المزيد من رضاه ورحمته ،
ويسأنس بالدعاء والمناجاة إذا استوحش من الدنيا ، ويتلذذ بالقرب منه تعالى
، والدعاء مناجاة تزول به الهموم والكروب ، وتطمئن النفس باللجوء إلى مَن
بيده مقاليد الأمور .
والمؤمن يلجأ إلى الله ويثق بقدراته ، لأن الإنسان
كلما ازداد معرفة بالله وعلماً ازداد إيماناً وتضرعاً وطاعةً ، وأكثر
الناس معرفة وعلماً بالله سبحانه وتعالى أكثرهم له مسألة وطلباً .
هكذا
يقف العارفون بربهم ، أذلاء خاشعين لم تنسهم دنياهم ذكر الله ، ولم تلههم
تجارتهم عن المناجاة مع الله ، وهم يعلمون أن الإنسان قد يتعرض للخطأ في
معاملاته ، وقد يقترف السيئة فيؤوب إلى ربه منيباً مذعناً معترفاً يطلب
التوبة والمغفرة .
فليس أمام العبد الذي أوبقته الذنوب إلا التوبة
والإنابة إلى الله والدعاء إليه لأنه لا مفرَّ من الله إلا إليه ، فلنجتهد
في مرضاته ، ونعدُّ العدَّة لملاقاته ، عسى أن نحظى بلقائه بوجوه بيضاء
مشرقة بالإيمان الصادق والعمل الصالح ، فحاشا لله أن يناجيه العبد ويمدُّ
إليه يدَ الاستكانة والمذلة ويرده وهو الكريم الجواد ، فالله تعالى لا يرد
السائلين ، وإن أخَّر ذلك إلى حين فلحكمة هو يراها .
فهو الذي أخذ على
نفسه أن لا يخيب من دعاه ، وهو بعباده رؤوف رحيم ، يجيب دعوة الداعي إذا
دعاه ، فَمَن غير الله ندعوه ونتوسل إليه ، وهو أرحم بنا من أبوينا ؟ وقد
جربنا ظلم العباد للعباد .
آداب الدعاء :
لقد حدَّدت النصوص
الإسلامية عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) وآل البيت ( عليهم السلام )
آداباً للدعاء ، وقررت شروطاً لابد للداعي أن يراعيها كي يتقرب إلى خزائن
رحمة الله تعالى وذخائر لطفه ، ويتحقّق مطلوبه من الدعاء ، وإذا أهملها
الداعي فلا تتحقق له الاستجابة المرجوة من الدعاء ، ولا تحصل له نورانية
القلب ، وتهذيب النفس ، وسُمُوُّ الروح المطلوبة في الدعاء ، وفيما يلي أهم
هذه الشروط والآداب :
الأول : الطهارة :
من آداب الدعاء أن يكون
الداعي على وضوء ، سيَّما إذا أراد الدعاء عقيب الصلاة ، فقد رَوَى مسمع عن
الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : ( يا مسمع ، ما يمنع أحدكم إذا
دخل عليه غَمٌّ من غموم الدنيا أن يتوضأ ثم يدخل مسجده ، فيركع ركعتين
فيدعو الله فيهما ؟ ) .
الثاني : الصدقة ، وشمُّ الطيب ، والذهاب إلى المسجد :
روي
عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : ( كان أبي إذا طلب الحاجة ..
قدَّم شيئاً فتصدق به ، وشمَّ شيئاً من طيب ، وراح إلى المسجد ) .
الثالث : الصلاة :
ويستحب
أن يصلي الداعي ركعتين قبل أن يشرع بالدعاء ، فقال الإمام الصادق ( عليه
السلام ) : ( من توضأ فأحسن الوضوء ، ثم صلى ركعتين ، فأتمَّ ركوعهما
وسجودهما ، ثم سلَّم وأثنى على الله عزَّ وجل وعلى رسول الله ( صلى الله
عليه وآله ) ثم سأل حاجته فقد طلب الخير في مظانِّه ، ومن طلب الخير في
مظانِّه لم يخب ) .
الرابع : البسملة :
ومن آداب الدعاء أن يبدأ
الداعي دعاءه بالبسملة ، لقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( لا
يُرَدُّ دعاءٌ أوَّله بسم الله الرحمن الرحيم ) .
الخامس : الثناء على الله تعالى :
ينبغي
للداعي إذا أراد أن يسأل ربه شيئاً من حوائج الدنيا والآخرة أن يحمد الله
ويثني عليه ، ويشكر ألطافه ونعمه قبل أن يشرع في الدعاء .
يقول أمير
المؤمنين ( عليه السلام ) : ( الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره ،
وسبباً للمزيد من فضله ) ، وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إذا طلب
أحدكم الحاجة فَليُثنِ على ربه وليمدحه ) .
وقد أعدَّ الله تعالى لمن
يمدحه ويُمَجِّده على حسن آلائه جزيل الثواب بما يفوق رغبة السائلين ، فقال
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( من تشاغل بالثناء على الله ، أعطاه
الله فوق رغبة السائلين ) .
أمّا ما يجزي من الثناء على الله سبحانه قبل
الشروع بالدعاء ، فقد روي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه سُئل عن
ذلك فقال : ( تقول اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك
شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، وأنت
العزيز الكريم ) .
السادس : الدعاء بالأسماء الحسنى :
على الداعي أن
يدعو الله تعالى بأسمائه الحسنى لقوله تعالى : ( ولله الأسماء الحسنى
فادعوه بها ) الأعراف : 180 ، وقوله تعالى : ( أيا ما تدعو قل ادعو الله
أول ادعوا الرحمن فله الأسماء الحسنى ) الأسراء : 110 .
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( لله عزوجل تسعة وتسعون اسماً ، من دعا الله بها استجيب له ) .
يقول
بعض أهل العلم : ينبغي للداعي إذا مجَّد الله سبحانه وأثنى عليه أن يذكر
من أسماء الله الحسنى ما يناسب مطلوبه ، فإذا كان مطلوبه ( الرزق ) يقول :
يا رزاق ، يا وهاب ، يا جواد ، يا مغني ، يا منعم ، يا مفضل ، يا معطي ، يا
كريم ، يا واسع ، يا مسبب الأسباب ، يا منان ، يا رزاق من يشاء بغير حساب .
وإن
كان مطلوبه ( المغفرة والتوبة ) ، يقول : يا تواب ، يا رحمن ، يا رحيم ،
يا رؤوف ، يا عطوف ، يا صبور ، يا شكور ، يا عفو ، يا غفور ، يا فتاح ، يا
ذا المجد والسماح ، يا محسن ، يا مجمل ، يا منعم .
وإن كان مطلوبه (
الانتقام ) من العدو يقول : يا عزيز ، يا جبار ، يا قهار ، يا منتقم ، ياذا
البطش الشديد ، يا فعال لما يريد ، يا قاصم المردة ، يا طالب ، يا غالب ،
يا مهلك ، يا مدرك ، يا من لا يعجزه شيء .
ولو كان مطلوبه ( العلم ) يقول : يا عالم ، يا فتاح ، يا هادي ، يا مرشد ، يا معز ، يا رافع ، وما أشبه ذلك .
وقد
ورد في الروايات عن أهل البيت ( عليهم السلام ) تأكيدٌ كثير على الدعاء
بالأسماء الحسنى ، وأنَّ الله تعالى يستجيب لعبده المؤمن إذا دعاه بأسمائه
الحسنى ، خصوصاً في حال السجود .
السابع : الصلاة على النبي وآله ( عليهم السلام ) :
لابد
للداعي أن يصلي على محمد وآله ( عليهم السلام ) بعد الحمد والثناء على
الله سبحانه ، وهي تؤكد الولاء لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولأهل
بيته المعصومين ( عليهم السلام ) الذي هو في امتداد الولاء لله تعالى ، لذا
فهي من أهم الوسائل في صعود الأعمال واستجابة الدعاء .
قال رسول الله (
صلى الله عليه وآله ) : ( لا يزال الدعاء محجوباً حتى يصلى عليَّ وعلى أهل
بيتي ) ، وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( كل دعاء محجوب حتى يصلى
على محمد وآل محمد ) .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( من دعا
ولم يذكر النبي ( صلى الله عليه وآله ) رفرف الدعاء على رأسه ، فإذا ذكر
النبي ( صلى الله عليه وآله ) رُفع الدعاء ) .
أما في كيفية الصلاة على
النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فقد روي بالإسناد عن بريدة ، قال : قلنا :
يا رسول الله ، قد عُلِّمنا كيف نسلِّم عليك ، فكيف نصلّي عليك ؟ قال ( صلى
الله عليه وآله ) : ( قولوا : اللهمَّ اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على
محمد وآل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد ) .
ومن
نماذج الصلاة على النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) وأهل بيته ( عليهم
السلام ) في الدعاء ما روي بالإسناد عن حريز ، قال : قلت لأبي عبد الله (
عليه السلام ) : جعلت فداك ، كيف الصلاة على النبي ( صلى الله وآله ) ؟
فقال
: ( قل : اللهمَّ صلِّ على محمد وأهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس
وطهِّرهم تطهيراً ، اللهمَّ صلِّ على محمد وأهل بيته الذين ألهمتهم علمك ،
واستحفظتهم كتابك ، واسترعيتهم عبادك ، اللهمَّ صلِّ على محمد وأهل بيته
الذين أمرت بطاعتهم وأوجبت حبهم ومودتهم ، اللهمَّ صلِّ على محمد وأهل بيته
، الذين جعلتهم ولاة أمرك بعد نبيك صلى الله عليه وعلى أهل بيته ) .
ومن
أدب الدعاء عند سيد الساجدين الإمام علي بن الحسين ( عليهما السلام ) أنه
يجعل الثناء والصلاة على النبي وآله مفتاحاً لأغلب فقرات الدعاء ، وهذا
واضح لمن تأَمَّل الصحيفة السجادية ، وهو المراد بقوله ( صلى الله عليه
وآله ) : ( لا تجعلوني كقدح الراكب ، إن الراكب يملأ قدحه فيشربه إذا شاء ،
اجعلوني في أول الدعاء وآخره ووسطه ) .
الثامن : التوسل بمحمد وأهل بيته ( عليهم السلام ) :
وينبغي
للداعي أن يلج من الأبواب التي أمر الله تعالى بها ، وأهل البيت ( عليهم
السلام ) هم سفن النجاة لهذه الأمَّة ، فحريٌّ بمن دعا الله تعالى أن يتوسل
إلى الله بهم ( عليهم السلام ) ، ويسأله بحقهم ، ويقدمهم بين يدي حوائجه .
قال
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( الأوصياء مني بهم تُنصر أُمتي ،
وبهم يمطرون ، وبهم يدفع الله عنهم ، وبهم استجاب دعاءهم ) ، وقال الإمام
الباقر ( عليه السلام ) : ( من دعا الله بنا أفلح ، ومن دعاه بغيرنا هلك
واستهلك ) .
وعن داود الرقي ، قال : إني كنت أسمع أبا عبد الله ( عليه
السلام ) أكثر ما يلحُّ به في الدعاء على الله بحق الخمسة ، يعني رسول الله
( صلى الله عليه وآله ) وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم
السلام ) .
ومن نماذج التوسل المروي عنهم ( عليهم السلام ) هو أن تقول :
( اللهم أني أتوجه إليك بمحمد وآل محمد ، وأتقرب بهم إليك ، وأقدمهم بين
يدي حوائجي ) .
التاسع : الإقرار بالذنوب :
وعلى الداعي أن يعترف
بذنوبه مقراً ، مذعناً ، تائباً عمَّا اقترفه من خطايا ، وما ارتكبه من
ذنوب ، فقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إنما هي مدحة ، ثم الثناء ،
ثم الإقرار بالذنب ، ثم المسألة ، إنه والله ما خرج عبد من ذنب إلا
بالإقرار ) .
وكان من دعاء أمير المؤمنين ( عليه السلام ) المروي عن
كميل بن زياد : ( وقد أتيتك يا الهي بعد تقصيري وإسرافي على نفسي ، معتذراً
نادماً ، منكسراً مستقيلاً ، مستغفراً منيباً ، مقراً مذعناً معترفاً ، لا
أجد مفراً مما كان مني ، ولا مفزعاً أتوجه إليه في أمري ، غير قبولك عذري
وإدخالك إياي في سعة من رحمتك ، اللهمَّ فاقبل عذري ، وارحم شدة ضري ،
وفُكَّني من شدِّ وثاقي ) .
العاشر : المسألة :
وينبغي للداعي أن
يذكر - بعد الثناء على الله تعالى والصلاة على النبي وآله ( عليهم السلام )
والإقرار بالذنب - ما يريد من خير الدنيا والآخرة ، وأن لا يستكثر مطلوبه ،
لأنه يطلب من ربِّ السموات والأرض الذي لا يعجزه شيء ، ولا تنفد خزائن
رحمته التي وسعت كل شيء .
وعليه أيضاً أن لا يستصغر صغيرة لصغرها ، لما
روي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : ( ولا تتركوا صغيرة
لصِغَرها أن تدعوا بها ، إن صاحب الصغار هو صاحب الكبار ) ، وروي عن رسول
الله ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال : ( ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها ،
حتّى يسأله شسع نعله إذا انقطع ) .
ويستحب للداعي إذا كان دعاؤه عبادة
خالصة يتقرب بها إلى مولاه أن يسأل ما يبقى جماله من خير القضاء في الآجلة
والعاجلة ، وأن تعكس مسألته حالة الافتقار إلى الله تعالى التي يتساوى فيها
جميع البشر .
جاء في الحديث القدسي : ( ياعبادي كُلُّكُم ضالٌّ إلا من
هَدَيتُه ، فاسألوني الهدى أَهدِكم ، وكُلُّكُم فقير إلا من أغنيتُه ،
فاسألوني الغِنى أرزقكم ، وكُلُّكُم مذنب إلا من عافيتُه ، فاسألوني
المغفرةَ أغفر لكم ) .
ومن دعاء الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : (
ياذا الجلال والإكرام ، أسألك عملاً تحب به من عمل به ، ويقيناً تنفع به
من استيقن به حقَّ اليقين في نفاذ أمرك ، اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد ،
واقبض على الصدق نفسي ، واقطع من الدنيا حاجتي ، واجعل فيما عندك رغبتي
شوقاً إلى لقائك ، وهب لي صدق التوكل عليك ) .
الحادي عشر : معرفة الله ، وحسن الظن به سبحانه :
قال
العلامة الحلي ( رضوان الله عليه ) : من شروط حسن الدعاء علم الداعي كون
ما يطلبه بدعائه مقدوراً لمن يدعوه ، وهذا يتضمن أن من دعا الله تعالى يجب
أن يكون عارفاً به وبصفاته ، فعلى الداعي أن يوقن برحمة الله اللامتناهية ،
وبأنه سبحانه لا يمنع أحداً من فيض نعمته ، وأن باب رحمته لا يغلق أبداً .
قال
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( قال الله عزَّ وجل : من سألني وهو
يعلم أني أضرُّ وأنفع استجبت له ) ، وقيل للاِمام الصادق ( عليه السلام ) :
ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا ؟! قال ( عليه السلام ) : ( لأنكم تدعون من
لا تعرفونه ) .
وإن حسن الظن بالله من شعب معرفته سبحانه ، فعلى الداعي
أن يحسن الظن باستجابة دعائه ، فيجب أن يرى العبد أن ربه صادقاً في قوله
تعالى : ( ادعُونِي أَستَجِب لَكُم ) ، وقوله : ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه
ويكشف السوء ) .
ويرى أيضاً أنه تعالى لا يخلف الميعاد حتى يُستجاب
دعائه ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( ادعوا الله وأنتم موقنون
بالإجابة ) ، وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إذا دعوت فَأَقبِل
بقلبك ، وظُنَّ حاجتك بالباب ) .
الثاني عشر : العمل بما تقتضيه المعرفة :
على الداعي أن يعمل بما تقتضيه المعرفة لخالقه ، بأن يفي بعهد الله ويطيع أوامره ، وهما من أهم الشروط في استجابة الدعاء .
عن
الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، قال : قال له رجل : جعلت فداك ، إن الله
يقول : ( ادعُونِي أَستَجِب لَكُم ) ، وإنَّا ندعو فلا يُستجاب لنا ؟! قال (
عليه السلام ) : ( لأنكم لا توفون بعهد الله ، لو وفيتم لوفى الله لكم ) .
وعن
أبي حمزة ، قال : إن الله أوحى إلى داود ( عليه السلام ) : يا داود أنه
ليس عبد من عبادي يطيعني فيما آمره إلا أعطيته قبل أن يسألني ، واستجب له
قبل أن يدعوني .
الثالث عشر : الإقبال على الله :
من أهم آداب الدعاء
هو أن يقبل الداعي على الله سبحانه بقلبه ، وعواطفه ، ووجوده ، وأن لا
يدعو بلسانه وقلبه مشغول بشؤون الدنيا ، فهناك اختلاف كبير بين مجرد قراءة
الدعاء ، وبين الدعاء الحقيقي الذي ينسجم فيه اللسان انسجاماً تاماً مع
القلب ، فَتَهتَزُّ له الروح ، وتحصل فيه الحاجة في قلب الإنسان ومشاعره .
قال
الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إن الله عزَّ وجل لا يستجيب دعاء بظهر
قلبٍ ساهٍ ، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن بالإجابة ) .
الرابع عشر : الاضطرار إلى الله سبحانه :
لابد
للداعي أن يتوجه إلى الله تعالى توجه المضطر الذي لا يرجو غيره ، وأن يرجع
في كلِّ حوائجه إلى ربه ، ولا ينزلها بغيره من الأسباب العادية التي لا
تملك ضراً ولا نفعاً ، فإذا لجأ الداعي إلى ربه بقلب سليم وكان دعاؤه
حقيقياً صادقاً جاداً ، وكان مدعوُّه ربَّه وحده لا شريك له ، تحقق
الانقطاع الصادق بالاضطرار الحقيقي إلى الله تعالى الذي هو شرط في قبول
الدعاء .
ويقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في وصيته لولده الحسن (
عليه السلام ) : ( وألجئ نفسك في أمورك كلها إلى إلهك ، فإنك تُلجئها إلى
كهفٍ حريز ، ومانع عزيز ، فالمسألة لربك ، فإن بيده العطاء والحرمان ) .
روي
أن الله تعالى أوحى إلى عيسى ( عليه السلام ) : ( ادعني دعاء الحزين
الغريق الذي ليس له مغيث ، يا عيسى ، سلني ولا تسأل غيري ، فيحسن منك
الدعاء ومني الإجابة ) .
الخامس عشر : تسمية الحوائج :
إن الله تعالى
محيط بعباده ، يعلم حالهم وحاجاتهم ، وهو أقرب إليهم من حبل الوريد ،
ولكنه سبحانه يحبُّ أن تُبثُّ إليه الحوائج ، وتُسمَّى بين يديه تعالى ،
وذلك كي يُقبل الداعي إلى ربه ، محتاجاً إلى كرمه ، فقيراً إلى لطفه
ومغفرته .
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( أن الله تبارك وتعالى
يعلم ما يريد العبد إذا دعاه ، لكنه يحبُّ أن تُبثّ إليه الحوائج ، فإذا
دعوت فسمِّ حاجتك ) .
السادس عشر : ترقيق القلب :
ويستحب الدعاء عند
استشعار رقة القلب وحالة الخشية التي تنتابه بذكر الموت ، والبرزخ ، ومنازل
الآخرة ، وأهوال يوم المحشر ، وذلك لأن رقَّة القلب سبب في الإخلاص المؤدي
إلى القرب من رحمة الله وفضله .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) :
( اغتنموا الدعاء عند الرقة ، فإنها رحمة ) ، وقال أمير المؤمنين ( عليه
السلام ) : ( بالإخلاص يكون الخلاص ، فإذا اشتدَّ الفزغ ، فإلى الله المفزع
) ، وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إذا رقَّ أحدكم فَليَدعُ ،
فإن القلب لا يَرقُّ حتى يخلص ) .
وكلما رقَّ قلب الداعي كلما كان
مهيئاً لاستقبال ذخائر الرحمة الاِلهية ، وتحقق قصده في الاستجابة ، قال
الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إذا اقشَعَرَّ جلدك ، ودمعت عينك ، ووجل
قلبك ، فدونك دونك ، فقد قصد قصدك ) .
أما القلب القاسي بكثرة الذنوب
والمعاصي ، والقلب اللاهي عن ذكر الله ، المتعلق بعرض الدنيا وزخرفها ،
فكلاهما مطرودان عن رحاب الله تعالى ورحمته ، ولا يستجاب لهما دعاء ، لأنه
ليس ثَمَّةَ انسجام بين القلب واللسان ، فقد جاء في وصية النبي الأكرم (
صلى الله عليه وآله ) لعليٍّ ( عليه السلام ) : ( لا يقبل اللهُ دعاءَ قلبٍ
ساهٍ ) .
وعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( لا يقبل اللهُ عزَّ
وجل دعاءَ قلبٍ لاهٍ ) ، وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إن الله
عزَّ وجل لا يستجيب دعاءً بظهر قلبٍ قاس ) .
السابع عشر : البكاء والتباكي :
خير
الدعاء ما هيجه الوجد والأحزان ، وانتهى بالعبد إلى البكاء من خشية الله ،
الذي هو سيد آداب الدعاء وذروتها ، ذلك لأن الدمعة لسان المذنب الذي يفصح
عن توبته وخشوعه وانقطاعه إلى بارئه ، والدمعة سفير رِقَّةِ القلب الذي
يؤذن بالإخلاص والقرب من رحاب الله تعالى .
فقال الإمام الصادق ( عليه
السلام ) لأبي بصير : ( إن خفتَ إمراً يكون أو حاجة تريدها فابدأ بالله
ومَجِّدهُ واثنِ عليه كما هو أهله ، وصلِّ على النبي ( صلى الله عليه وآله )
وَسَل حاجتَكَ وتباكَ ولو مثل رأس الذباب ، إن أبي كان يقول : إن أقرب ما
يكون العبد من الرب عزَّ وجل وهو ساجد باكٍ ) .
وفي البكاء من خشية الله
من الخصوصيات والفضائل ما لا يوجد في غيره من أصناف الطاعات ، فهو رحمة
مزجاة من الخالق العزيز لعباده ، تقرِّبُهُم من منازل لطفه وكرمه ، وتتجاوز
بهم عقبات الآخرة وأهوالها .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : (
إذا أحب الله عبداً نصب في قلبه نائحةً من الحزن ، فإن الله لا يدخل النار
من بكى من خشية الله حتى يعود اللبن إلى الضرع ) ، وقال أمير المؤمنين (
عليه السلام ) : ( بكاء العيون وخشية القلوب من رحمة الله تعالى ذكره ،
فإذا وجدتموها فاغتنموا الدعاء ، ولو أن عبداً بكى في أُمة لرحم الله تعالى
ذكره تلك الأمة لبكاء ذلك العبد ) .
وإذا كان البكاء يفتح القلب على
الله تعالى ، فإن جُمُودَ العين يُعبِّرُ عن قساوة القلب التي تطرد العبد
من رحمة الله ولطفه وتؤدي إلى الشقاء ، وكان فيما أوصى به رسول الله ( صلى
الله عليه وآله ) علياً ( عليه السلام ) : ( يا علي ، أربع خصال من الشقاء :
جمود العين ، وقساوة القلب ، وبُعد الأمل ، وحب البقاء ) .
وما يجب أن
يُعلم أن البكاء إلى الله سبحانه فرقاً من الذنوب ، ووصفٌ محبوب ، لكنه غير
مجدٍ مع عدم الإقلاع عنها ، والتوبة منها ، قال سيد العابدين الإمام علي
بن الحسين ( عليهما السلام ) : ( وليس الخوف من بكى وجرت دموعه ما لم يكن
له ورع يحجزه عن معاصي الله ، وإنما ذلك خوف كاذب ) .
واذا تهيأت للدعاء
ولم تساعدك العينان على البكاء ، فاحمل نفسك على البكاء وتشبَّه بالباكين ،
متذكراً الذنوب العظام ومنازل مشهد اليوم العظيم ، يوم تُبلى السرائر ،
وتظهر فيه الضمائر ، وتنكشف فيه العورات ، عندها يحصل لك باعث الخشية ،
وداعية البكاء الحقيقي ، والرقة وإخلاص القلب .
الثامن عشر : العموم في الدعاء :
ومن
آداب الدعاء أن لا يخصَّ الداعي نفسه بالدعاء ، بل يذكر إخوانه المسلمين
والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ، وهذا من أهم آداب الدعاء ، لأنه يدل على
التضامن ونشر المودَّة والمحبة بين المؤمنين ، وإزالة أسباب الضغينة
والاختلاف فيما بينهم .
وذلك من منازل الرحمة الإلهية ، ومن أقوى
الأسباب في استجابة الدعاء ، فضلاً عن ثوابه الجزيل للداعي والمدعو له ،
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( إذا دعا أحدكم فليعمُّ ، فإنه
أوجب للدعاء ) .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إذا قال الرجل :
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم وجميع
الأموات ، ردَّ الله عليه بعدد ما مضى ومن بقي من كل إنسان دعوة ) ، وقال (
عليه السلام ) : ( دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب يدرُّ الرزق ، ويدفع
المكروه ) .
التاسع عشر : التضرع ومد اليدين :
ومن آداب الدعاء
إظهار التضرع والخشوع ، فقد قال تعالى : ( واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخفية )
الأعراف : 205 ، وقد ذمَّ الله تعالى الذين لا يتضرعون إليه في قوله تعالى
: ( ولقد أخذنا بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ) المؤمنون : 76 .
وعن
محمد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر ( عليه السلام ) عن قول الله عزَّ وجل
: ( فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ) ، فقال ( عليه السلام ) : (
الاستكانة هي الخضوع ، والتضرُّع هو رفع اليدين والتضرُّع بهما ) .
وعن
أبي عبد الله الحسين ( عليه السلام ) قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه
وآله ) يرفع يديه إذا ابتهل ، ودعا كما يستطعم المسكين ، والتضرُّع من
أسباب استجابة الدعاء ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( إن الله
يستحي من العبد أن يرفع إليه يديه فيردَّهُمَا خائبتين ) .
والعلة في
رفع اليدين هي إظهار الاستكانة والفاقة بين يديه تبارك وتعالى ، ولليدين
وظائف وهيئات في الدعاء تتغير حسب حال الداعي في الرغبة والرهبة ،
والتضرُّع ، والتبتُّل والابتهال .
فقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
( الرغبة : تبسط يديك وتظهر باطنهما ، والرهبة : بسط يديك وتظهر ظهرهما ،
والتضرُّع : تُحَرِّك السبابة اليمنى يميناً وشمالاً ، والتَبَتُّل :
تُحَرِّك السبابة اليسرى ترفعها في السماء رسلاً وتضعها ، والابتهال : تبسط
يديك وذراعيك إلى السماء ، والابتهال حين ترى أسباب البكاء ) .
ويكره
أن يرفع الداعي بصره إلى السماء ، لما روي عن الإمام الصادق ( عليه السلام )
عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : ( مَرَّ النبي ( صلى الله عليه وآله )
على رجل رافع بصره إلى السماء يدعو ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه
وآله ) : ( غُضَّ بصرَك ، فإنك لن تراه ) .
العشرون : الإسرار بالدعاء :
فيستحب
أن يدعو الاِنسان خُفية ليبتعد عن مظاهر الرياء التي تمحق الأعمال وتجعلها
هباءً منثوراً ، فقال تعالى : ( ادعو ربكم تضرعا وخفية ) الأعراف : 55 .
وقال
الإمام الرضا ( عليه السلام ) : ( دعوة العبد سِراً دعوة واحدة تعدل سبعين
دعوة علانية ) ، وفي رواية أخرى عنه ( عليه السلام ) : ( دعوة تخفيها أفضل
عند الله من سبعين دعوة تظهرها ) .
الواحد والعشرون : التريُث بالدُعاء :
ومن
آداب الدعاء أن لا يستعجل الداعي في الدعاء ، بل يدعو مترسلاً ، وذلك لأن
العجلة تنافي حالة الإقبال والتوجه إلى الله تعالى ، وما يلزم ذلك من
التضرُّع والرقة ، كما أن العجلة قد تؤدي إلى ارتباك في صورة الدعاء أو
نسيان لبعض أجزائه .
فقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إن رجلاً
دخل المسجد فصلى ركعتين ، ثم سأل الله عزَّ وجل ، فقال رسول الله ( صلى
الله عليه وآله ) : ( عجَّل العبد ربه ) ، وجاء آخر فصلى ركعتين ثم أثنى
على الله عزَّ وجل وصلى على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال رسول الله
( صلى الله عليه وآله ) : ( سَل تُعطَ ) .
الثاني والعشرون : عدم القنوط :
وعلى
الداعي أن لا يقنط من رحمة الله ، ولا يستبطىء الإجابة فيترك الدعاء ، لأن
ذلك من الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء ، وهو بذلك أشبه بالزارع الذي
بذر بذراً فجعل يتعاهده ويرعاه ، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله .
فعن
أبي بصير ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : ( لا يزال المؤمن
بخير ورجاء رحمة من الله عزَّ وجل ما لم يستعجل فيقنط ويترك الدعاء ) ،
فقلتُ : كيف يستعجل ؟ قال ( عليه السلام ) : ( يقول قد دعوت منذ كذا وكذا
وما أرى الاِجابة ) .
وعليه يجب على الداعي أن يفوِّض أمره إلى الله ،
واثقاً بربه ، راضياً بقضائه سبحانه ، وأن يحمل تأخر الإجابة على المصلحة
والخيرة التي حباها إياه مولاه ، وأن يبسط يد الرجاء معاوداً الدعاء لما
فيه من الأجر الكريم والثواب الجزيل .
جاء في وصية أمير المؤمنين ( عليه
السلام ) لولده الحسن ( عليه السلام ) : ( فلا يقنطك إبطاء إجابته ، فإن
العطية على قدر النية ، وربما أُخرت عنك الاِجابة ليكون ذلك أعظم لأجر
السائل ، وأجزل لعطاء الآمل ، وربما سألت الشيء فلا تؤتاه وأُوتيت خيراً
منه عاجلاً أو آجلاً ، أو صرف عنك لما هو خير لك ، فَلَرُبَّ أمر قد طلبته
فيه هلاك دينك لو أوتيته ) .
الثالث والعشرون : الإلحاح بالدعاء :
وعلى
الداعي أن يواظب على الدعاء والمسألة في حال الاِجابة وعدمها ، لأن ترك
الدعاء مع الإجابة من الجفاء الذي ذَمَّهُ تعالى في محكم كتابه بقوله : (
ثم وإذا مس الإنسان ضر دعا ربّه منيباً إليه خوّله نعمة منه نسي ما كان
يدعو إليه من قبل ) الزمر : 8 ، وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لرجل
يَعِظُهُ : ( لا تكن ممن إن أصابه بلاء دعا مضطراً ، وإن ناله رخاء أعرض
مغتراً ) .
أما في حال تأخر الإجابة فيجب معاودة الدعاء وملازمة المسألة
، لفضيلة الدعاء في كونه مخُّ العبادة ، ولأنه سلاح المؤمن الذي يقيه شر
أعدائه من الشيطان ، وحُبُّ الدنيا ، وهوى النفس والنفس الأمَّارة ، ولربما
كان تأخير الإجابة لمصالح لا يعلمها إلا من يعلم السر وأخفى ، فيكون
الدعاء خيراً للعبد في الآجلة ، أو يدفع عنه بلاءً مقدراً لا يعلمه في
العاجلة .
ولعل تأخير الإجابة لمنزلته عند الله سبحانه ، فهو يحب سماع
صوته والإكثار من دعائه ، فعليه أن لا يترك ما يحبه الله سبحانه ، فقد روي
عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) أنه قال : ( إن المؤمن يسأل الله عزَّ
وجل حاجة فيؤخر عنه تعجيل إجابته حُباً لصوته واستماع نحيبه ) .
وعليه ،
فيجب الإلحاح بالدعاء في جميع الأحوال ، ولما في ذلك من الرحمة ، والمغفرة
، واستجابة الدعوات ، وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( رحم الله
عبداً طلب من الله عزَّ وجل حاجَةً فَأَلَحَّ في الدعاء ، استجيب له أو لم
يستجب ) .
وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إن الله عزَّ وجل كره
إلحاح الناس بعضهم على بعض في المسألة ، وأحبَّ ذلك لنفسه ، إن الله عزَّ
وجل يحب أن يُسأل ويُطلب ما عنده ) .
الرابع والعشرون : التقدُم في الدعاء :
ومن
آداب الدعاء أن يدعو العبد في الرخاء على نحو دعائه في الشدة ، لما في ذلك
من الثقة بالله ، والانقطاع إليه ، ولفضله في دفع البلاء ، واستجابة
الدعاء عند الشدة ، فقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( من سَرَّهُ أن
يُستجابَ له في الشدة ، فليكثر الدعاء في الرخاء ) .
وكان من دعاء
الإمام السجاد ( عليه السلام ) : ( ولا تجعلني ممن يبطره الرخاء ، ويصرعه
البلاء ، فلا يدعوك إلا عند حلول نازلة ، ولا يذكرك إلا عند وقوع جانحة ،
فيضرع لك خدَّه ، وترفع بالمسألة إليك يده ) .
الخامس والعشرون : التختم بالعقيق والفَيرُوزَج :
ويستحب
في الدعاء لبس خاتم من عقيق أو من فيروزج ، وذلك لقول الإمام الصادق (
عليه السلام ) : ( ما رُفِعَت كفٌّ إلى الله عزَّ وجل أحبُّ إليه من كفٍّ
فيها عقيق ) ، ولقوله ( عليه السلام ) : ( قال رسول الله ( صلى الله عليه
وآله ) : قال الله عزَّ وجل : إني لأستحي من عبدٍ يرفع يدَه وفيها خاتم
فيروزج فأَرُدَّهَا خائبة ) .
السادس والعشرون : الآداب المتأخرة عند الدعاء :
وهناك جملة آداب متأخرة عن الدعاء ، أَكَّدَت عليها النصوصُ الاِسلامية ، وفيما يلي أهمها :
1 - أن يقول الداعي : ( ما شاء الله لا قوة إلا بالله ) :
فيستحب
أن يقال بعد الدعاء : ( ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله ) ، وفي هذه
الكلمة فضل عظيم لما تنطوي عليه من إقرار العبد بالمشيئة المطلقة ،
وانقطاعه عن جميع الأسباب ، وتعلّقه بحول الله وقوته ، فقال الإمام الصادق (
عليه السلام ) : ( إذا دعا رجل فقال بعدما دعا : ما شاء الله ، لا حول ولا
قوة إلا بالله ، قال الله عزَّ وجل : استَبسَلَ عبدي واستَسلَمَ لأمري ،
اقضوا حاجتَهُ ) ، وعنه ( عليه السلام ) : ( ما من رجل دعا فختم دعاءه بقول
: ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، إلا أجيب صاحبه ) .
2 - أن يصلي الداعي على النبي وآله ( عليهم السلام ) :
فقال
الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( من كانت له إلى الله عزَّ وجل حاجة
فليبدأ بالصلاة على محمد وآله ، ثم يسأل حاجته ، ثم يختم بالصلاة على محمد
وآل محمد ، فإن الله عزَّ وجل أكرم من أن يقبل الطرفين ويدع الوسط ) .
3 - أن يمسح الداعي وجهه ورأسه بيديه :
فمن
الآداب المتأخرة عن الدعاء أن يمسح الداعي وجهه ورأسه بيديه ، فروي عن
الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( ما أبرز عبد يده إلى الله العزيز الجبار
إلا استحيا الله عزَّ وجل أن يردَّها صفراً حتى يجعل فيها من فضل رحمته ما
يشاء ، فإذا دعا أحدكم فلا يَرُدُّ يده حتى يمسح على وجهه ورأسه ) ، وفي
دعائهم ( عليهم السلام ) : ( ولم ترجع يد طالبة صفراً من عطائك ، ولا خائبة
من نحل هباتك ) .
4 - أن يقول الداعي في حالة استجابة دعائه : ( الحمد لله الذي بعزته تتم الصالحات ) وأن يصلي صلاة الشكر .
5 - أن يقول الداعي في حالة عدم استجابة دعائه : ( الحمدُ لله على كلِّ حال ) وأن لا يسأم من الدعاء .
فالدعاء
يُعدُّ صفحة مشرقة من صفحات التراث الإسلامي ، فهو من حيث الفصاحة
والبلاغة آية من آيات الأدب الرفيع ، ومن حيث المضمون وسيلة لنشر تعاليم
القرآن ، وآداب الإسلام ، وتلقين أصول العقيدة ، وكذلك هو تهذيب للنفوس
وسبب لصفائها ، وعامل في تنمية نزعاتها الخيرة ، لتصل إلى درجات الطاعة
والفضيلة .