غزوات النبي صلى الله عليه وسلم مصدر عظيم من مصادر السيرة النبوية، تتعلم الأمة الإسلامية من خلال أحداثها ومواقفها: العقيدة السليمة، والأخلاق الطيبة، وحب الجهاد والبذل في سبيل الله عز وجل.. ومن هذه الغزوات غزوة أُحُد التي وقعت في شهر شوال من السنة الثالثة من الهجرة النبوية، ودارت رحاها قُرْبَ المدينة المنورة عندَ جبل أحد والذي سُميت الغزوة باسمه، ومع ما في هذه الغزوة مِن شدة وابتلاء، وآلام وجراح، وشهداء ـ بلغوا سبعين شهيداً ـ، إلا أن فيها من المواقف والدروس والعبر الكثير والكثير، منها: موقفه صلى الله عليه وسلم الذي ثبت فيه أمام المشركين، وإصابتهم له إصابات عديدة، حتى قال صلوات الله وسلامه عليه: (كيف يُفلحُ قوم شجّوا نبيّهم وكسروا رباعيته) رواه البخاري.
استبسل المسلمون في القتال في هذه الغزوة، وانتصروا في بدايتها لما التزموا بأوامر النبي صلى الله عليه وسلم، وانسحب المشركون منهزمين، وتبعهم المسلمون يقتلون ويغنمون، فلما رأى رماة المسلمين انسحاب المشركين وهروبهم من ساحة القتال نزل كثير منهم وتركوا أماكنهم (رغم تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم عليهم بعدم ترك أماكنهم لأي سبب)، وخالفوا أمره صلى الله عليه وسلم، وظل أميرهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه مكانه ومعه عدد قليل منهم، وانتهز خالد بن الوليد ـ ولازال يومئذ مشركاً ـ فرصة خلو الجبل من رماة المسلمين ونزول أكثرهم، فالتف ورجع هو ومن معه من جنوده، فقتلوا مَنْ بقِيَ من الرماة وأميرهم، وأخذوا يهجمون على المسلمين من الخلف يقتلونهم، وحينئذ انكشف المسلمون ودخلهم الرعب، وأوجع المشركون فيهم قتالاً شديداً، حتى وصلوا الى النبي صلى الله عليه وسلم، وطمعوا في القضاء عليه وقتله.. وفي هذا الموقف الشديد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم كالجبل الأشم، يدافع جموع المشركين المحيطين به من كل ناحية، وهو يقول للمسلمين: إليَّ عباد الله، إليَّ عباد الله، فاجتمع إليه نحو ثلاثين رجلاً من أصحابه، فدافعوا عنه بأجسادهم وأرواحهم، في صور رائعة من الحب والتضحية، فقام أبو طلحة رضي الله عنه يُسوِّر نفسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ويرفع صدره ليقيه من سهام العدو، ويقول: "نحري دون نحرك يا رسول الله"، حتى شُلّت يمينه وأثخنته الجراح، وأبو دجانة رضي الله عنه يحمي ظهره صلى الله عليه وسلم والسهام تقع عليه ولا يتحرك، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يجعل من نفسه سَلَّمَاً للنبي صلى الله عليه وسلم يصعد عليه ليرتقي إلى صخرة بالجبل ليحميه من المشركين.
ورغم استبسال الصحابة رضوان الله عليهم في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن بعض المشركين وصلوا إليه، وجرحوه جراحات عديدة، إذ رماه عتبة بن أبي وقاص بالحجارة فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى، وتقدم عبد الله بن شهاب الزهري إليه فشجه في جبهته، وضربه عبد الله بن قمئة على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة، شكا لأجلها أكثر من شهر، إلا أنه لم يتمكن من هتك الدرعين، ثم ضرب على وجنته صلى الله عليه وسلم ضربة أخرى عنيفة كالأولى، حتى دخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، وأصيب النبي صلى الله عليه وسلم إصابات عديدة.
عن أنس رضى الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كُسِرَتْ رَباعيتُه يوم أُحُدٍ، وشُجَّ في رأسه، فجعل يسلت الدم عن وجهه ويقول: (كيف يُفلحُ قوم شجّوا نبيّهم وكسروا رباعيته (السن التي تلي الثنية من كل جانب) وهو يدعوهم إلى الله؟!، فأنزل الله عز وجلّ قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ}(آل عمران:128)) رواه البخاري.
وبعد انتهاء القتال أخذ علي وفاطمة رضي الله عنهما يضمّدان جراح النبي صلى الله عليه وسلم: فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: قال: (شهِدتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حينَ كُسرت رباعيتُه، وجُرحَ وجهُه، وَهُشِّمتِ البَيضةُ علَى رأسه (يوم أحد)، وإنِّي لأعرف من يغسل الدَّم عن وجهه، ومن ينقل عليه الماء، وماذا جعل على جُرحِه حتَّى رقأَ الدَّمُ، كانت فاطمة بنت محمَّدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدَمَ عن وجهه، وعليٌّ رضي الله عنه ينقل الماء إليها في مَجنَّةٍ، فلمَّا غسلتِ الدَّمَ عن وجه أبيها أحرقت حصيراً، حتَّى إذا صارت رماداً أخذت من ذلك الرَّماد فوضعتهُ على وجهه حتَّى رقأَ (انقطع) الدَّمُ، ثمَّ قال صلى الله عليه وسلم يومئذٍ: اشتدَّ غضبُ الله على قوم كَلَمُوا (جرحوا) وجْهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مَكثَ ساعةً، ثمّ قال: اللَّهمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون) رواه الطبراني وصححه الألباني.
قال ابن حجر في فتح الباري: "قال ابن إسحاق في المغازي حدثني حميد الطويل عن أنس قال: (كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد، وشج وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم، فأنزل الله الآية.. وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد وهو يسلت الدم عن وجهه: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وأدموا وجهه، فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}، وذكر ابن هشام في حديث أبي سعيد الخدري أن عتبة بن أبي وقاص هو الذي كسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب الزهري هو الذي شجه في جبهته، وأن عبد الله بن قمئة جرحه في وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، وأن مالك بن سنان مصَّ الدم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ازدرده فقال: لن تمسك النار، وروى ابن إسحاق من حديث سعد بن أبي وقاص قال: فما حرصت على قتل رجل قط حرصي على قتل أخي عتبة بن أبي وقاص لما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وفي الطبراني من حديث أبي أمامة قال: رمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فشج وجهه وكسر رباعيته، فقال: خذها وأنا ابن قمئة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسح الدم عن وجهه: أقمأك الله، فسلط الله عليه تيس جبل فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة..".
ليس لك من الأمر شيء:
قال ابن كثير: " {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}(آل عمران:128) أي: بل الأمر كله إلي، كما قال: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}(الرعد:40)، وقال {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}(البقرة:272)، وقال {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}(القصص:56). قال محمد بن إسحاق في قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} أي: ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم. ثم ذكر تعالى بقية الأقسام فقال: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي: مما هم فيه من الكفر ويهديهم بعد الضلالة، {أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} أي: في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم، ولهذا قال: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} أي: يستحقون ذلك".
وقال القرطبي: "إنما نبه الله تعالى على نبيه على أن الأمر ليس إليه، وأنه لا يعلم من الغيب شيئاً إلا ما أعلمه، وأن الأمر كله لله، يتوب على من يشاء ويعجل العقوبة لمن يشاء" .. وقال: "قوله عليه السلام: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم) استبعاد لتوفيق من فعل ذلك به. وقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} تقريب لما استبعده وإطماع في إسلامهم، ولما أُطْمِع في ذلك قال صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، كما في صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: (كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول:رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)".
وقال ابن بطال: " قوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}(آل عمران: 128)، يعنى ليس لك من أمر خَلْقِى شىء، وإنما أمرهم والقضاء فيهم بيدى دون غيرى فيهم، وأقضى الذى أشاء من التوبة على من كفر بى وعصانى أو العذاب: إما فى عاجل الدنيا بالقتل والنقم، وإما فى الآجل بما أعددت لأهل الكفر بى".
أنبياء ورسل الله صلوات الله وسلامه عليهم هم صفوة البشر، كما قال الله تعالى: {اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ}(الحج:75)، وهم مع ذلك أشد الناس ابتلاء, فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم: (أيُّ الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمْثَلُ فالأمثل) رواه الترمذي وصححه الألباني. وما حدث للأنبياء من ابتلاء، وما حدث كذلك من ابتلاء لنبينا صلى الله عليه وسلم في حياته كلها ـ بما فيها غزوة أحد ـ فيه حِكم كثيرة، منها: رفع منزلتهم ودرجاتهم، وأن يكونوا أسوة لمن بعدهم من أممهم في صبرهم وثباتهم، ومنها: ألا يغلوا فيهم أتباعهم فيخلعوا عليهم ما هو من خصائص الألوهية.
قال ابن القيم: "فإنه سبحانه كما يحمي الأنبياء ويصونهم ويحفظهم ويتولاهم يبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم: ليستوجبوا كمال كرامته. وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء صبروا ورضوا وتأسوا بهم.. فهذا من بعض حكمته تعالى في ابتلاء أنبيائه ورسله بإيذاء قومهم، وله الحكمة البالغة، والنعمة السابغة، لا إله غيره، ولا رب سواه"، و قال ابن تيمية": وقوع الأسقام والابتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لينالوا جزيل الأجر ولتعرف أممهم وغيرهم ما أصابهم ويتأسوا بهم". وقال القاضي عياض: "وليُعلم أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر ليتيقنوا أنهم مخلوقون مربوبون، ولا يُفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات، وتلبيس الشيطان من أمرهم ما لبَّسَه على النصارى وغيرهم".
استبسل المسلمون في القتال في هذه الغزوة، وانتصروا في بدايتها لما التزموا بأوامر النبي صلى الله عليه وسلم، وانسحب المشركون منهزمين، وتبعهم المسلمون يقتلون ويغنمون، فلما رأى رماة المسلمين انسحاب المشركين وهروبهم من ساحة القتال نزل كثير منهم وتركوا أماكنهم (رغم تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم عليهم بعدم ترك أماكنهم لأي سبب)، وخالفوا أمره صلى الله عليه وسلم، وظل أميرهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه مكانه ومعه عدد قليل منهم، وانتهز خالد بن الوليد ـ ولازال يومئذ مشركاً ـ فرصة خلو الجبل من رماة المسلمين ونزول أكثرهم، فالتف ورجع هو ومن معه من جنوده، فقتلوا مَنْ بقِيَ من الرماة وأميرهم، وأخذوا يهجمون على المسلمين من الخلف يقتلونهم، وحينئذ انكشف المسلمون ودخلهم الرعب، وأوجع المشركون فيهم قتالاً شديداً، حتى وصلوا الى النبي صلى الله عليه وسلم، وطمعوا في القضاء عليه وقتله.. وفي هذا الموقف الشديد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم كالجبل الأشم، يدافع جموع المشركين المحيطين به من كل ناحية، وهو يقول للمسلمين: إليَّ عباد الله، إليَّ عباد الله، فاجتمع إليه نحو ثلاثين رجلاً من أصحابه، فدافعوا عنه بأجسادهم وأرواحهم، في صور رائعة من الحب والتضحية، فقام أبو طلحة رضي الله عنه يُسوِّر نفسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ويرفع صدره ليقيه من سهام العدو، ويقول: "نحري دون نحرك يا رسول الله"، حتى شُلّت يمينه وأثخنته الجراح، وأبو دجانة رضي الله عنه يحمي ظهره صلى الله عليه وسلم والسهام تقع عليه ولا يتحرك، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يجعل من نفسه سَلَّمَاً للنبي صلى الله عليه وسلم يصعد عليه ليرتقي إلى صخرة بالجبل ليحميه من المشركين.
ورغم استبسال الصحابة رضوان الله عليهم في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن بعض المشركين وصلوا إليه، وجرحوه جراحات عديدة، إذ رماه عتبة بن أبي وقاص بالحجارة فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى، وتقدم عبد الله بن شهاب الزهري إليه فشجه في جبهته، وضربه عبد الله بن قمئة على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة، شكا لأجلها أكثر من شهر، إلا أنه لم يتمكن من هتك الدرعين، ثم ضرب على وجنته صلى الله عليه وسلم ضربة أخرى عنيفة كالأولى، حتى دخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، وأصيب النبي صلى الله عليه وسلم إصابات عديدة.
عن أنس رضى الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كُسِرَتْ رَباعيتُه يوم أُحُدٍ، وشُجَّ في رأسه، فجعل يسلت الدم عن وجهه ويقول: (كيف يُفلحُ قوم شجّوا نبيّهم وكسروا رباعيته (السن التي تلي الثنية من كل جانب) وهو يدعوهم إلى الله؟!، فأنزل الله عز وجلّ قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ}(آل عمران:128)) رواه البخاري.
وبعد انتهاء القتال أخذ علي وفاطمة رضي الله عنهما يضمّدان جراح النبي صلى الله عليه وسلم: فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: قال: (شهِدتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حينَ كُسرت رباعيتُه، وجُرحَ وجهُه، وَهُشِّمتِ البَيضةُ علَى رأسه (يوم أحد)، وإنِّي لأعرف من يغسل الدَّم عن وجهه، ومن ينقل عليه الماء، وماذا جعل على جُرحِه حتَّى رقأَ الدَّمُ، كانت فاطمة بنت محمَّدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدَمَ عن وجهه، وعليٌّ رضي الله عنه ينقل الماء إليها في مَجنَّةٍ، فلمَّا غسلتِ الدَّمَ عن وجه أبيها أحرقت حصيراً، حتَّى إذا صارت رماداً أخذت من ذلك الرَّماد فوضعتهُ على وجهه حتَّى رقأَ (انقطع) الدَّمُ، ثمَّ قال صلى الله عليه وسلم يومئذٍ: اشتدَّ غضبُ الله على قوم كَلَمُوا (جرحوا) وجْهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مَكثَ ساعةً، ثمّ قال: اللَّهمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون) رواه الطبراني وصححه الألباني.
قال ابن حجر في فتح الباري: "قال ابن إسحاق في المغازي حدثني حميد الطويل عن أنس قال: (كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد، وشج وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم، فأنزل الله الآية.. وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد وهو يسلت الدم عن وجهه: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وأدموا وجهه، فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}، وذكر ابن هشام في حديث أبي سعيد الخدري أن عتبة بن أبي وقاص هو الذي كسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب الزهري هو الذي شجه في جبهته، وأن عبد الله بن قمئة جرحه في وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، وأن مالك بن سنان مصَّ الدم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ازدرده فقال: لن تمسك النار، وروى ابن إسحاق من حديث سعد بن أبي وقاص قال: فما حرصت على قتل رجل قط حرصي على قتل أخي عتبة بن أبي وقاص لما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وفي الطبراني من حديث أبي أمامة قال: رمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فشج وجهه وكسر رباعيته، فقال: خذها وأنا ابن قمئة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسح الدم عن وجهه: أقمأك الله، فسلط الله عليه تيس جبل فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة..".
ليس لك من الأمر شيء:
قال ابن كثير: " {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}(آل عمران:128) أي: بل الأمر كله إلي، كما قال: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}(الرعد:40)، وقال {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}(البقرة:272)، وقال {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}(القصص:56). قال محمد بن إسحاق في قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} أي: ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم. ثم ذكر تعالى بقية الأقسام فقال: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي: مما هم فيه من الكفر ويهديهم بعد الضلالة، {أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} أي: في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم، ولهذا قال: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} أي: يستحقون ذلك".
وقال القرطبي: "إنما نبه الله تعالى على نبيه على أن الأمر ليس إليه، وأنه لا يعلم من الغيب شيئاً إلا ما أعلمه، وأن الأمر كله لله، يتوب على من يشاء ويعجل العقوبة لمن يشاء" .. وقال: "قوله عليه السلام: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم) استبعاد لتوفيق من فعل ذلك به. وقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} تقريب لما استبعده وإطماع في إسلامهم، ولما أُطْمِع في ذلك قال صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، كما في صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: (كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول:رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)".
وقال ابن بطال: " قوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}(آل عمران: 128)، يعنى ليس لك من أمر خَلْقِى شىء، وإنما أمرهم والقضاء فيهم بيدى دون غيرى فيهم، وأقضى الذى أشاء من التوبة على من كفر بى وعصانى أو العذاب: إما فى عاجل الدنيا بالقتل والنقم، وإما فى الآجل بما أعددت لأهل الكفر بى".
أنبياء ورسل الله صلوات الله وسلامه عليهم هم صفوة البشر، كما قال الله تعالى: {اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ}(الحج:75)، وهم مع ذلك أشد الناس ابتلاء, فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم: (أيُّ الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمْثَلُ فالأمثل) رواه الترمذي وصححه الألباني. وما حدث للأنبياء من ابتلاء، وما حدث كذلك من ابتلاء لنبينا صلى الله عليه وسلم في حياته كلها ـ بما فيها غزوة أحد ـ فيه حِكم كثيرة، منها: رفع منزلتهم ودرجاتهم، وأن يكونوا أسوة لمن بعدهم من أممهم في صبرهم وثباتهم، ومنها: ألا يغلوا فيهم أتباعهم فيخلعوا عليهم ما هو من خصائص الألوهية.
قال ابن القيم: "فإنه سبحانه كما يحمي الأنبياء ويصونهم ويحفظهم ويتولاهم يبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم: ليستوجبوا كمال كرامته. وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء صبروا ورضوا وتأسوا بهم.. فهذا من بعض حكمته تعالى في ابتلاء أنبيائه ورسله بإيذاء قومهم، وله الحكمة البالغة، والنعمة السابغة، لا إله غيره، ولا رب سواه"، و قال ابن تيمية": وقوع الأسقام والابتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لينالوا جزيل الأجر ولتعرف أممهم وغيرهم ما أصابهم ويتأسوا بهم". وقال القاضي عياض: "وليُعلم أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر ليتيقنوا أنهم مخلوقون مربوبون، ولا يُفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات، وتلبيس الشيطان من أمرهم ما لبَّسَه على النصارى وغيرهم".