إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونشكره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجدَ له وليا مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، من بعثه الله رحمة للعالمين، هاديا ومبشرا ونذيرا، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى كل رسول أرسله، عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله رحمكم الله، [ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ].
 
عباد الله،
 
إن في تاريخِ العُظماء لخبرا، وإن في سِيَرِ العُلماء لعِبرا، وإن في أحوالِ النُّبلاء لَمُدَّكرا، وأمتنا الإسلامية، أمةُ أمجادٍ وحضارة، وتاريخٍ وأصالة، وقدِ ازدانَ سِجِلُّها الحافلِ عبر التاريخ، بكوكبةٍ منَ الأئمةِ العظام، والعلماءِ الأفذاذِ الكرام، مثَّلوا عِقْدَ جيدِها وتاجَ رأسِها، ودُرّيَّ كواكِبِها، كانوا في الفضلِ شموسا ساطعه، وفي العلمِ نجوما لامعه، فعُدُّوا بحقٍّ أنوارَ هُدًى، ومصابيحَ دُجًى، وشموعا، تضيءُ بمَنهَجِها المتلألىءِ ، وعِلمِها المُشرقِ الوضّاءِ غياهبَ الظُّلَم، وتُبَدِّّدُها بأنوارِ العلومِ والحِكم.
 
إخوة الإيمان
 
وكان مِن أجلّ هؤلاء الأئمة، ومن أفضل هؤلاء العلماء، جبلٌ أشمُّ، وبدرٌ أتَمُّ، وحَبْرٌ بحرٌ وطَودٌ شامخٌ، فريدُ عصرهِ، ونادرةُ دهرهِ، قلَّ أن يجودَ الزَّمنُ بمثلِه، إنه عالمُ العصر، وزاهِدُ الدهر، ومحدّثُ الدنيا، وعلمُ السُّنة، وباذلُ نفسِه في المِحنة، قلَّ أن ترى العيونُ مثلَهُ،  كانَ رأسا في العلم والعمل، والتمسك بالأثر، ذا عقلٍ رزين، وصدقٍ متين، وإخلاصٍ مكين، اِنتهت إليه الإمامةُ في الفقهِ والحديث، والإخلاصِ والورع، قال فيه الإمامُ الشافعيُّ رضي الله عنه: رأيتُ ببغدادَ شابًّا، إذا قال حدّثنا قال الناسُ كلُّهم صَدَق،  وقال فيه: خرجتُ من بغداد، فما خلَّفتُ رَجُلا، أفضلَ ولا أعلمَ ولا أفقهَ ولا أتقى منه، أتدرون عبادَ الله، مَنْ تُعطرونَ أسماعكم، بذكرِ سيرته؟ إنه إمامُ أهلِ السنة، الإمامُ الفذّ، والعالمُ الجِهبِذ، الإمامُ المُفضّل، والعالمُ  المبجل ، أبو عبد الله أحمدُ بنُ محمدِ بنِ حنبلٍ رضي الله عنه، من عرفتْهُ الدنيا، وذاعَ ذِكرُه، وشاعَ صيتُهُ في الآفاق، إماما عالما، فقيها محدثا، صابرا شاكرا، لا يخافُ في الله لومةَ لائم، يتحملُ المحنَ في سبيل الله، والذّبِّ عن سنة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ويُقارعُ الباطلَ بحِكمة نادرة، لا تُزعزِعُه الأهواء، ولا تَمِـيدُ به العواصف، حتى عُدَّ قِمّةَ عصرهِ، وما بعد عصره، وأُجمِعَ على جلالته وقدرِه.
 
إخوة الإيمان
 
ومِن أهم ما في حياةِ الإمام أبي عبد الله أحمدَ بنِ حنبلٍ،  رحمه الله، منهجُه في العقيدة،  والتزامُه نهجَ الكتاب والسنة، وما عليه سلفُ الأمة، في توحيدِ الله وتنـزيهه عن  الجسم والمكان والجهة والحركة والسكون، فقد نَقل الإمامُ  أبو الفضلِ التميميُّ الحنبلي، في كتاب اعتقاد الإمام أحمدَ، عن الإمام أحمدَ أنه قال:" واللهُ تعالى لا يلحقه تغيّرٌ ولا تبدل، ولا تلحَقُه الحدودُ  قبلَ خلقِ العرش، ولا بعدَ خلقِ العرش "، وكان يُنكرُ الإمامُ أحمدُ على من يقول إن الله في كلِ مكانٍ بذاته، لأن  الأمكنةَ كلَّها محدودة. وبيّنَ الإمامُ الحافظ ابنُ الجوزي الحنبلي، في كتابه دفعِ شُبَهِ التشبيه، براءةَ أهلِ السنة عامةً، والإمام ِأحمدَ خاصةً، من عقيدة المجسمة وقال: كان أحمدُ لا يقولُ بالجهة للبارىء تعالى. ونقلَ الإمامُ الحافظُ العراقيُّ، والإمامُ القَرافي، والشيخُ ابنُ حجرٍ الهيتمي، والإمامُ ملا علىِّ القاري، ومحمدُ زاهد الكوثري وغيرُهم، عن الأئمةِ الأربعة هُداةِ الأُمة، الشافعيِ ومالكٍ وأحمدَ وأبي حنيفة، رضي الله عنهم، القولَ بتكفير القائلين بالجهة والتجسيم، بل نقلَ صاحبُ الخصالِ من الحنابلةِ، عن أحمدَ أنه قال بتكفيرِ مَن قال: اللهُ جسمٌ لا كالأجسام، وعبارتُه المشهورةُ التي رواها عنه أبو الفضل التميميُّ الحنبلي : مهما تصورتَ ببالك فاللهُ بخلاف ذلك،وهذا دليلٌ على نصاعةِ عقيدتِهِ،  وأنه كان على عقيدة التنزيه.
 
كذلك أوَّل الإمام أحمدُ بن حنبل، الآياتِ المتشابهاتِ في الصفات ، فقد روى الحافظُ البيهقيُّ عن الحاكم، عن أبي عَمْرِو بنِ السّمّاك عن حنبلٍ، أن أحمدَ بنَ حنبل، تأول قولَ الله تعالى [وَجَاءَ رَبُّكَ] ، أنه جاء ثوابُه، ثم قال البيهقيّ، وهذا إسنادٌ لا غبار عليه، ونقل ذلك ابنُ كثيرٍ في تاريخِه ، وفي روايةٍ نقلها البيهقيُّ، في كتابِ مناقبِ أحمد، أن الإمامَ قال: جاءت قدرتُه، أي أثرٌ من ءاثارِ قدرته، ثم قال الحافظُ البيهقي: وفيه دليلٌ أنه كانَ لا يعتقدُ في المجيءِ الذي ورد به الكتابُ، والنزولِ الذي وردت به السنة، انتقالا من مكانٍ إلى مكان، كمجيءِ ذواتِ الأجسام، ونزولها، وإنما هو عبارةٌ  عن ظهور ءاياتِ قدرته . كذلك كان يتبركُ بآثارِ النبيّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، فقد قال الذهبيُّ في سِيَرِ أعلام النُّبلاء، قال عبدُ الله بنُ أحمد : رأيتُ أبي يأخُذُ شعَرةً من شعَرِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيضَعُها على فيهِ يقبِّلُها ، وأحسِبُ أني رأيتُه يضعُها على عَينِهِ ، ويغمسُها في الماء، ويشربُه يَستشفي بهِ ، ورأيتُه أخذَ قصعةَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، أيِ الإناءَ الخشبيَّ الذي كان يأكُلُ به النبي فغسلَها في جُبِّ الماءِ أي البئر ، ثم شرب فيها ، ورأيتُه يشربُ من ماء زمزمَ يَستشفي به ، ويمسحُ به يديه ووجهَهُ، قال الذهبيّ: أينَ المُتَنَطِّعُ المُنكرُ على أحمد، وقد ثبت أن عبدَ الله سأل أباه عمّن، يلمَسُ رُمّانةَ مِنبرِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي جزءٌ مُستديرٌ من المنبر، كان يضَعُ النبيُّ يدَهُ عليها، ويمَسُّ الحجرةَ النبَويّةَ فقال:لا أرى بذلك بأسا. انتهى بحروفه.
 
ونقلَ البُهوتي والمِرداويُّ الحنبليان، وغيرُهما، أنّ الإمامَ أحمد قال في مَنْسَكِه الذي كتبه، للمَرْوَرُّوذِيّ  : يُسنُّ للمُستَسقِي، أن يتوسلَ بالنبيّ في دعائه.
 
قال إبراهيمُ الحربي أدركتُ ثلاثةً لم يُرَ مثلَهُم أبدا يَعجَزُ النساءُ أن يلِدْنَ مثلَهُم، رأيتُ أبا عُبيد القاسمِ بنَ سلامٍ ما أُمثّلُه إلا بجَبَلٍ نُفخ فيه روح، ورأيت بشرَ بنَ الحارثِ ما شَبّهتُه إلا برجلٍ عُجن من قَرنه إلى قدمه عقلا، ورأيتُ أحمدَ بنَ حنبل كأنّ اللهَ جمع له علمَ الأولين من كلِ صنفٍ، يقول ما شاء ويُمسك ما شاء.
 
 
 
وكان الشافعي يأتيه إلى منزله فعوتب في ذلك فأنشد قائلا:
 
قالوا يزورك أحمدٌ وتزورُه

 قلتُ الفضائل لا تفارق منزله

إن زارني فبفضله، أو زرته

 فلفضله، فالفضلُ في الحالين له.

 
 
 
ومما جاء في ورعه- رحمه الله- أنه رهن سطلاً عند قاضٍ في مكة، فأخذ منه شيئاً يتقوّتُه، فجاء فأعطاه فِكاكه فأخرجَ إليه سطلين، وقال: انظُر أيهما سطلُك فخُذه، قال: لا أدري، أنت في حِلٌّ منه ومما أعطيتُك في حلٍ ولم يأخذْه. قال القاضي: والله إنه لسطلُه وإنما أردتُ أن أمتحنه فيه.
 
مرض أحمد بن حنبل بالحُمى ليلة الأربعاء من شهر ربيع الأول سنة 241 ودام مرضه 9 أيام وتوفى يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر، وهو ابنُ سبع وسبعين سنة، ويروى أنه حضر جنازته ثمانُمائةِ ألفِ رجل وستين ألف امرأةٍ وأسلم يومَ موته عشرون ألفا من اليهود والنصارى والمجوس.
 
أسألُ الله العليَّ العظيمَّ الكريمَّ من فضله، أن يُعظِمَ أجرَهُ، ويُكثِرَ مِثلَهُ، وينفعَنا بعِلمِهِ، ويحشُرَنا في زُمرتهِ، معَ النبييين والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسُنَ أولئكَ رفيقا.
 
أعوذُ بالله من الشيطانِ الرجيم: [مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا].صدق الله العظيم
 
هذا وأستغفر الله  لي ولكم.