تهذيب أحكام الحج
عبدالرحمن بن محمد بن علي الهرفي
الداعية بمركز الدعوة بالمنطقة الشرقية
في السفر وشيء من آدابه وأحكامه
السفر : مفارقة الوطن، ويكون لأغراض كثيرة؛ دينية ودنيوية.
وحكمه : حكم الغرض الذي أُنشىء من أجله :
فإن أُنشىء لعبادة كان عبادة؛ كسفر الحج والجهاد، وإن أُنشىء لشيء مباح كان
مباحاً : كالسفر للتجارة المباحة، وإن أُنشىء لعمل محرّم كان حراماً
كالسفر للمعصية والفساد في الأرض ، وهل له أن يترخص برخص السفر أم لا ؟
خلاف ، والمذهب أنه لا يترخص .
وينبغي لمن سافر للحج أو غيره من العبادات أن يعتني بما يلي :
1. إخلاص النية لله ـ عز وجل ـ، بأن
ينوي التقرب إلى الله عز وجل في جميع أحواله لتكون أقواله وأفعاله ونفقاته
مقربة له إلى الله سبحانه وتعالى، تزيد في حسناته، وتكفّر سيئاته، وترفع
درجاته.
قال النبي صلى الله عليه وسلّم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : « إنك لن
تُنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت عليها حتى ما تجعله في فِي
امرأتك» ، متفق عليه.
2. أن يحرص على القيام بما أوجب الله عليه
من الطاعات واجتناب المحرمات، فيحرص على إقامة الصلاة جماعةً في أوقاتها،
وأما صلاة التطوع، فيتطوع المسافر بما يتطوع به المقيم، فيصلي صلاة الضحى
وقيام الليل والوتر وغيرها من النوافل سوى راتبة الظهر والمغرب والعشاء
فالسنة أن لا يُصليها.
3. النصيحة لرفقائه وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ودعوتهم إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة.
4. يحرص كذلك على اجتناب المحرمات القولية
والفعلية، فيجتنب الكذب والغيبة والنميمة والغش والغدر، وغير ذلك من معاصي
الله عز وجل. خاصة مع كثرة الحجاج والاختلاط بهم مما قد يثير الكثرين .
5. أن يتخلق بالأخلاق الفاضلة من الكرم بالبدن والعلم والمال، فيُعين من يحتاج إلى العون والمساعدة.
6. ينبغي أن يكون في ذلك كله طَلْقَ الوجه، طيب النفس، رضي البال، حريصاً على إدخال السرور على رفقته ليكون أليفا مألوفا.
7. ينبغي أن يصبر على ما يحصل من جفاء رفقته ومخالفتهم لرأيه، ويداريهم بالتي هي أحسن، ليكون محترماً بينهم، مُعظّماً في نفوسهم.
8. أن يقول عند سفره وفي سفره ما ورد عن
النبي صلى الله عليه وسلّم؛ فمن ذلك : إذا وضع رجله في مركوبه فليقل : بسم
الله، فإذا ركب واستقر عليه فليذكر نعمة الله عليه بتيسير هذا المركوب له،
ثم ليقل : الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر « سُبْحَـنَ الَّذِى سَخَّرَ
لَنَا هَـذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا
لَمُنقَلِبُونَ» اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البرَّ والتقوى، ومن العمل
ما ترضى، اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا واطو عنا بُعدَه، اللهم أنت الصاحب
في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة
المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل.
9. ينبغي أن يُكبر كلما صعد مكاناً عُلواً، ويُسبح إذا هبط مكاناً منخفضا.
وإذا نزل منزلا فليقل : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فمن نزل منزلاً ثم قالها لم يضرَّه شيء حتى يرتحل من منزله ذلك.
تعريف الحج
قال الراغب الأصفهاني : أصل الحج القصد للزيارة، قال للمخبل السعدي:
وأشهد من عون حلولا كثيرة *** يحجون بيت الزبرقان المعصفرا
خص في تعارف الشرع بقصد بيت الله تعالى إقامة للنسك، فقيل: الحج والحج،
فالحج مصدر، والحج اسم، ويوم الحج الأكبر يوم النحر، ويوم عرفة، وروي:
(العمرة الحج الأصغر) (هذا مروي عن ابن عباس، وأخرجه عنه ابن أبي شيبة وابن
أبي حاتم قال: العمرة الحجة الصغرى.
وأخرج الشافعي في الأم عن عبد الله بن أبي بكر أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله لعمرو بن حزم: (إن العمرة هي الحج الأصغر) (1)
وقال شيخ الإسلام : : الحج معناه في أصل اللغة قصد الشئ وإتيانه ومنه سمي
الطريق محجة لأنه موضع الذهاب والمجئ ومنه الحجة والحاجة. وقال بعض أهل
اللغة هو القصد إلى من يعظم.
قال الشيخ: ثم غلب في الاستعمال الشرعي والعرفي على حج بيت الله فلا يفهم على الإطلاق إلا هذا النوع الخاص من القصد. (2) قال ابن حجر : : الحج في الشرع القصد إلى البيت الحرام بأعمال مخصوصة. (3)
حكم الحج :
فرض قوله تعالى : « لله على الناس حج البيت لمن استطاع له سبيلا»
وقوله ص في حديث جبريل الطويل : « والحج لمن استطاع له سبيلا .. » .
ونقل ابن المنذر الإجماع عليه إلا أن ينذر نذراً فيجب عليه الوفاء.
في مسلم عن أبي هريرة: « خطبنا رسول الله ف فقال: يا أيها الناس قد فرض
الله عليكم الحج فحجوا. فقال رجل: أكلّ عامٍ يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها
ثلاثاً فقال: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم » . دل على أنه فرض وأن
الأمر لا يفيد التكرار وأن النبي له أن يجتهد وكلامه شرع. وأن الأصل في
أمره الوجوب والكلام مع الخطيب لمصلحة يجوز.
حكم تاركه:
ذكر ابن رجب في شرح الأربعين : ذهب طائفة من العلماء إلى أن من ترك
شيئاً من أركان الإسلام عمداً أنه كافر. روي عن ابن جبير ونافع والحكم
ورواية عن أحمد اختارها بعض أصحابه وهو قول ابن حبيب من المالكية.
روى الترمذي من طريق الحارث عن علي مرفوعاً من مَلَك زاداً وراحلة تبلغه
إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً.
قال أبو عيسى: غريب لا نعرفه إلامن هذا الوجه وفي إسناده مقال وهلال بن
عبدالله مجهول والحارث يضعف وله طرق ضعيفة؛ لكن جاء عند البيهقي وسعيد بن
منصور عن عمر "لقد هممت أن أبعث رجالاً" وإذا جمعت هذا إلى ما قبله علمت
أن له أصلاً ومحمله على من استحل الترك وتبين بذلك خطأ من ادعى أنه موضوع.
قال ابن كثير 2/84 [ومن كفر] عن ابن عباس ومجاهد من جحد فريضة الحج. أما
قول عمر فعند الإسماعيلي عنه بسند صحيح.
فرضه :
الأظهر أنه فرض سنة 9هـ ، وهو رواية عن أحمد ، قال الحافظ ابن حجر :
ولم يحج النبي إلا حجة واحدة أما ماجاء عنه أنه حج حجتين بعد الهجرة
فكلها منكرة جزم بنكارتها أحمد والبخاري والترمذي.
5- هل هو على الفور أم على التراخي؟
اختلفوا على قولين:
1. على الفور ومن قدر بماله وبدنه ولم يحج فهو آثم وهذا مذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد وهو قول أهل الظاهر.
2. على التراخي وهو مذهب الشافعي ومذهب محمد بن الحسن لأن الحج فرض سنة
6هـ والنبي عليه الصلاة والسلام تأخر إلىعام 10هـ. واستدل الجمهور
بالعمومات والأصل في الأمر أنه على الفور ما لم يصرفه صارف وأن فرض الحج
كان سنة 9هـ أو 10هـ، وعلى فرض أنه سنة 6هـ لم يتأخر النبي إلا لأجل أن
يتمحض الحج للمسلمين. واستدلوا بأحاديث الحث على التعجل للحج منها:" من
أراد الحج فليتعجل" رواه أحمد وأبو داوود والبيهقي.
ومن الأعذار في عدم المبادرة به لأن مكة لم تفتح يومئذ أو حتى يستدير
الزمان كهيئته، والأوامر الشرعية والفرائض على الفور إلا قضاء رمضان فإنه
موسع. ولأن المبادرة أبرأ للذمة. ورجح أنه على الفور شيخ الإسلام وابن
القيم.
وقوله من أراد الحج فليتعجل ليست الإرادة هنا على التخيير مثل من أراد الصلاة فليتوضأ مثل {لمن شاء منكم أن يستقيم}.
ومما يدل على الوجوب على الفورية أنه لو مات لأثم وقضي عنه فدل على أنه يبادر به لئلا يأثم.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي : : أظهر القولين عندي وأليقهما بعظمة خالق السموات والأرض هو وجوب الحج على الفور .
في شروط الحج
الشرط الأول : أن يكون مسلماً، بمعنى
أن الكافر لا يجب عليه الحج قبل الإسلام، وإنما نأمره بالإسلام أولاً، ثم
بعد ذلك نأمره بفرائض الإسلام، لأن الشرائع لا تُقبل إلا بالإسلام
الشرط الثاني : العقل، فالمجنون لا يجب عليه
الحج ولا يصح منه لأن الحج لا بد فيه من نية وقصد، ولا يمكن وجود ذلك من
المجنون. قال الشيخ محمد بن إبراهيم : : الذي ولد مجنوناً ؛ وعاش هكذا حتى
مات لا يجب على وليه إقامة من يحج عنه لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ـ « رفع القلم عن ثلاث ... »
الشرط الثالث : البلوغ، ويحصل البلوغ في الذكور بواحد من أمور ثلاثة :
1 ـ الإنزال، أي إنزال المني لقوله تعالى :
«وَإِذَا بَلَغَ الاٌّطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ
كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمْ ءَايَـتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ » ، وقول النبي صلى الله
عليه وسلّم : « غُسل الجمعة واجب على كل محتلم» متفق عليه.
2 ـ نباتُ شعر العانة، وهو الشعر الخشن يَنبت
حول القُبل لقول عطية القرظي رضي الله عنه. عُرضنا على النبي صلى الله
عليه وسلّم يوم قُريظة، فمن كان محتلماً أو أَنبتَ عانته قُتِل ومَنْ لا
تُرِك.
3 ـ تمام خمس عشرة سنة، لقول عبدالله بن عمر
رضي الله عنهما، عُرضت على النبي صلى الله عليه وسلّم يوم أُحد وأنا ابن
أربعَ عشرة سنةٌ فلم يُجزني ، زاد البيهقي وابن حبان : ولم يَرَني بلغتُ،
وعُرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني. وفي رواية للبيهقي
وابن حبان : ورآني بلغت.
قال نافع : فَقدِمتُ على عمر بن عبدالعزيز وهو خليفة فحدّثته الحديث، فقال
: « إن هذا الحد بين الصغير والكبير، وكتب لعماله أن يفرضوا ـ يعني من
العطاء ـ لمن بلغ خمس عشرة سنة». رواه البخاري.
4 ـ ويحصل البلوغ في الإناث بما يحصل به البلوغ في الذكور، وزيادة أمر رابع، وهو الحيضُ، فمتى حاضت فقد بلغت وإن لم تبلغ عشر سنين.
فلا يجب الحج على من دون البلوغ لصغر سنه، وعدم تحمُّله أعباء الواجب
غالباً، ولقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « رُفع القلم عن ثلاثة؛ عن
النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يَكبُر، وعن المجنون حتى يفيق». رواه
أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الحاكم. لكن يصح الحج من الصغير الذي لم
يبلغ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم لقي
رَكباً بالروحاء ـ اسم موضع ـ فقال : « من القوم ؟» قالوا : المسلمون.
فقالوا : من أنت ؟ قال : « رسول الله»، فرفعت إليه امرأة صبياً فقالت :
ألهذا حج ؟ قال : « نعم ولكِ أجر» رواه مسلم. والأجر ثابت للصغير لذا لم
يذكره النبي ص وذكر للولي الأجر .
وإذا أثبت النبي صلى الله عليه وسلّم للصبي حجاً ثبت جميع مقتضيات هذا
الحج فليُجنَّب جميع ما يجتنبه المُحرم الكبير من محظورات الإحرام، إلا أن
عمدَه خطأٌ، فإذا فعل شيئاً من محظورات الإحرام فلا فدية عليه ولا على
وليِّه.
الشرط الرابع : الحرية، فلا يجب الحج على مملوك لعدم استطاعته.
الشرط الخامس : الاستطاعة بالمال والبدن،
بأن يكونَ عنده مال يتمكن به من الحج ذهاباً وإياباً ونفقة، ويكون هذا
المال فاضلاً عن قضاء الديون والنفقات الواجبة عليه، وفاضلاً عن الحوائج
التي يحتاجها من المطعم والمشرب والملبس والمنكح والمسكن ومتعلقاته وما
يحتاج إليه من مركوب وكُتبِ علمٍ وغيرها، لقوله تعالى : «وَللَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَـعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ
فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَـلَمِينَ» .
ومن الاستطاعة أن يكون للمرأة مَحْرَمٌ، فلا يجب أداء الحج على من لا محرم لها لامتناع السفر عليها شرعاً، رماً لبناتها وإن نزلن.
فإن لم يكن الإنسان مستطيعاً بماله فلا حج عليه، وإن كان مستطيعاً بماله عاجزاً ببدنه؛ نظرنا.
فإن كان عجزاً يُرجى زواله كمرض يُرجى أن يزول، انتظر حتى يزول، ثم يُؤدي الحج بنفسه.
وإن كان عجزا لا يُرجى زواله، كالكبر والمرض المُزمن الذي لا يُرجى برؤه،
فإنه يُنيب عنه من يقوم بأداء الفريضة عنه لحديث ابن عباس رضي الله عنهما
أن امرأة من خثعم قالت : « يا رسول الله إن أبي أدركته فريضةُ الله في
الحج شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره، قال : « حجي عنه»
رواه الجماعة. فإن شفي بعد ذلك فلا يلزمه حج آخر وهو اختيار الشنقيطي : .
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي : : قوله تعالى : « وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ
خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى » [البقرة :197] دليل ظاهر على حرمة خروج
الإنسان حاجاً بلا زاد ليسأل الناس ، فقيراً كان أو غنياً . قال الموفق
ابن قدامة : : متى أحج المريض عن نفسه ، ثم عوفي ، لم يجب عليه حج آخر
لأنه أتى بما أمر به فخرج من العهدة .
هذه شروط الحج التي لا بد من توافرها لوجوبه.