بسم الله الرحمن الرحيم
في معارك الرسول الحربية
آ ـ الوقائع التاريخية
ما
كان يستقر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة حتى بدأت المعارك
الحربية بينه وبين قريش ومن الأهامن قبائل العرب ، وقد اصطلح المؤرخون
المسلمون على أن يسموا كل معركة بين المسلمين والمشركين وخصوها النبي بنفسه
" غزوة" وبلغت عدد سراياة ثمانية وثلاثين سرية ،ونقتصر في هذا العجالة على
أشهر غزواته ، وهي احدى عشرة غزوة .
1- غزوة بدر الكبرى
، وكانت في اليوم السابع عشر من رمضان للسنة الثانية من الهجرة ، وسببها
أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب يريد قتالاً ، ولكن القافلة التي كان
يقودها أبو سفيان قد نجت بعد أن كان أرسل إلى قريش يستنفرها لحماية القافلة
، فخرجت قريش في نحو من ألف مقاتل ، منهم ستمائه دارع( لابس للدرع ) ومائة
فرس عليها مائة درع سوى دروع المشاة وسبعمائة بعير ، ومعهم القيان يضربن
بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين .
أما
المسلمون ، فكانت عدتهم ثلاثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر رجلا ، أكثرهم
من الأنصار ، وكان معهم سبعون جملاً ، فرسان أو ثلاثة أفراس فحسب ، وكان
يتعاقب النفر اليسير على الجمل الواحد فترة بعد أخرى ، وقبل أن يخوض
المعركة ، أراد أن يستشير أصحابه ، وخاصة الأنصار ، في خوض المعركة ، فأشار
عليه المهاجرون بخوضها ، وتكلموا خيراً ، ثم علم الأنصار أنه يريدهم ،
فقال له سعد بن معاذ وهو سيد الأنصار جميعاً : يا رسول الله قد آمنا بك ،
وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا
ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يارسول الله ما أردت ، فنحن معك ، ما
تخلف منا رجل واحد ، ما نكره أن تلقي بنا عدونا غداً ، وإنا لصبر عند الحرب
، صدق عند اللقاء ، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة
الله . وقال غيره مثل ذلك فسُر الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك ، وقال :
سيروا على بركة الله ، وأبشروا ، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين ، إما
العير ، وإما النفير ،
ثم
سار الرسول صلى الله عليه وسلم حتى وصل أدنى ماء من بدر فنزل به ، فقال
الحباب بن المنذر : يا رسول الله هذا منزل أنزلكه الله تعالى : لا تقدمه ،
ولا تتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فقال الرسول صلى الله عليه
وسلم بل هو الرأي والحرب والمكيدة ، فأشار عليه الخباب بن المنذر أن يسير
إلى مكان آخر هو أصلح وأمكن للمسلمين من قطع ماء بدر عن المشركين ، فنهض
الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى وصلوا إلى المكان ، الذي أشار به
الحباب ، فأقاموا فيه ، ثم أشار سعد بن معاذ أن يبني للرسول صلى الله عليه
وسلم عريشاً وراء صفوف المسلمين ، فان أعزهم الله كان ما أحب ، وإلا جلس
على ركائبه ولحق بمن في المدينة ، وقال له سعد : فقد تخلف عنا أقوام يا نبي
الله ما نحن بأشد لك حباً منهم ، ولو ظنوا أن تلقى حرباً لما تخلفوا عنك ،
فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمر أن يبني له العريش ولما التقى
الجمعان ، أخذ الرسول يسوي صفوف المسلمين ، ويحرضهم على القتال ، ويرغبهم
في الشهادة ، وقال : " والذي نفسي بيده ، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل
صابراً محتسباً ، مقبلا غير مدبر ، إلا أدخله الله الجنة " ورجع إلى عريشه
ومعه أبو بكر ، ويحرسه سعد بن معاذ متوحشاً بسيفه ، وأخذ الرسول صلى الله
عليه وسلم في الدعاء ومن دعائه : اللهم أنشد عهدك ووعدك اللهم إن تهلك هذه
العصابة ( المؤمنون المحاربون) لا تعبد في الأرض "وأطال في سجوده ، حتى قال
له أبو بكر : حسبك ، فان الله سينجز لك وعدك ، ثم حمي القتال ، وانتهت
المعركة بانتصار المسلمين ،وقد قتل من المشركين نحو من السبعين ، فيهم
أشركهم أبو جهل وبعض زعمائهم ، وأسر منهم السبعين ، ثم أمر بدفن القتلى
جمعياً ،وعاد إلى المدينة ، ثم استشار أصحابه في أمر الاسرى ، فأشار عليه
عمر بقتلهم ، وأشار عليه أبو بكر بفدائهم ، فقبل الرسول صلى الله عليه وسلم
مشورة أبي بكر ،وافتدى المشركون أسراهم بالمال .
وقد
نزل في معركة بدر آيات من كتاب الله الكريم ، قال الله تعالى في سورة آل
عمران " ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأنتُمْ أذِلَّةٌ ،
فَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، إِذْ تَقُولُ لِلمُؤمِنينَ ألن
يَكْفِيَكُمْ أن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ
مُنزَلِين ، بَلى إن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأتُوكُمْ مِن فَورِهِم
هَذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ
مُسَوِّمين ،وَمَا جَعَلَهُ الله إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ
قُلُوبُكُمْ بِهِ ، وَمَا النَّصْرُ إلا مِنْ عِندِ الله العَزِيزِ
الحَكِيمِ ، لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الذِينَ كَفَرُوا أوْ يَكْبِتَهُمْ
فَيَنقَلِبُوا خَائِبِين ) [ آل عمران : 123ـ127 ] . كما نزل العتاب لرسول
الله صلى الله عليه وسلم على قبوله فداء الاسرى ، فقال الله تعال : ( مَا
كَانَ لِنَبِيٍ أَن يَكُونَ لَهُ أسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْض ِ،
تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا ، وَالله يُريدُ الآخِرَةِ ، وَالله ُعَزِيزٌ
حَكِيمٌ ، لَولا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أخَذْتُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ ، فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً ،
وَاتَّقُوا اللهَ ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [ الانفال : 67ـ 68 ٍ] .
2 ـ غزوة أحد :
وكانت
يوم السبت لخمس عشرة خلت من شوال في العالم الثالث للهجرة ، وسببها أن
قريشاً أرادت أن تثأر ليوم بدر ، فما زالت تستعد حتى تجهزت لغزو الرسول صلى
الله عليه وسلم في المدينة ، فخرجت في ثلاثة آلاف مقاتل ، ما عدا الأحابيش
فيهم سبعمائة دارع وماتئا فارس ، ومعهم سبع عشر أمراة ، فيهن هند بنت عتبة
زوج أبي سفيان ، وقد قتل أبوها يوم بدر ، ثم ساروا حتى وصلوا بطن الوادي (
وهو جبل مرتفع يقع شمال المدينة على بعد ميلين منها) ، مقابل المدينة ،
وكان من رأي الرسول وعدد من الصحابة أن لا يخرج المسلمون إليهم ، بل يظلون
في المدينة ، فإن هاجمهم المشركون صدوهم عنها ، ولكن بعض شباب المسلمين
وبعض المهاجرين والأنصار ، وخاصة من لم يحضر منهم معركة بدر ولم يحصل له
شرف القتال فيها ، تحمسوا للخروج إليهم ومنازلتهم في أماكنهم ، فنزل الرسول
صلى الله عليه وسلم عند رأيهم ، ودخل بيته ولبس لأمته ( درعة ) ، وألقى
الترس في ظهره ، وأخذ قناته بيده ، ثم خرج إلى المسلمين ، وهو متقلد سيفه ،
فندم الذي أشاروا عليه بالخروج إذا كانوا سبباً في حملة على خلاف رأيه ،
وقالوا للرسول : ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت أو أقعد إن شئت ،
فأجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : " ما كان ينبغي لنبي إذا لبي
لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه " ، ثم خرج والمسلمون معه في
نحو ألف بينهم مائة دارع وفرسان .
ولما
تجمع المسلمون للخروج ، رأى الرسول جماعة من اليهود يريدون ان يخرجوا مع
عبدالله بن أبي بن سلول رأس المنافقين للخروج مع المسلمين ، فقال الرسول : "
أوقد أسلموا ؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال :" مروهم فليرجعوا فانا لا
نستعين بالمشركين على المشركين " ، وفي منتصف الطريق أنخذل عن المسلمين عبد
الله بن أبي سلول ومعه ثلاثمائة من المنافقين ، فبقي عدد المسلمين سبعمائة
رجل فحسب ، ثم مضى الرسول وصف الجيش وجعل على كل فرقة منه قائداً ،
واختار خمسين من الرماة ، على رأسهم عبد الله بن جبير الأنصاري ليحموا ظهر
المسلمين من التفاف المشركين وراءهم ، وقال لهم" أحموا ظهورنا ، لا يأتونا
من خلفنا ، وارشقوهم بالنبل ، فإن الخيل لا تقوى على النبل ، إنا لا نزال
غالبين ما ثبتم مكانكم ، اللهم إني أشهدك عليهم " وقال لهم في رواية أخرى :
" إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم ، وإن
رأيتمونا هزمنا القوم أو ظاهرناهم وهم قتلى ، فلا تبرحوا مكانكم حتى أرسل
اليكم ".
ثم
ابتدأ القتال ، ونصر الله المسلمين على أعدائهم ، فقتلوا منهم عدداً ، ثم
ولوا الادبار ، فانغمس المسلمون في أخذ الغنائم التي وجدوها في معسكر
المشركين ، ورأى ذلك من وراءهم من الرماة فقالوا : ماذا نفعل وقد نصر الله
رسوله ؟ ثم فكروا في ترك أمكنتهم لينالهم نصيب من الغنائم ، فذكرهم رئيسهم
عبد الله بن حبير بوصية الرسول ، فأجابوا بأن الحرب أنتهت ، ولا حاجة
للبقاء حيث هم ، فأبى عبدالله ومعه عشر آخرون أن يغادروا أماكنهم ، ورأى
خالد بن الوليد وكان قائد ميمنة المشركين خلو ظهر المسلمين من الرماة ، فكر
عليهم من خلفهم ، فما شعر المسلمون إلا والسيوف تناوشهم من هنا وهناك ،
فاضطرب حبلهم ، وأشيع أن الرسول قد قتل ، ففر بعضهم عائدا على المدينة ،
واستطاع المشركين أن يصلوا إلى الرسول ، فأصابته حجارتهم حتى وقع وأغمى
عليه ، فشجع وجهه وخدشت ركبتاه ، وجرحت شفته السفلى ، وكسرت الخوذة على
رأسه ، ودخلت حلقتان من حلقات المغفر في وجهته ، وتكاثر المشركون على
الرسول يريدون قتله ، فثبت صلى الله عليه وسلم ،وثبت معه نفر من المؤمنين ،
منهم : أبو دجانة ، تترس على الرسول ليحميه من نبال المشكرين ، فكان النبل
يقع على ظهره ، ومنهم سعدبن أبي وقاص ، رمى يومئذ نحو ألف سهم ، ومنهم :
نسيبة أم عمارة الأنصارية ، تركت سقاء الجرحى ، وأخذت تقاتل بالسيف ، وترمي
بالنبل ، دفاعاً عن رسول الله حتى أصابها في عنقها ، فجرحت جرحاً عميقاً ،
وكان معها زوجها وابناها ، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : بارك
الله عليكم أهل البيت ، فقالت له نسيبة : ادع الله أن نرافقك في الجنة ،
فقال " اللهم أجعلهم رفقائي في الجنة ، فقالت رضي الله عنها بعد ذلك : ما
أبالي ما أصابني من أمر الدنيا ، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حقها : "
ما التفت يمينا وشمالاً يوم أحد ، إلا ورأيتها تقاتل دوني " وقد جرحت يومئذ
أثنى عشر جرحاً ، ما بين طعنة برمح وضربة بسيف .
وقد
حاول في ساعة الشدة أن يصل أبي بن خلف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم
ليقتله ، وأقسم أن لا يرجع عن ذلك ، فأخذ عليه السلام حربة ممن كانوا معه ،
فسددها في نحره ، فكانت سبب هلاكه ، وهو الوحيد الذي قتله صلى الله عليه
وسلم في جميع معاركه الحربية ثم استطاع صلى الله عليه وسلم الوقوف والنهوض
على أكتاف طلحة بن عبيد الله ، فنظر إلى المشركين ، فرأى جماعة منهم على
ظهر الجبل ، فأرسل من ينزلهم قائلا :" لا ينبغي لهم أن يعلونا ، اللهم لا
قوة لنا إلا بك " وأنتهت المعركة . وقال أبو سفيان مظهرا تشفيه والمشركين
من هزيمتهم يوم بدر : يوم بيوم بدر .
وممن قتل في هذه المعركة حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومثلت به
هند زوج أبي سفيان ، واحتزت قلبه ومضغته ، فرأت له مرارة فلفظته ، وقد حزن
الرسول صلى الله عليه وسلم لمشهده حزناً عظيماً فقال : لئن أظهرني الله على
قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثنين رجلا منهم ، ولكن الله نهي عن
المثلة بعد ذلك .وقد بلغ عدد قتلى المسلمين في هذه المعركة نحواً من
السبعين ، وقتلى المشركين ثلاثة وعشرين .
وقد
أنزل الله تعالى في هذه المعركة عدة آيات يضمد بها جراح المؤمنين ،
وينبههم إلى سبب الهزيمة التي حلت بهم ، فيقول في سورة آل عمران: " ( وَلا
تَهِنُوا وَلا تَخْزَنُوا وَأنتُمْ الأعْلَونَ إن كُنتُم مُّؤمِنِينَ ، إن
يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَومَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ، وَتِلْكَ
الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَينَ النَّاسِ ، وَلِيَعْلَمَ الله الذِينَ
أمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ، وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمينَ
، وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ ، أَمْ
حَسِبْتَهُمْ أن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الذِينَ
جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرينَ ) [ آل عمران : 139-142 ] ثم
يقول بعد آيات : ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّوَنُهمْ (
تقتلونهم ) بِإِذْنِهِ ، حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَـَنـازَعْتُمْ فِي
الأمْرِِِِ ، وَعَصَيتُمْ مِن بَعْدِ مَا أرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ ، مِنكُم
مَن يُرِيدُ الدُّنيَا ، وَمِِنكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَة ، ثُمَّ
صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ، وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ، وَاللهُ
ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤمِنينَ ، إذْ تُصْعِدُونَ ( أي تهربون إلى الجبل
صاعدين ) وَلا تَلْوونَ عَلَى أحَدٍ ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي
أُخْرَاكُمْ فَأثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمًّ ٍ( أي فجازاكم غما على غم )
لِكَيلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَاَبُكْم ، وَاللهُ
خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) [ آل عمران : 152 ـ 13 ] .
3-غزوة بني النضير :
وهم
قوم من اليهود يجاورون المدينة ، وكانوا حلفاء للخروج وبينهم وبين
المسلمين عهد سلم وتعاون كما قدمنا ، ولكن طبيعة الشر والغدر المتأصلة في
اليهود أبت إلا أن تحملهم على نقض عهدهم ، فبينما كان الرسول صلى الله عليه
وسلم وبعض أصحابه في بني النضير وقد أستند إلى جدار من بيوتهم ، إذا
تآمروا على قتله بالقاء صخرة من ظهر البيت ، فعلم صلى الله عليه وسلم بذلك
فنهض سريعاً كأنه يهم بحاجة ، فتوجه إلى المدينة ، ولحقه أصحابه ثم أرسل
اليهم محمد بن مسلمة أن أخرجوا من بلدي فلا تساكنوني بها ، وقد هممتم بما
هممتم به من الغدر ، ثم أمهلهم صلى الله عليه وسلم عشر أيام للخروج ، وتجهز
بنو النضير للخروج في هذا الانذار ، ولكن عبد الله بن أبي رأس المنافقين
أرسل اليهم ينهاهم عن الخروج ، و يعدهم بإرسال الفين من جماعته يدافعون
عنهم، فعدلوا عن النزوح ، وتحصنوا في حصونهم وأرسلوا إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم : إنا لا نخرج من ديارنا ، فاصنع ما بدا لك فخرج إليهم صلى
اله عليه وسلم في أصحابه يحمل لواءه علي بن أبي طالب ، فلما رآهم اليهود
أخذوا يرمونهم بالنبل والحجارة ، ولم يصل اليهم المدد الذي وعدهم به رأس
المنافقين ، فحاصرهم عليه الصلاة والسلام ، فصبروا فاضطر إلى قطع نخيلهم ،
فقالوا عندئذ : نخرج من بلادك ، واشترط عليهم صلى الله عليه وسلم أن لا
يخرجوا معهم السلاح ، ولهم أن يخرجوا معهم من أموالهم ما حملته الأبل ،
ودماؤهم مصونة لا يسفك منها قطرة ، فلما أراداوا الخروج أخذوا كل شيء
يستطيعونه ، وهدموا بيوتهم لكى لا يستفيد منها المسلمون ، وسارعوا ، فمنهم
من نزل خيبر على بعد مائة ميل من المدنية ، ومنهم من نزل في ناحية " جرش "
بجنوب الشام ،ولم يسلم منهم إلا أثنان .
وقد
نزلت في هذه الغزوة سورة( الحشر ) ومنها قول الله تعالى : (هُوَ الذِي
أخْرَجَ الذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهْلِ الكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ
الحَشْرِ ، مَا ظَنَنْتُمْ أن يَخْرُجُوا ، وَظَنُّوا أنَّهُمْ مَا
نِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ ، فَأتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيثُ لا
يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِِهِمُ الرُّعُبَ يُخْرِبُونَ بُيوتَهُمْ
بِأيدِيهِمْ وَأيدِى المُؤْمِنِينَ ، فَاعْتَبِرُوا يَا أولِى الأبْصَارِ ،
وَلوْلا أنْ كَتَبَ اللهُ عَليهِمُ الجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا
وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ، ذَلِكَ بِأنَّهُمْ شَآقُّوا
اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللهَ فَإنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ ) [
الحشر : 2ـ4] .
4-غزوة الأحزاب :
وتسمى
غزوة ( الخندق ) ، وقد وقعت في شوال من السنة الخامسة للهجرة ، وسببها أنه
لما تم إجلاء بني النضير ، قدم عدد من رؤسائهم إلى مكة يدعون قريشا
ويحرضونها على قتال الرسول ، فأجابت قريش لذلك ، ثم ذهب رؤساء اليهود إلى
غطفان ، فاستجابت لهم بنو فزارة وبنو مرة ، وأشجع واتجهوا نحو المدينة ،
فلما سمع صلى الله عليه وسلم بخروجهم ، استشار أصحابه فأشار عليه سلمان
بحفرخندق حول المدينة، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بحفره وعمل فيه
بنفسه ، ولما وصلت قريش ومن معها من الأحزاب راعها ما رأت من أمر الخندق ،
إذ لا عهد للعرب بمثله ، وكانت عدتهم عشر آلاف ، وعدة المسلمين ثلاثة آلاف ،
وكان حيي بن أخطب أحد اليهود الذين هيجوا قريشاً والأحزاب ضد المسلمين ،
قد ذهب الى كعب بن أسيد سيد بني قريظة يطلب إليه نقض عهد السلم بينه وبين
المسلمين ، وفكر النبي في مصالحه بني قريظة على ثلث ثمار المدينة ، ولكن
الأنصار رفضوا اعتزازاً بدينهم من أن يعطوا الدنية لهؤلاء الخائنين للعهود
والمواثيق ، وبدأ القتال بافتتاح بعض فرسان المشركين للخندق من أحدى نواحيه
الضيقة ، فناوشهم المسلمون وقاتلوهم ، ثم جاء نعيم بن مسعود بن عامل إلى
الرسول ، فأخبره أنه قد أسلم ، وأن قومه لا يعلمون بإسلامه ، وأنه صدق لنبي
قريظة يأتمنونه ويقون به ، وقال للرسول : مرني بما شئت ، فقال له الرسول :
" إنما أنت فينا رجل واحد ، فخذل عنا إن استطعت ، فإن الحرب خدعة :
فاستعمل نعيم دهاءه حتى فرق بين قريش وحلفائها ، وبين بني قريظة ، وأوقع في
نفوس كل من الفريقين الشك في الآخر ، وأرسل الله على الأحزاب ريحاً شديدة
في ليلة شاتية شديدة ، فجعلت تكفئ قدورهم وتمزق خيامهم . فامتلأت نفوس
الأحزاب بالرعب ورحلوا في تلك الليلة ، فلما أصبح الصباح نظر المسلمون فلم
يروا أحداً.
وفي
هذه الغزوة أنزل الله تعالى في كتابه الكريم : ( يَا أيُّهَا الذِينَ
آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَليكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ
فَارْسَلْنَا عَليهِمْ رِيحاً وَجُنُودَاً لمْ تَرَوهَا وَكانَ اللهُ بِمَا
تَعْمَلونَ بَصِيرَاً ، إذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوقِكُمْ وَمِنْ أسْفَلَ
مِنْكُمْ وَإذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلغَتِ القُلوبُ الحَنَاجِرَ
وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ، هُنَالِكَ ابْتُلِىَ المُؤْمِنُونَ
وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيداً ) [ الاحزاب : 9ـ11] ، ثم يصف موقف
المنافقين وتخذيلهم وانسحابهم من المعركة ، ثم يقول في وصف المؤمنين : (
وَلمَّا رَءَا المُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ
وَرَسُولُهُ ، وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولهُ ، وَمَا زَادَهُمْ إِلا إيمَاناً
وَتَسْلِيماً ، مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ
عَلِيهِ ، فَمِنْهُم مَّنْ قَضَى نَحْبَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ
وَمَا بَدَّلوا تَبْدِيلاً ، ليَجْزيَ اللهُ الصَّادِقينَ بِصِدْقِهِمْ
وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أو يَتُوبَ عَليهِمْ إنَّ اللهَ
كَانَ غَفُورَاً رَحِيماً ، وَ رَدَّ اللهُ الذِينَ كَفَرُوا بِغَيظِهِمْ
لَمْ يَنَالوا خَيراً وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللهُ
قَويَّاً عَزِيزاً ) . [ الأحزاب : 22 ـ 25] .
5- غزوة بني قريظة :
وقد وقعت في السنة الخامسة بعد أن رأى ما أنطوت عليه نفوس يهود بني قريظة
من اللؤم والغدر والتحزب مع قريش وحلفائها ، وبعد أن أعلنت له إبان أشتداد
معركة الأحزاب أنها فضت عهدها معه ، وكانت وهي تساكن الرسول صلى الله عليه
وسلم في المدينة تهم بشر عظيم قد يقضي على المسلمين جميعاً لولا انتهاء
معركة الأحزاب بمثل ما انتهت إليه ، رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يؤدب هؤلاء الخائنين الغادرين، ويظهر منهم المدينة مقر جهاده ودعوته حتى لا
تواتيهم الظروف مرة أخرى ، فينقضوا على جيران المسلمين ، ويبيدوهم كما هي
طبيعة الغدر اليهودي اللئيم .
وروى
البخاري عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما
رجع يوم الخندق ووضع السلاح واغتسل ، أتاه جبريل وقد عصب رأسه الغبار فقال :
وضعت السلاح ، فوالله ما وضعته ، قال : فأين ؟ قال : ها هنا ، وأوماً إلى
بني قريظة ، قالت : فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. أمر الرسول
صلى الله عليه وسلم من ينادي في الناس بأن لا يصلين أحد العصر إلا في بنى
قريظة ، ثم خرج فيهم وقد حمل رايته علي رضي الله عنه ، وقد اجتمع من
المسلمين ثلاثة آلاف ، ومن الخيل ست وثلاثون فلما دنا علي من حصن بني قريظة
، سمع منهم مقالة قبيحة في حقه صلى الله عليه وسلم وحق أزواجه ، فأخبر
النبي صلى الله عليه وسلم ، وطلب اليه أن لا يدنو من أولئك الأخباث ،
فأجابه عليه السلام بأنهم إذا ، رأوه لم يقولوا من ذلك شيئاً لما يعلم من
أخلاقهم في النفاق والملق ، فلما رأوه تطفوا به كما تنبأ صلى الله عليه
وسلم ، ثم أخذ المسلمون في حصارهم خمساً وعشرين ليلة ، فلما ضاق بهم الأمر ،
نزلوا على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فحكم فيهم سعد بن معاذ سيد
الأوس ، وكان بنو قريظة حلفاء الأوس ، فحكم سعد بأن تقتل مقاتلهم ، وأن
تسبى ذراريهم ، وأن تقسم أموالهم ، فنفذ الرسول حكمه ،وبذلك قضى على
مؤامرات اليهود ودسائسهم وتآمرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم و دعوته
قضاءً مبرماً في المدنية وما حولها .
وفي
هذه الغزوة نزلت آيات من القرآن الكريم تبين غدر اليهود ، ونقضهم للعهود ،
وتخذيلهم لصفوف المسلمين في غزوة الأحزاب : ( وَإذْ قَالَت طَّائِفَةٌ
مِنْهُمْ يَا أهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لََكُمْ فَارْجِعُوا ،
وَيَسْتَئْذنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ ، يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنَا
عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَورَةٍ ، إنْ يُرِيدُونَ إلا فِراَرَاً ، وَلوْ
دَخَلتَ عَليْهِمْ مِنْ أقْطَارِهَا ، ثُمَّ سُئِلُوا ، لآتَوهَا ، وَمَا
تَلَبَّثُوا بِهَا إلا يَسِيراً ، وَلقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ
قَبْلُ ( إشارة إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم معهم يوم أستقر بالمدينة )
لا يُوَلُّونَ الأدْبَارَ ، وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُولاً ، قُلْ لن
يَنفَعُكُمْ الفِرَارَ إنْ فَرَرْتُم مِنَ المَوْتِ أوِ القَتْلِ ، وَإذًَا
لا تُمَتَّعُونَ إلا قَلِيلاً ) [ الأحزاب : 13 ـ 16 ] الى قوله : (
وَأنْزَلَ الذِينَ ظَاهَرُوهُمْ ( أهل الأحزاب ) مِنْ أهْلِ الكِتَابِ مِنْ
صَيَاصِيهِمْ ( حصونهم ) وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ ، فَرِيقاً
تَقْتُلونَ ،وَتَأسُرُونَ فَرِيقاً ، وَأوْرَثَكُمْ أرْضَهُمْ
وَدِيَارِهِمْ وَأمْوَالَهَمْ ، وَأرْضَاً لَمْ تَطَئُوهَا ، وَكانَ اللهُ
عَلى كُلِّ شَيءٍ قَدِيراً ) [ الأحزاب : 26ـ 27] .
6ـ غزوة الحديبية :
وقعت
في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ،وكان من أمرها أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم رأي في منامة أنه دخل البيت هو وصحابته آمنين محلقين رؤوسهم
ومقصرين لا يخافون شيئاً ، فأمر الناس أن يجهزوا للخروج إلى مكة معتمرين ،
لا يريد حرباً لقريش ولا قتالاً ، فخرج معه المهاجرون والأنصار يحدوهم
الشوق إلى رؤية بيت الله الحرام بعد أن حرموا من ذلك ست سنوات ، وخرج معهم
من شاء من الأعراب ، وساق أمامه صلى الله عليه وسلم وهو ما يساق إلى البيت
الحرام من الإبل والنعم تعظيماً للبيت وتكريماً ، وأحرم بالعمرة في مكان
يسمى بذي الحليفة ، ليعلم الناس وقريش خاصة أنه لا يريد قتالا ، وكان عدد
من خرج معه نحواً من ألف وخمسمائة ، ولم يخرجوا معهم بسلاح إلا سلاح
المسافر في تلك العهود : السيوف في أغمادها ، وسار حتى إذا وصل إلى " عسفان
" جاء من يقول له : هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا وقد لبسوا جلود
النمور يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبداً ، فقال صلى الله عليه وسلم :
ياويح قريش ، لقد أكلتهم الحرب ! ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ،
فإن هم أصابوني ، كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في
الاسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظن قريش ؟ فوالله
لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله حتى يظهره الله ، أو تنفرد هذه السالفة "
.
فلما
وصل إلى الحديبية ـ وهي مكان قريب من مكة بينها وبين طريق جدة الآن ، ـ
جاءه بعض رجال من خزاعة يسألون عن سبب قدومه ، فأخبرهم أنه لم يأت إلا
ليزور البيت ويعتمر ، فرجعا وقالوا لهم : إنكم تعجلون على محمد ، لم يأت
لقتال ، إنما جاء زائراً ، لهذا البيت ، فقالوا : لا والله لا يدخلها علينا
عنوة أبداً ، ولا يتحدث العرب عنا بذلك . ثم بعثوا عروة بن مسعود الثقفي
ليتحدث إلى الرسول بهذا الشأن ، وبعد حديث وأخذ ورد بين عروة وبعض الصحابة ،
عاد إلى قريش وحدثهم عما رأى من حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه
وسلم وهيبتهم له ، ورغبتهم في الصلح معه ، فأبوا ذلك ، ثم بعث الرسول صلى
الله عليه وسلم عثمان بن عفان إلى أهل مكة ليؤكد لهم الغرض من مجيء الرسول
وصحابته ، وأبطأ عثمان ، فأشيع بين المسلمين أنه قد قتل ، فقال الرسول
عندئذ : لا نبرح حتى نناجز القوم ( نقاتلهم )ودعا المسلمين إلى البيعة على
الجهاد .والشهادة في سبيل الله ، فبايعوه تحت شجرة هناك من أشجار الطلح على
عدم الفرار ، وأنه إما الصلح معه على أن يرجع في هذا العام ويعود من قبل
فيقيم ثلاثاً معه سلاح الراكب : الرماح والسيوف في أغمادها ، وأرسلت قريش
لذلك سهيل بن عمرو ليتم هذا الصلح ، وأخيراً تم الصلح ، على ما رغبت قريش ،
وعلى وضع الحرب بين الفريقين عشر سنين ، وأن من أتى من عند محمد إلى مكة
لم يردوه ، وأن من أتى محمداً من مكة ردوه اليهم ،
فعز
ذلك على المسلمين ، وأخذ بعضهم يجادل النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء
من شروطها ، ومن اشدهم في ذلك عمر ، حتى قال رسول الله : " إني عبد الله ،
ولن يضيعني ثم أمر الرسول أصحابه بالتحلل من العمرة فلم يفعلوا ذلك من
موجة من الألم ، لما حيل بينهم وبين دخول مكة . ولما شق عليهم من شروط
الصلح فبادر عليه السلام بنفسه ، فتحلل من العمرة ، فتبعه المسلمون جميعاً ،
وقد ظهرت فيما فيها بعد فوائد هذه الشروط التي صعبت على المسلمين ورضي بها
الرسول ، لبعد نظره ، ورجحان عقله ،وإمداد الوحي له بالسداد في الراي
والعمل .
هذا
وقد سمى الله هذه الغزوة فتحاً مبيناً ، حيث قال : ( إنَّا فَتَحْنَا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً ، لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ
وَمَاتَأخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَليْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً
مُسْتَقِيمَاً ، وَيَنصُرَكَ اللهُ نَصْرَاً عَزِيزاً ) . [ الفتح : 1ـ3]
ثم تحدث عن مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( إنَّ الذِينَ
يُبَايُعُونَكَ إنَّمَا يُبَايُعونَ اللهَ ، يَدُ اللهِ فَوقَ أيْدِيهِمْ ،
فَمَن نَكَثَ فَإنَّمَا يَنكُثُ عَلى نَفْسِهِ ، وَمَنْ أوْفَى بِمَا
عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أجْرَاً عَظِيماً ) [ الفتح :10]
ورضي عن أصحاب بيعة الرضوان تحت الشجرة فقال : ( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ
المُؤْمِنينَ إذْ يُبَايُعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، فَعَلِمَ مَا فِي
قُلوبِهِمْ فَأنْزَلَ السَّكِينَةَ عَليْهِمْ ، وَأثَابَهُمْ فَتْحاً
قَرِيباً ) [ الفتح : 18] وتحدث عن رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم التي
كانت سبباً في غزوة الحديبية ، فقال " ( لََقَدْ صَدَقَ اللهَ وَرَسُولُهُ
الرُّءُيَا بِالحَقِّ لتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إنْ شَاءَ اللهُ
آمِنِينَ مُحَلِقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ ، فَعَلِمَ
مَا لَمْ تَعْلَمُوا ، فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ) [
الفتح : 27] ولعل هذه إشارة إلى فتح مكة الذي كان ثمرة من ثمرات صلح
الحديبية ، كما سنذكره في الدروس والعظات ان شاء الله ، ثم أتبع ذلك بتأكيد
غلبة هذا الدين وأنصاره ، فقال : ( هُوَ الذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّه ، وَكَفَى
بِاللهِ شَهِيداً ) [ الفتح : 28] وصدق الله العظيم .
7-غزوة خيبر :
وكانت في أوخر المحرم للسنة السابعة من الهجرة .
و " خيبر" واحة كبيرة يسكنها اليهود على مسافة مائة ميل من شمال المدينة جهة الشام
وسببها :
أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أمن جانب قريش بالصلح الذي تم في
الحديبية ، قرر تصفية مشكلة التجمعات اليهودية فيما حول المدينة بعد أن صفى
اليهود من المدينة نفسها ، وقد كان اليهود في خيبر حصون منيعة ،وكان فيها
نحو من عشر آلاف مقاتل ، وعندهم مقادير كبيرة من السلاح والعتاد ، وكانوا
أهل مكر وخبث وخداع ، فلا بد من تصفية مشكلتهم قبل أن يصبحوا مصدر اضطراب
وقلق للمسلمين في عاصمتهم " المدينة" ولذلك أجمع الرسول صلى الله عليه وسلم
على الخروج اليهم في أواخر المحرم ، فخرج اليهم في ألف وستمائه مقاتل ،
منهم مائتا فارس ، واستنفر من حوله ممن شهد الحديبية ، وسار حتى إذا أشرف ،
على خيبر قال لأصحابه : قفوا ، ثم عاد فقال : " اللهم رب السموت وما أظللن
، ورب الأرضين وما أقللن ، ورب الشياطين وما أضللن ،ورب الرياح وما ذرين ،
إنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ، ونعوذ بك من شرها وشر
أهلها وشر ما فيها ، أقدموا الله " .
ولما
وصلوا إليها نزل النبي صلى الله عليه وسلم قريباً من أحد حصون خيبر يسمى "
حسن النطاق " وقد جمعوا فيه مقاتلتهم ، فأشار حباب بن المنذر بالتحول ،
لأنه يعرف أهل النطاق معرفة جيدة ، ليس قوم أبعد مدى ولا أعدل رمية منهم،
وهم مرتفعون على مواقع المسلمين ، فالنبل منهم سريع الانحدار على صفوف
المسلمين ، ثم إنهم قد يباغتون المسلمين في الليل متسترين بأشجار النخيل
الكثيرة ، فتحول الرسول مع المسلمين إلى موضع آخر وابتدأت المعارك ، يفتح
المسلمون منها حصناً بعد حصن ، إلا الحصنين الآخرين ، فقد رغب أهلهما في
الصلح على حقن دماء المقاتلة ، وترك الذرية ، ولا خروج من أرض خيبر
بذراريهم ، وأن لا يصحب أحد منهم إلا ثوباً واحداً ، فصالحهم على ذلك ،
وعلى أن ذمه الله ورسوله بريئة منهم إن كتموه شيئاً ، ثم غادرهما ، فوجد
المسلمون فيها أسلحة كثيرة ، وصفحات متعددة من التوراة ، فجاء اليهود
بعدذلك يطلبونها ، فأمر بردها اليهم ، وقد بلغ عدد قتلى اليهود في هذه
المعركة ثلاثة وتسعين ، واستشهد من المسلمين خمسة عشر .
8-غزوة مؤتة :
كانت
في جمادي الأول للسنة الثامنة من الهجرة ، و" مؤته " قرية على مشارف الشام
، تسمى الآن " بالكرك " جنوب شرق البحر الميت، وكان سببها أن الرسول كان
قد أرسل الحارث بن عمير بكتاب إلى أمير مصرى من جهة هرقل ،وهو الحارث بن
ابي شمر الغساني يدعوه فيه إلى الإسلام ـ وكان ذلك من جملة كتبه التي بعث
بها عليه السلام إلى ملوك العالم وأمراء العرب بعد صلح الحديبية ـ فلما نزل
مؤته أحد الأمراء العرب الغساسنة التابعين لقيصرالروم ، فقال له : أين
تريد ؟ لعلك من رسل محمد ؟ قال : نعم ، فأوثقه وضرب عنقه ، فبلغ ذلك رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتد عليه الألم إذ لم يقتل له رسول غيره ،
وجهز لهم جيشاً من المسلمين عدته ثلاث آلاف . وأمر عليهم زيد بن حارثة ،
وأوصاهم ، إن أصيب زيد ليؤمروا جعفر بن أبي طالب ، فان أصيب ، فليؤمروا
عليه عبد الله بن رواحة ، وطلب من زيد أن يأتي بقاتل الحارث بن عمير ، وأن
يدعو من هناك إلى الإسلام ، فان أجابوا ، وإلا فليستعينوا بالله ،
وليقاتلوهم ، وأوصاهم بقوله : " أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين
خيراً ، اغزوا باسم الله ، وفي سبيل الله ، من كفر بالله ، لا تغدروا ،ولا
تغلوا ( الغلول السرقة ) ولا تقلتوا وليداً ، ولا أمرأة ، ولا كبيراً
فانياً ، ولا منعزلاً بصومعة ،ولا تقربوا نخلاً ، ولا تقطعوا شجراً ، ولا
تهدموا بناءاً "
ثم
سار الجيش على بركة الله ، وقد شيعهم الرسول بنفسه ، ولم يزالوا سائرين
حتى وصلوا معان ، فبلغهم أن هرقل قد جمع جمعاً عظيماً ، ونزل في مآب من أرض
البلقاء ( هي كورة من أعمال دمشق قصبتها عمان ) وكان جيش الروم مؤلفاً
منهم ومن العرب المنتصرة ، فتشاور المسلمون فيما بينهم ، ورأوا أن يطلبوا
من الرسول مدداً ، أو يأمرهم بأمر آخر فيمضون له ، فقال عبد الله بن رواحة :
والله إن الذي تكرهون هو ما خرجتم له ، تطلبون الشهادة ، ونحن ما نقاتل
الناس بعدد ولا كثرة ولا قوة ، وإنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله
به ، فإنما هي إحدى الحسنيين ، فإما الظفر ، وإما الشهادة ، فوافقه الناس
على خوف المعركة ، وابتداء القتال ، فقاتل زيد حتى قتل ، ثم أستلم اللواء
بعده جعفر بن ابي طالب ، فقاتل على فرسه ، ثم أضطر للنزول عنها فقاتل
مترجلاً ، فقطعت يمينه ، فأخذ اللواء بيساره ، فقطعت يساره ، فاحتضن
اللواء حتى قتل ، ووجد فيه بضع وسبعون جرحاً ما بين ضربه بسيف وطعنة برمح ،
ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة ، فقاتل حتى قتل ، ثم أتفق المسلمون على
إمره خالد بن الوليد للجيش ـ وكانت هذه أول معركةيحضرها في الإسلام ـ فما
زال يستعمل دهاءه الحربي حتى انقذ الجيش الإسلامي من الفناء ، ثم عاد به
إلى المدينة . كانت هذه أول معركة يخوضها المسلمون خارج جزيرة العرب ضد
الروم ، وسميت بالغزوة وإن لم يحضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكثرة
المحاربين فيها . حيث بلغوا ثلاثة آلاف مقاتل .
في معارك الرسول الحربية
آ ـ الوقائع التاريخية
ما
كان يستقر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة حتى بدأت المعارك
الحربية بينه وبين قريش ومن الأهامن قبائل العرب ، وقد اصطلح المؤرخون
المسلمون على أن يسموا كل معركة بين المسلمين والمشركين وخصوها النبي بنفسه
" غزوة" وبلغت عدد سراياة ثمانية وثلاثين سرية ،ونقتصر في هذا العجالة على
أشهر غزواته ، وهي احدى عشرة غزوة .
1- غزوة بدر الكبرى
، وكانت في اليوم السابع عشر من رمضان للسنة الثانية من الهجرة ، وسببها
أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب يريد قتالاً ، ولكن القافلة التي كان
يقودها أبو سفيان قد نجت بعد أن كان أرسل إلى قريش يستنفرها لحماية القافلة
، فخرجت قريش في نحو من ألف مقاتل ، منهم ستمائه دارع( لابس للدرع ) ومائة
فرس عليها مائة درع سوى دروع المشاة وسبعمائة بعير ، ومعهم القيان يضربن
بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين .
أما
المسلمون ، فكانت عدتهم ثلاثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر رجلا ، أكثرهم
من الأنصار ، وكان معهم سبعون جملاً ، فرسان أو ثلاثة أفراس فحسب ، وكان
يتعاقب النفر اليسير على الجمل الواحد فترة بعد أخرى ، وقبل أن يخوض
المعركة ، أراد أن يستشير أصحابه ، وخاصة الأنصار ، في خوض المعركة ، فأشار
عليه المهاجرون بخوضها ، وتكلموا خيراً ، ثم علم الأنصار أنه يريدهم ،
فقال له سعد بن معاذ وهو سيد الأنصار جميعاً : يا رسول الله قد آمنا بك ،
وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا
ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يارسول الله ما أردت ، فنحن معك ، ما
تخلف منا رجل واحد ، ما نكره أن تلقي بنا عدونا غداً ، وإنا لصبر عند الحرب
، صدق عند اللقاء ، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة
الله . وقال غيره مثل ذلك فسُر الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك ، وقال :
سيروا على بركة الله ، وأبشروا ، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين ، إما
العير ، وإما النفير ،
ثم
سار الرسول صلى الله عليه وسلم حتى وصل أدنى ماء من بدر فنزل به ، فقال
الحباب بن المنذر : يا رسول الله هذا منزل أنزلكه الله تعالى : لا تقدمه ،
ولا تتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فقال الرسول صلى الله عليه
وسلم بل هو الرأي والحرب والمكيدة ، فأشار عليه الخباب بن المنذر أن يسير
إلى مكان آخر هو أصلح وأمكن للمسلمين من قطع ماء بدر عن المشركين ، فنهض
الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى وصلوا إلى المكان ، الذي أشار به
الحباب ، فأقاموا فيه ، ثم أشار سعد بن معاذ أن يبني للرسول صلى الله عليه
وسلم عريشاً وراء صفوف المسلمين ، فان أعزهم الله كان ما أحب ، وإلا جلس
على ركائبه ولحق بمن في المدينة ، وقال له سعد : فقد تخلف عنا أقوام يا نبي
الله ما نحن بأشد لك حباً منهم ، ولو ظنوا أن تلقى حرباً لما تخلفوا عنك ،
فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمر أن يبني له العريش ولما التقى
الجمعان ، أخذ الرسول يسوي صفوف المسلمين ، ويحرضهم على القتال ، ويرغبهم
في الشهادة ، وقال : " والذي نفسي بيده ، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل
صابراً محتسباً ، مقبلا غير مدبر ، إلا أدخله الله الجنة " ورجع إلى عريشه
ومعه أبو بكر ، ويحرسه سعد بن معاذ متوحشاً بسيفه ، وأخذ الرسول صلى الله
عليه وسلم في الدعاء ومن دعائه : اللهم أنشد عهدك ووعدك اللهم إن تهلك هذه
العصابة ( المؤمنون المحاربون) لا تعبد في الأرض "وأطال في سجوده ، حتى قال
له أبو بكر : حسبك ، فان الله سينجز لك وعدك ، ثم حمي القتال ، وانتهت
المعركة بانتصار المسلمين ،وقد قتل من المشركين نحو من السبعين ، فيهم
أشركهم أبو جهل وبعض زعمائهم ، وأسر منهم السبعين ، ثم أمر بدفن القتلى
جمعياً ،وعاد إلى المدينة ، ثم استشار أصحابه في أمر الاسرى ، فأشار عليه
عمر بقتلهم ، وأشار عليه أبو بكر بفدائهم ، فقبل الرسول صلى الله عليه وسلم
مشورة أبي بكر ،وافتدى المشركون أسراهم بالمال .
وقد
نزل في معركة بدر آيات من كتاب الله الكريم ، قال الله تعالى في سورة آل
عمران " ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأنتُمْ أذِلَّةٌ ،
فَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، إِذْ تَقُولُ لِلمُؤمِنينَ ألن
يَكْفِيَكُمْ أن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ
مُنزَلِين ، بَلى إن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأتُوكُمْ مِن فَورِهِم
هَذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ
مُسَوِّمين ،وَمَا جَعَلَهُ الله إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ
قُلُوبُكُمْ بِهِ ، وَمَا النَّصْرُ إلا مِنْ عِندِ الله العَزِيزِ
الحَكِيمِ ، لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الذِينَ كَفَرُوا أوْ يَكْبِتَهُمْ
فَيَنقَلِبُوا خَائِبِين ) [ آل عمران : 123ـ127 ] . كما نزل العتاب لرسول
الله صلى الله عليه وسلم على قبوله فداء الاسرى ، فقال الله تعال : ( مَا
كَانَ لِنَبِيٍ أَن يَكُونَ لَهُ أسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْض ِ،
تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا ، وَالله يُريدُ الآخِرَةِ ، وَالله ُعَزِيزٌ
حَكِيمٌ ، لَولا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أخَذْتُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ ، فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً ،
وَاتَّقُوا اللهَ ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [ الانفال : 67ـ 68 ٍ] .
2 ـ غزوة أحد :
وكانت
يوم السبت لخمس عشرة خلت من شوال في العالم الثالث للهجرة ، وسببها أن
قريشاً أرادت أن تثأر ليوم بدر ، فما زالت تستعد حتى تجهزت لغزو الرسول صلى
الله عليه وسلم في المدينة ، فخرجت في ثلاثة آلاف مقاتل ، ما عدا الأحابيش
فيهم سبعمائة دارع وماتئا فارس ، ومعهم سبع عشر أمراة ، فيهن هند بنت عتبة
زوج أبي سفيان ، وقد قتل أبوها يوم بدر ، ثم ساروا حتى وصلوا بطن الوادي (
وهو جبل مرتفع يقع شمال المدينة على بعد ميلين منها) ، مقابل المدينة ،
وكان من رأي الرسول وعدد من الصحابة أن لا يخرج المسلمون إليهم ، بل يظلون
في المدينة ، فإن هاجمهم المشركون صدوهم عنها ، ولكن بعض شباب المسلمين
وبعض المهاجرين والأنصار ، وخاصة من لم يحضر منهم معركة بدر ولم يحصل له
شرف القتال فيها ، تحمسوا للخروج إليهم ومنازلتهم في أماكنهم ، فنزل الرسول
صلى الله عليه وسلم عند رأيهم ، ودخل بيته ولبس لأمته ( درعة ) ، وألقى
الترس في ظهره ، وأخذ قناته بيده ، ثم خرج إلى المسلمين ، وهو متقلد سيفه ،
فندم الذي أشاروا عليه بالخروج إذا كانوا سبباً في حملة على خلاف رأيه ،
وقالوا للرسول : ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت أو أقعد إن شئت ،
فأجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : " ما كان ينبغي لنبي إذا لبي
لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه " ، ثم خرج والمسلمون معه في
نحو ألف بينهم مائة دارع وفرسان .
ولما
تجمع المسلمون للخروج ، رأى الرسول جماعة من اليهود يريدون ان يخرجوا مع
عبدالله بن أبي بن سلول رأس المنافقين للخروج مع المسلمين ، فقال الرسول : "
أوقد أسلموا ؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال :" مروهم فليرجعوا فانا لا
نستعين بالمشركين على المشركين " ، وفي منتصف الطريق أنخذل عن المسلمين عبد
الله بن أبي سلول ومعه ثلاثمائة من المنافقين ، فبقي عدد المسلمين سبعمائة
رجل فحسب ، ثم مضى الرسول وصف الجيش وجعل على كل فرقة منه قائداً ،
واختار خمسين من الرماة ، على رأسهم عبد الله بن جبير الأنصاري ليحموا ظهر
المسلمين من التفاف المشركين وراءهم ، وقال لهم" أحموا ظهورنا ، لا يأتونا
من خلفنا ، وارشقوهم بالنبل ، فإن الخيل لا تقوى على النبل ، إنا لا نزال
غالبين ما ثبتم مكانكم ، اللهم إني أشهدك عليهم " وقال لهم في رواية أخرى :
" إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم ، وإن
رأيتمونا هزمنا القوم أو ظاهرناهم وهم قتلى ، فلا تبرحوا مكانكم حتى أرسل
اليكم ".
ثم
ابتدأ القتال ، ونصر الله المسلمين على أعدائهم ، فقتلوا منهم عدداً ، ثم
ولوا الادبار ، فانغمس المسلمون في أخذ الغنائم التي وجدوها في معسكر
المشركين ، ورأى ذلك من وراءهم من الرماة فقالوا : ماذا نفعل وقد نصر الله
رسوله ؟ ثم فكروا في ترك أمكنتهم لينالهم نصيب من الغنائم ، فذكرهم رئيسهم
عبد الله بن حبير بوصية الرسول ، فأجابوا بأن الحرب أنتهت ، ولا حاجة
للبقاء حيث هم ، فأبى عبدالله ومعه عشر آخرون أن يغادروا أماكنهم ، ورأى
خالد بن الوليد وكان قائد ميمنة المشركين خلو ظهر المسلمين من الرماة ، فكر
عليهم من خلفهم ، فما شعر المسلمون إلا والسيوف تناوشهم من هنا وهناك ،
فاضطرب حبلهم ، وأشيع أن الرسول قد قتل ، ففر بعضهم عائدا على المدينة ،
واستطاع المشركين أن يصلوا إلى الرسول ، فأصابته حجارتهم حتى وقع وأغمى
عليه ، فشجع وجهه وخدشت ركبتاه ، وجرحت شفته السفلى ، وكسرت الخوذة على
رأسه ، ودخلت حلقتان من حلقات المغفر في وجهته ، وتكاثر المشركون على
الرسول يريدون قتله ، فثبت صلى الله عليه وسلم ،وثبت معه نفر من المؤمنين ،
منهم : أبو دجانة ، تترس على الرسول ليحميه من نبال المشكرين ، فكان النبل
يقع على ظهره ، ومنهم سعدبن أبي وقاص ، رمى يومئذ نحو ألف سهم ، ومنهم :
نسيبة أم عمارة الأنصارية ، تركت سقاء الجرحى ، وأخذت تقاتل بالسيف ، وترمي
بالنبل ، دفاعاً عن رسول الله حتى أصابها في عنقها ، فجرحت جرحاً عميقاً ،
وكان معها زوجها وابناها ، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : بارك
الله عليكم أهل البيت ، فقالت له نسيبة : ادع الله أن نرافقك في الجنة ،
فقال " اللهم أجعلهم رفقائي في الجنة ، فقالت رضي الله عنها بعد ذلك : ما
أبالي ما أصابني من أمر الدنيا ، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حقها : "
ما التفت يمينا وشمالاً يوم أحد ، إلا ورأيتها تقاتل دوني " وقد جرحت يومئذ
أثنى عشر جرحاً ، ما بين طعنة برمح وضربة بسيف .
وقد
حاول في ساعة الشدة أن يصل أبي بن خلف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم
ليقتله ، وأقسم أن لا يرجع عن ذلك ، فأخذ عليه السلام حربة ممن كانوا معه ،
فسددها في نحره ، فكانت سبب هلاكه ، وهو الوحيد الذي قتله صلى الله عليه
وسلم في جميع معاركه الحربية ثم استطاع صلى الله عليه وسلم الوقوف والنهوض
على أكتاف طلحة بن عبيد الله ، فنظر إلى المشركين ، فرأى جماعة منهم على
ظهر الجبل ، فأرسل من ينزلهم قائلا :" لا ينبغي لهم أن يعلونا ، اللهم لا
قوة لنا إلا بك " وأنتهت المعركة . وقال أبو سفيان مظهرا تشفيه والمشركين
من هزيمتهم يوم بدر : يوم بيوم بدر .
وممن قتل في هذه المعركة حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومثلت به
هند زوج أبي سفيان ، واحتزت قلبه ومضغته ، فرأت له مرارة فلفظته ، وقد حزن
الرسول صلى الله عليه وسلم لمشهده حزناً عظيماً فقال : لئن أظهرني الله على
قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثنين رجلا منهم ، ولكن الله نهي عن
المثلة بعد ذلك .وقد بلغ عدد قتلى المسلمين في هذه المعركة نحواً من
السبعين ، وقتلى المشركين ثلاثة وعشرين .
وقد
أنزل الله تعالى في هذه المعركة عدة آيات يضمد بها جراح المؤمنين ،
وينبههم إلى سبب الهزيمة التي حلت بهم ، فيقول في سورة آل عمران: " ( وَلا
تَهِنُوا وَلا تَخْزَنُوا وَأنتُمْ الأعْلَونَ إن كُنتُم مُّؤمِنِينَ ، إن
يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَومَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ، وَتِلْكَ
الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَينَ النَّاسِ ، وَلِيَعْلَمَ الله الذِينَ
أمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ، وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمينَ
، وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ ، أَمْ
حَسِبْتَهُمْ أن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الذِينَ
جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرينَ ) [ آل عمران : 139-142 ] ثم
يقول بعد آيات : ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّوَنُهمْ (
تقتلونهم ) بِإِذْنِهِ ، حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَـَنـازَعْتُمْ فِي
الأمْرِِِِ ، وَعَصَيتُمْ مِن بَعْدِ مَا أرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ ، مِنكُم
مَن يُرِيدُ الدُّنيَا ، وَمِِنكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَة ، ثُمَّ
صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ، وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ، وَاللهُ
ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤمِنينَ ، إذْ تُصْعِدُونَ ( أي تهربون إلى الجبل
صاعدين ) وَلا تَلْوونَ عَلَى أحَدٍ ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي
أُخْرَاكُمْ فَأثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمًّ ٍ( أي فجازاكم غما على غم )
لِكَيلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَاَبُكْم ، وَاللهُ
خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) [ آل عمران : 152 ـ 13 ] .
3-غزوة بني النضير :
وهم
قوم من اليهود يجاورون المدينة ، وكانوا حلفاء للخروج وبينهم وبين
المسلمين عهد سلم وتعاون كما قدمنا ، ولكن طبيعة الشر والغدر المتأصلة في
اليهود أبت إلا أن تحملهم على نقض عهدهم ، فبينما كان الرسول صلى الله عليه
وسلم وبعض أصحابه في بني النضير وقد أستند إلى جدار من بيوتهم ، إذا
تآمروا على قتله بالقاء صخرة من ظهر البيت ، فعلم صلى الله عليه وسلم بذلك
فنهض سريعاً كأنه يهم بحاجة ، فتوجه إلى المدينة ، ولحقه أصحابه ثم أرسل
اليهم محمد بن مسلمة أن أخرجوا من بلدي فلا تساكنوني بها ، وقد هممتم بما
هممتم به من الغدر ، ثم أمهلهم صلى الله عليه وسلم عشر أيام للخروج ، وتجهز
بنو النضير للخروج في هذا الانذار ، ولكن عبد الله بن أبي رأس المنافقين
أرسل اليهم ينهاهم عن الخروج ، و يعدهم بإرسال الفين من جماعته يدافعون
عنهم، فعدلوا عن النزوح ، وتحصنوا في حصونهم وأرسلوا إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم : إنا لا نخرج من ديارنا ، فاصنع ما بدا لك فخرج إليهم صلى
اله عليه وسلم في أصحابه يحمل لواءه علي بن أبي طالب ، فلما رآهم اليهود
أخذوا يرمونهم بالنبل والحجارة ، ولم يصل اليهم المدد الذي وعدهم به رأس
المنافقين ، فحاصرهم عليه الصلاة والسلام ، فصبروا فاضطر إلى قطع نخيلهم ،
فقالوا عندئذ : نخرج من بلادك ، واشترط عليهم صلى الله عليه وسلم أن لا
يخرجوا معهم السلاح ، ولهم أن يخرجوا معهم من أموالهم ما حملته الأبل ،
ودماؤهم مصونة لا يسفك منها قطرة ، فلما أراداوا الخروج أخذوا كل شيء
يستطيعونه ، وهدموا بيوتهم لكى لا يستفيد منها المسلمون ، وسارعوا ، فمنهم
من نزل خيبر على بعد مائة ميل من المدنية ، ومنهم من نزل في ناحية " جرش "
بجنوب الشام ،ولم يسلم منهم إلا أثنان .
وقد
نزلت في هذه الغزوة سورة( الحشر ) ومنها قول الله تعالى : (هُوَ الذِي
أخْرَجَ الذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهْلِ الكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ
الحَشْرِ ، مَا ظَنَنْتُمْ أن يَخْرُجُوا ، وَظَنُّوا أنَّهُمْ مَا
نِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ ، فَأتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيثُ لا
يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِِهِمُ الرُّعُبَ يُخْرِبُونَ بُيوتَهُمْ
بِأيدِيهِمْ وَأيدِى المُؤْمِنِينَ ، فَاعْتَبِرُوا يَا أولِى الأبْصَارِ ،
وَلوْلا أنْ كَتَبَ اللهُ عَليهِمُ الجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا
وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ، ذَلِكَ بِأنَّهُمْ شَآقُّوا
اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللهَ فَإنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ ) [
الحشر : 2ـ4] .
4-غزوة الأحزاب :
وتسمى
غزوة ( الخندق ) ، وقد وقعت في شوال من السنة الخامسة للهجرة ، وسببها أنه
لما تم إجلاء بني النضير ، قدم عدد من رؤسائهم إلى مكة يدعون قريشا
ويحرضونها على قتال الرسول ، فأجابت قريش لذلك ، ثم ذهب رؤساء اليهود إلى
غطفان ، فاستجابت لهم بنو فزارة وبنو مرة ، وأشجع واتجهوا نحو المدينة ،
فلما سمع صلى الله عليه وسلم بخروجهم ، استشار أصحابه فأشار عليه سلمان
بحفرخندق حول المدينة، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بحفره وعمل فيه
بنفسه ، ولما وصلت قريش ومن معها من الأحزاب راعها ما رأت من أمر الخندق ،
إذ لا عهد للعرب بمثله ، وكانت عدتهم عشر آلاف ، وعدة المسلمين ثلاثة آلاف ،
وكان حيي بن أخطب أحد اليهود الذين هيجوا قريشاً والأحزاب ضد المسلمين ،
قد ذهب الى كعب بن أسيد سيد بني قريظة يطلب إليه نقض عهد السلم بينه وبين
المسلمين ، وفكر النبي في مصالحه بني قريظة على ثلث ثمار المدينة ، ولكن
الأنصار رفضوا اعتزازاً بدينهم من أن يعطوا الدنية لهؤلاء الخائنين للعهود
والمواثيق ، وبدأ القتال بافتتاح بعض فرسان المشركين للخندق من أحدى نواحيه
الضيقة ، فناوشهم المسلمون وقاتلوهم ، ثم جاء نعيم بن مسعود بن عامل إلى
الرسول ، فأخبره أنه قد أسلم ، وأن قومه لا يعلمون بإسلامه ، وأنه صدق لنبي
قريظة يأتمنونه ويقون به ، وقال للرسول : مرني بما شئت ، فقال له الرسول :
" إنما أنت فينا رجل واحد ، فخذل عنا إن استطعت ، فإن الحرب خدعة :
فاستعمل نعيم دهاءه حتى فرق بين قريش وحلفائها ، وبين بني قريظة ، وأوقع في
نفوس كل من الفريقين الشك في الآخر ، وأرسل الله على الأحزاب ريحاً شديدة
في ليلة شاتية شديدة ، فجعلت تكفئ قدورهم وتمزق خيامهم . فامتلأت نفوس
الأحزاب بالرعب ورحلوا في تلك الليلة ، فلما أصبح الصباح نظر المسلمون فلم
يروا أحداً.
وفي
هذه الغزوة أنزل الله تعالى في كتابه الكريم : ( يَا أيُّهَا الذِينَ
آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَليكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ
فَارْسَلْنَا عَليهِمْ رِيحاً وَجُنُودَاً لمْ تَرَوهَا وَكانَ اللهُ بِمَا
تَعْمَلونَ بَصِيرَاً ، إذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوقِكُمْ وَمِنْ أسْفَلَ
مِنْكُمْ وَإذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلغَتِ القُلوبُ الحَنَاجِرَ
وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ، هُنَالِكَ ابْتُلِىَ المُؤْمِنُونَ
وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيداً ) [ الاحزاب : 9ـ11] ، ثم يصف موقف
المنافقين وتخذيلهم وانسحابهم من المعركة ، ثم يقول في وصف المؤمنين : (
وَلمَّا رَءَا المُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ
وَرَسُولُهُ ، وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولهُ ، وَمَا زَادَهُمْ إِلا إيمَاناً
وَتَسْلِيماً ، مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ
عَلِيهِ ، فَمِنْهُم مَّنْ قَضَى نَحْبَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ
وَمَا بَدَّلوا تَبْدِيلاً ، ليَجْزيَ اللهُ الصَّادِقينَ بِصِدْقِهِمْ
وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أو يَتُوبَ عَليهِمْ إنَّ اللهَ
كَانَ غَفُورَاً رَحِيماً ، وَ رَدَّ اللهُ الذِينَ كَفَرُوا بِغَيظِهِمْ
لَمْ يَنَالوا خَيراً وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللهُ
قَويَّاً عَزِيزاً ) . [ الأحزاب : 22 ـ 25] .
5- غزوة بني قريظة :
وقد وقعت في السنة الخامسة بعد أن رأى ما أنطوت عليه نفوس يهود بني قريظة
من اللؤم والغدر والتحزب مع قريش وحلفائها ، وبعد أن أعلنت له إبان أشتداد
معركة الأحزاب أنها فضت عهدها معه ، وكانت وهي تساكن الرسول صلى الله عليه
وسلم في المدينة تهم بشر عظيم قد يقضي على المسلمين جميعاً لولا انتهاء
معركة الأحزاب بمثل ما انتهت إليه ، رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يؤدب هؤلاء الخائنين الغادرين، ويظهر منهم المدينة مقر جهاده ودعوته حتى لا
تواتيهم الظروف مرة أخرى ، فينقضوا على جيران المسلمين ، ويبيدوهم كما هي
طبيعة الغدر اليهودي اللئيم .
وروى
البخاري عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما
رجع يوم الخندق ووضع السلاح واغتسل ، أتاه جبريل وقد عصب رأسه الغبار فقال :
وضعت السلاح ، فوالله ما وضعته ، قال : فأين ؟ قال : ها هنا ، وأوماً إلى
بني قريظة ، قالت : فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. أمر الرسول
صلى الله عليه وسلم من ينادي في الناس بأن لا يصلين أحد العصر إلا في بنى
قريظة ، ثم خرج فيهم وقد حمل رايته علي رضي الله عنه ، وقد اجتمع من
المسلمين ثلاثة آلاف ، ومن الخيل ست وثلاثون فلما دنا علي من حصن بني قريظة
، سمع منهم مقالة قبيحة في حقه صلى الله عليه وسلم وحق أزواجه ، فأخبر
النبي صلى الله عليه وسلم ، وطلب اليه أن لا يدنو من أولئك الأخباث ،
فأجابه عليه السلام بأنهم إذا ، رأوه لم يقولوا من ذلك شيئاً لما يعلم من
أخلاقهم في النفاق والملق ، فلما رأوه تطفوا به كما تنبأ صلى الله عليه
وسلم ، ثم أخذ المسلمون في حصارهم خمساً وعشرين ليلة ، فلما ضاق بهم الأمر ،
نزلوا على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فحكم فيهم سعد بن معاذ سيد
الأوس ، وكان بنو قريظة حلفاء الأوس ، فحكم سعد بأن تقتل مقاتلهم ، وأن
تسبى ذراريهم ، وأن تقسم أموالهم ، فنفذ الرسول حكمه ،وبذلك قضى على
مؤامرات اليهود ودسائسهم وتآمرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم و دعوته
قضاءً مبرماً في المدنية وما حولها .
وفي
هذه الغزوة نزلت آيات من القرآن الكريم تبين غدر اليهود ، ونقضهم للعهود ،
وتخذيلهم لصفوف المسلمين في غزوة الأحزاب : ( وَإذْ قَالَت طَّائِفَةٌ
مِنْهُمْ يَا أهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لََكُمْ فَارْجِعُوا ،
وَيَسْتَئْذنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ ، يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنَا
عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَورَةٍ ، إنْ يُرِيدُونَ إلا فِراَرَاً ، وَلوْ
دَخَلتَ عَليْهِمْ مِنْ أقْطَارِهَا ، ثُمَّ سُئِلُوا ، لآتَوهَا ، وَمَا
تَلَبَّثُوا بِهَا إلا يَسِيراً ، وَلقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ
قَبْلُ ( إشارة إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم معهم يوم أستقر بالمدينة )
لا يُوَلُّونَ الأدْبَارَ ، وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُولاً ، قُلْ لن
يَنفَعُكُمْ الفِرَارَ إنْ فَرَرْتُم مِنَ المَوْتِ أوِ القَتْلِ ، وَإذًَا
لا تُمَتَّعُونَ إلا قَلِيلاً ) [ الأحزاب : 13 ـ 16 ] الى قوله : (
وَأنْزَلَ الذِينَ ظَاهَرُوهُمْ ( أهل الأحزاب ) مِنْ أهْلِ الكِتَابِ مِنْ
صَيَاصِيهِمْ ( حصونهم ) وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ ، فَرِيقاً
تَقْتُلونَ ،وَتَأسُرُونَ فَرِيقاً ، وَأوْرَثَكُمْ أرْضَهُمْ
وَدِيَارِهِمْ وَأمْوَالَهَمْ ، وَأرْضَاً لَمْ تَطَئُوهَا ، وَكانَ اللهُ
عَلى كُلِّ شَيءٍ قَدِيراً ) [ الأحزاب : 26ـ 27] .
6ـ غزوة الحديبية :
وقعت
في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ،وكان من أمرها أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم رأي في منامة أنه دخل البيت هو وصحابته آمنين محلقين رؤوسهم
ومقصرين لا يخافون شيئاً ، فأمر الناس أن يجهزوا للخروج إلى مكة معتمرين ،
لا يريد حرباً لقريش ولا قتالاً ، فخرج معه المهاجرون والأنصار يحدوهم
الشوق إلى رؤية بيت الله الحرام بعد أن حرموا من ذلك ست سنوات ، وخرج معهم
من شاء من الأعراب ، وساق أمامه صلى الله عليه وسلم وهو ما يساق إلى البيت
الحرام من الإبل والنعم تعظيماً للبيت وتكريماً ، وأحرم بالعمرة في مكان
يسمى بذي الحليفة ، ليعلم الناس وقريش خاصة أنه لا يريد قتالا ، وكان عدد
من خرج معه نحواً من ألف وخمسمائة ، ولم يخرجوا معهم بسلاح إلا سلاح
المسافر في تلك العهود : السيوف في أغمادها ، وسار حتى إذا وصل إلى " عسفان
" جاء من يقول له : هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا وقد لبسوا جلود
النمور يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبداً ، فقال صلى الله عليه وسلم :
ياويح قريش ، لقد أكلتهم الحرب ! ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ،
فإن هم أصابوني ، كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في
الاسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظن قريش ؟ فوالله
لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله حتى يظهره الله ، أو تنفرد هذه السالفة "
.
فلما
وصل إلى الحديبية ـ وهي مكان قريب من مكة بينها وبين طريق جدة الآن ، ـ
جاءه بعض رجال من خزاعة يسألون عن سبب قدومه ، فأخبرهم أنه لم يأت إلا
ليزور البيت ويعتمر ، فرجعا وقالوا لهم : إنكم تعجلون على محمد ، لم يأت
لقتال ، إنما جاء زائراً ، لهذا البيت ، فقالوا : لا والله لا يدخلها علينا
عنوة أبداً ، ولا يتحدث العرب عنا بذلك . ثم بعثوا عروة بن مسعود الثقفي
ليتحدث إلى الرسول بهذا الشأن ، وبعد حديث وأخذ ورد بين عروة وبعض الصحابة ،
عاد إلى قريش وحدثهم عما رأى من حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه
وسلم وهيبتهم له ، ورغبتهم في الصلح معه ، فأبوا ذلك ، ثم بعث الرسول صلى
الله عليه وسلم عثمان بن عفان إلى أهل مكة ليؤكد لهم الغرض من مجيء الرسول
وصحابته ، وأبطأ عثمان ، فأشيع بين المسلمين أنه قد قتل ، فقال الرسول
عندئذ : لا نبرح حتى نناجز القوم ( نقاتلهم )ودعا المسلمين إلى البيعة على
الجهاد .والشهادة في سبيل الله ، فبايعوه تحت شجرة هناك من أشجار الطلح على
عدم الفرار ، وأنه إما الصلح معه على أن يرجع في هذا العام ويعود من قبل
فيقيم ثلاثاً معه سلاح الراكب : الرماح والسيوف في أغمادها ، وأرسلت قريش
لذلك سهيل بن عمرو ليتم هذا الصلح ، وأخيراً تم الصلح ، على ما رغبت قريش ،
وعلى وضع الحرب بين الفريقين عشر سنين ، وأن من أتى من عند محمد إلى مكة
لم يردوه ، وأن من أتى محمداً من مكة ردوه اليهم ،
فعز
ذلك على المسلمين ، وأخذ بعضهم يجادل النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء
من شروطها ، ومن اشدهم في ذلك عمر ، حتى قال رسول الله : " إني عبد الله ،
ولن يضيعني ثم أمر الرسول أصحابه بالتحلل من العمرة فلم يفعلوا ذلك من
موجة من الألم ، لما حيل بينهم وبين دخول مكة . ولما شق عليهم من شروط
الصلح فبادر عليه السلام بنفسه ، فتحلل من العمرة ، فتبعه المسلمون جميعاً ،
وقد ظهرت فيما فيها بعد فوائد هذه الشروط التي صعبت على المسلمين ورضي بها
الرسول ، لبعد نظره ، ورجحان عقله ،وإمداد الوحي له بالسداد في الراي
والعمل .
هذا
وقد سمى الله هذه الغزوة فتحاً مبيناً ، حيث قال : ( إنَّا فَتَحْنَا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً ، لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ
وَمَاتَأخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَليْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً
مُسْتَقِيمَاً ، وَيَنصُرَكَ اللهُ نَصْرَاً عَزِيزاً ) . [ الفتح : 1ـ3]
ثم تحدث عن مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( إنَّ الذِينَ
يُبَايُعُونَكَ إنَّمَا يُبَايُعونَ اللهَ ، يَدُ اللهِ فَوقَ أيْدِيهِمْ ،
فَمَن نَكَثَ فَإنَّمَا يَنكُثُ عَلى نَفْسِهِ ، وَمَنْ أوْفَى بِمَا
عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أجْرَاً عَظِيماً ) [ الفتح :10]
ورضي عن أصحاب بيعة الرضوان تحت الشجرة فقال : ( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ
المُؤْمِنينَ إذْ يُبَايُعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، فَعَلِمَ مَا فِي
قُلوبِهِمْ فَأنْزَلَ السَّكِينَةَ عَليْهِمْ ، وَأثَابَهُمْ فَتْحاً
قَرِيباً ) [ الفتح : 18] وتحدث عن رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم التي
كانت سبباً في غزوة الحديبية ، فقال " ( لََقَدْ صَدَقَ اللهَ وَرَسُولُهُ
الرُّءُيَا بِالحَقِّ لتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إنْ شَاءَ اللهُ
آمِنِينَ مُحَلِقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ ، فَعَلِمَ
مَا لَمْ تَعْلَمُوا ، فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ) [
الفتح : 27] ولعل هذه إشارة إلى فتح مكة الذي كان ثمرة من ثمرات صلح
الحديبية ، كما سنذكره في الدروس والعظات ان شاء الله ، ثم أتبع ذلك بتأكيد
غلبة هذا الدين وأنصاره ، فقال : ( هُوَ الذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّه ، وَكَفَى
بِاللهِ شَهِيداً ) [ الفتح : 28] وصدق الله العظيم .
7-غزوة خيبر :
وكانت في أوخر المحرم للسنة السابعة من الهجرة .
و " خيبر" واحة كبيرة يسكنها اليهود على مسافة مائة ميل من شمال المدينة جهة الشام
وسببها :
أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أمن جانب قريش بالصلح الذي تم في
الحديبية ، قرر تصفية مشكلة التجمعات اليهودية فيما حول المدينة بعد أن صفى
اليهود من المدينة نفسها ، وقد كان اليهود في خيبر حصون منيعة ،وكان فيها
نحو من عشر آلاف مقاتل ، وعندهم مقادير كبيرة من السلاح والعتاد ، وكانوا
أهل مكر وخبث وخداع ، فلا بد من تصفية مشكلتهم قبل أن يصبحوا مصدر اضطراب
وقلق للمسلمين في عاصمتهم " المدينة" ولذلك أجمع الرسول صلى الله عليه وسلم
على الخروج اليهم في أواخر المحرم ، فخرج اليهم في ألف وستمائه مقاتل ،
منهم مائتا فارس ، واستنفر من حوله ممن شهد الحديبية ، وسار حتى إذا أشرف ،
على خيبر قال لأصحابه : قفوا ، ثم عاد فقال : " اللهم رب السموت وما أظللن
، ورب الأرضين وما أقللن ، ورب الشياطين وما أضللن ،ورب الرياح وما ذرين ،
إنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ، ونعوذ بك من شرها وشر
أهلها وشر ما فيها ، أقدموا الله " .
ولما
وصلوا إليها نزل النبي صلى الله عليه وسلم قريباً من أحد حصون خيبر يسمى "
حسن النطاق " وقد جمعوا فيه مقاتلتهم ، فأشار حباب بن المنذر بالتحول ،
لأنه يعرف أهل النطاق معرفة جيدة ، ليس قوم أبعد مدى ولا أعدل رمية منهم،
وهم مرتفعون على مواقع المسلمين ، فالنبل منهم سريع الانحدار على صفوف
المسلمين ، ثم إنهم قد يباغتون المسلمين في الليل متسترين بأشجار النخيل
الكثيرة ، فتحول الرسول مع المسلمين إلى موضع آخر وابتدأت المعارك ، يفتح
المسلمون منها حصناً بعد حصن ، إلا الحصنين الآخرين ، فقد رغب أهلهما في
الصلح على حقن دماء المقاتلة ، وترك الذرية ، ولا خروج من أرض خيبر
بذراريهم ، وأن لا يصحب أحد منهم إلا ثوباً واحداً ، فصالحهم على ذلك ،
وعلى أن ذمه الله ورسوله بريئة منهم إن كتموه شيئاً ، ثم غادرهما ، فوجد
المسلمون فيها أسلحة كثيرة ، وصفحات متعددة من التوراة ، فجاء اليهود
بعدذلك يطلبونها ، فأمر بردها اليهم ، وقد بلغ عدد قتلى اليهود في هذه
المعركة ثلاثة وتسعين ، واستشهد من المسلمين خمسة عشر .
8-غزوة مؤتة :
كانت
في جمادي الأول للسنة الثامنة من الهجرة ، و" مؤته " قرية على مشارف الشام
، تسمى الآن " بالكرك " جنوب شرق البحر الميت، وكان سببها أن الرسول كان
قد أرسل الحارث بن عمير بكتاب إلى أمير مصرى من جهة هرقل ،وهو الحارث بن
ابي شمر الغساني يدعوه فيه إلى الإسلام ـ وكان ذلك من جملة كتبه التي بعث
بها عليه السلام إلى ملوك العالم وأمراء العرب بعد صلح الحديبية ـ فلما نزل
مؤته أحد الأمراء العرب الغساسنة التابعين لقيصرالروم ، فقال له : أين
تريد ؟ لعلك من رسل محمد ؟ قال : نعم ، فأوثقه وضرب عنقه ، فبلغ ذلك رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتد عليه الألم إذ لم يقتل له رسول غيره ،
وجهز لهم جيشاً من المسلمين عدته ثلاث آلاف . وأمر عليهم زيد بن حارثة ،
وأوصاهم ، إن أصيب زيد ليؤمروا جعفر بن أبي طالب ، فان أصيب ، فليؤمروا
عليه عبد الله بن رواحة ، وطلب من زيد أن يأتي بقاتل الحارث بن عمير ، وأن
يدعو من هناك إلى الإسلام ، فان أجابوا ، وإلا فليستعينوا بالله ،
وليقاتلوهم ، وأوصاهم بقوله : " أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين
خيراً ، اغزوا باسم الله ، وفي سبيل الله ، من كفر بالله ، لا تغدروا ،ولا
تغلوا ( الغلول السرقة ) ولا تقلتوا وليداً ، ولا أمرأة ، ولا كبيراً
فانياً ، ولا منعزلاً بصومعة ،ولا تقربوا نخلاً ، ولا تقطعوا شجراً ، ولا
تهدموا بناءاً "
ثم
سار الجيش على بركة الله ، وقد شيعهم الرسول بنفسه ، ولم يزالوا سائرين
حتى وصلوا معان ، فبلغهم أن هرقل قد جمع جمعاً عظيماً ، ونزل في مآب من أرض
البلقاء ( هي كورة من أعمال دمشق قصبتها عمان ) وكان جيش الروم مؤلفاً
منهم ومن العرب المنتصرة ، فتشاور المسلمون فيما بينهم ، ورأوا أن يطلبوا
من الرسول مدداً ، أو يأمرهم بأمر آخر فيمضون له ، فقال عبد الله بن رواحة :
والله إن الذي تكرهون هو ما خرجتم له ، تطلبون الشهادة ، ونحن ما نقاتل
الناس بعدد ولا كثرة ولا قوة ، وإنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله
به ، فإنما هي إحدى الحسنيين ، فإما الظفر ، وإما الشهادة ، فوافقه الناس
على خوف المعركة ، وابتداء القتال ، فقاتل زيد حتى قتل ، ثم أستلم اللواء
بعده جعفر بن ابي طالب ، فقاتل على فرسه ، ثم أضطر للنزول عنها فقاتل
مترجلاً ، فقطعت يمينه ، فأخذ اللواء بيساره ، فقطعت يساره ، فاحتضن
اللواء حتى قتل ، ووجد فيه بضع وسبعون جرحاً ما بين ضربه بسيف وطعنة برمح ،
ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة ، فقاتل حتى قتل ، ثم أتفق المسلمون على
إمره خالد بن الوليد للجيش ـ وكانت هذه أول معركةيحضرها في الإسلام ـ فما
زال يستعمل دهاءه الحربي حتى انقذ الجيش الإسلامي من الفناء ، ثم عاد به
إلى المدينة . كانت هذه أول معركة يخوضها المسلمون خارج جزيرة العرب ضد
الروم ، وسميت بالغزوة وإن لم يحضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكثرة
المحاربين فيها . حيث بلغوا ثلاثة آلاف مقاتل .