(حكم الفطر للمسافر بواسطة وسائل النقل الحديثة،والتي لا يوجد معها مشقة،
وعناء ) ، فأقول وبالله التوفيق :
من المعلوم أن المسافر يباح له الفطر كما قال تعالى : ( وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ
عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ، وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله في مقدار مسافة
السفر التي تبيح الترخص برخص السفر : فالحنفية فلا يقدرونها بالمسافة بل
يجعلون السفر مسيرة ثلاثة أيام ولياليها بسير وسط، بينما ذهب جمهور الفقهاء
من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن السفر الذي يبيح الترخص هو مسيرة
مرحلتين بسير الأثقال، وذلك يومان، أو يوم وليله. وتساوي ستة عشر فرسخاً:
أي أربعة برد، والبريد يقدر بأربعة فراسخ، والفرسخ يقدر: بثلاثة أميال، والميل
يساوي بالوحدات المعاصرة: ( 1848) مترا، وعليه تصبح المرحلة تساوي:
( 44)كلم و (352) متر، فيكون مقدار مسافة السفر عند الجمهور ( 88
)كلم و ( 704) متر تقريباً. وهذا على وجه التقريب؛ لذلك يكثر في الفتاوى
أن أكثر من ثمانين كيلو متراً تعد سفراً، وهذه المسافة لا تحسب من منزل
الشخص بل إذا جاوز البنيان، أي أنه لو سافر بين مدينتين لابد أن يكون ما
بينهما مما هو خارج عمرانهما المتصل أكثر من (80 كم) .
وقد اتفق الفقهاء على اعتبار السفر موضع من مواضع الترخص والتخفيف في
أحكام كثيرة؛ وذلك أن السفر مظنة لحصول المشقة والنصب غالباً، فهو قطعة
من العذاب قال عليه الصلاة والسلام: " السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم
طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته فليعجل إلى أهله ". متفق عليه.
ولكن السؤال المطروح في هذه المسألة : لو خلا السفر
من المشقة، كأن يسافر الشخص بسيارة، أو طائرة مرفهة ذات مقاعد وثيرة،
وتكييف بارد، وعنده من يخدمه، ولا مشقة تلحقه، فهل يجوز لمثل هذا الترخص
برخص السفر أو لا؟
والجواب : إن العلماء قد نصوا على أن السفر
يعتبر سبباً مبيحاً للترخص، ولو لم توجد معه المشقة؛ وذلك أن السفر عندهم هو
علة الترخص، وليس المشقة. صحيح أن المشقة هي الحكمة التي من أجلها أبيح
الترخص للمسافر، ولكن لما كانت هذه الحكمة غير منضبطة ، فما يعد مشقة في
وقت ولشخص ما قد لا يكون مشقة عند غيره أو في وقت آخر؛ فجعل السفر
الذي هو مظنة المشقة علة تبيح الترخص، وأقيم مقام المشقة لانضباطه.
يقول الإمام القرافي رحمه الله : " إن الوصف
الذي هو معتبر في الحكم إن أمكن انضباطه لا يعدل عنه إلى غيره كتعليل
التحريم في الخمر بالسكر. وإن كان غير منضبط أقيمت مظنته مقامه، وعدم
الانضباط إما لاختلاف مقاديره في ذاته كالمشقة لما كانت سبباً للقصر وهي غير
منضبطة المقادير، فليس مشاق الناس سواء في ذلك، وقد يدرك ظاهراً، وقد
يدرك خفياً ومثل هذا يعسر ضبطه في محله حتى تضاف إليه الأحكام؛ فأقيمت
مظنته مقامه، وهي أربعة برد فإنها تظن عندها المشقة".( الفروق 2/ 166).
ثم إنه حتى مع تطور وسائل النقل الحديثة فإنه لا يمكن الجزم بانتفاء المشقة في
السفر، فإن المسافر غالباً ما يكون مهموم البال، مشدود الذهن متحسباً لأي
طارئ أو عارض قد يلم به في سفره : من تعطل سيارته، أو تأخر رحلته،
وغيرها من الأمور المعلومة المشاهدة، ولذا لا يمكن القطع بخلو السفر من
المشقة؛ إذ أن المشقة قد تعرض في أي لحظة، ومن دون تحسب مسبق لها.
وعليه : فيجوز الفطر للمسافر، ولو كان مسافراً على
طائرة أو سيارة مكيفة، أو في وقت الشتاء، ويجوز للمسافر بالطائرة أن يفطر و
يقصر في سفر ساعة واحدة أو أقل من ساعة، إذا كان يسمى سفراً، وقطع
مسافة القصر .
كما يجوز لمن كان سفرهم مستمراً ولهم أهل ومكان يرجعون إليهم كسائقي
سيارات الأجرة، والشاحنات، وقائدي الطائرات، والقطارات ومضيفيها، وغيرهم
أن يترخصوا برخص السفر من قصر وفطر وغيرهما في حال سفرهم؛ لأنهم
مسافرون حقيقة، ويقضون إذا رجعوا إلى أهلهم، أو في أيام الشتاء القصيرة
الباردة؛ لأن ذلك أيسرعليهم.
لكن يبقى سؤال مهم: هل الأفضل للمسافر أن يفطر أو أن
يصوم ؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم، والصحيح التفصيل في هذا:
فإن كان المسافر تلحقه مشقة ولو يسيرة فإن الأفضل في حقه أن يفطر لقوله
صلى الله عليه وسلم: " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى
عزائمه" وفي رواية : " كما يكره أن تؤتى معصيته ". (رواه احمد).
فإن كانت المشقة شديدة فقد قال عليه الصلاة والسلام لمن صام مع المشقة
الشديدة في السفر: " ليس من البر الصيام في السفر". ( متفق عليه )، أما إذا
لم يكن هناك مشقة فلا شك أن الأفضل هو الصوم؛ وذلك لأنه أسرع في إبراء
الذمة، وأيسر على المكلف أيضاً؛ لأن الصوم مع الناس في رمضان أسهل من
القضاء كما هو مشاهد معلوم، وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان
يصوم في السفر؛ وذلك لأنه لم يكن يشق عليه الصوم في السفر كما يشق على
غيره.
د. محمد بن هائل المدحجي
أحكام النوازل في الصيام