بقلم: أحمد أحمد جاد
الحمد لله وبعد.. فإن شهر رمضان هو شهر القرآن، والقرآن واجه أمة
كانت في جاهلية فأحياها وحوَّلها إلى أمة متحضرة ناهضة.
والقرآن خالد، موجود بين أيدينا ومحفوظ لم يتغير وهو صالح ويصلح لكل زمان ومكان لمن
يفهمه ويتدبره ويعمل به "من حكم به عدل ومن قال به صدق.. وفي القرآن خبر الأمم السابقة
وخبر ما بعدنا من أشراط الساعة وأهوال وأحوال يوم القيامة، وهو الفاصل بين الحق والباطل،
والخطأ والصواب، وهو الجد ليس بالهزل وهو حبل الله المتين والوسيلة إلى معرفة الرب. ولا
تزيغ به الأهواء فلا يقدر أهل الآراء والأهواء على تغييره، ولا يشبع منه العلماء ولا يحيطون
به، ولا يبلى على كثرة الرد.. ولا تنقضي عجائبه على مر الزمان(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ
وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53))
(فصلت)، (وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا) (النمل: من الآية 93)؛ أي تعرفون آياته
ودلائل قدرته.. ثم قال (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (النمل: من الآية 93)، وفي هذا
ترهيب عظيم وتهديد شديد.
القرآن يُحيي القلوب
إن القرآن يُحيي القلوب الميتة، ويبعث فيها الروح، كالماء يحيي الأرض بعد موتها فيخرج
الزرع، كذلك ينزل القرآن من السماء فتتلقاه القلوب فتتفتح وتنشرح وتتحرك.. أما القلوب
القاسية فهي كالصخرة القاسية التي لا حياةَ فيها (أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الزمر: من الآية 22
)، فأين من أين، وشتان من شتان!؟ قال تعالى (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي
بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
(122)) (المائدة)، فالحياة والنور قوة وأخلاق.. (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا
كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي
إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)) (الشورى).
فالروح يحصل به الحياة، والنور يبدد الظلمات وتحصل به الإضاءة
والإشراق، والأحياء هم الذين ينتفعون بالقرآن (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ
كَانَ حَيًّا) (يس)، فالكافرون موتى لا يسمعون!! والأحياء ينفعهم الإنذار وقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال)، فالحياة باستجابة دعوة الله
ورسوله.. والقلب الذي يعيش مع القرآن فهو قلب حي، والبيت الذي لا يقرأ فيه القرآن بيت
خرب، ففي الحديث "إن الرجل الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب" الترمذي: 2913
حسن صحيح، وأحمد 1 / 223 وغيرهما.
وفي الحديث: ".. وإن القلب الذي ليس فيه من كتاب الله شيء، خرب كخراب البيت الذي لا
ساكن له" الدارمي: 3307 والقرآن هو أدب الله، ففي الحديث "ليس من مؤدب إلا وهو يحب
أن يؤتى أدبه وإن أدب الله القرآن" الدارمي :3 321 "، و"كان صلى الله عليه وسلم خلقه
القرآن" مسلم: 746.
قراءة القرآن
يهتم الناس بقراءة القرآن وتحسين الصوت ومخارج الحروف وأحكام التلاوة.. وهذا مهم لكن
الأهم هو الفهم والتدبر والعمل، فكثير من الناس توقف عند القراءة وترك الأهم.. وقد كان النبي
صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يبلغ قومًا القرآن يقرأه عليهم بالترتيل والتقطيع، وتكون قراءته
عليهم مفسرة حرفًا حرفًا؛ ليتدبروا فيه ويتعظون به. شرح حديث الترمذي: 2925، قال
تعالى: (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً (106)) (الإسراء) على
طول مدة.. آية آية.. سورة سورة، أو على ترسل وتمهل في التلاوة، فإن ذلك أقرب للفهم،
وأسهل للحفظ.. وقد نزل القرآن مفرقًا لأنه لو نزل جملة واحدة بجميع الفرائض لنفروا ولم
يطيقوا.. والمقصود من القراءة هو التدبر (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا
الأَلْبَابِ (29)) (ص) أي أنزلناه كثير الخير والبركة والمنافع الدنيوية والآخروية.. ليتدبروا
آياته ويتفكروا ما فيها من الأسرار العجيبة والحكم البالغة، وليتعظ بهذا القرآن أصحاب العقول
السليمة، قال الحسن البصري: "والله ما تدبّـُره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم
ليقول: والله لقد قرأت القرآن فما أسقط منه حرفًا، وقد أسقطه والله كله، ما يُرى للقرآن عليه
أثر في خلق ولا عمل.." صفوة التفاسير وعن مجاهد في تفسير (يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا
كَثِيرًا) (البقرة: من الآية 69)، قال: الفهم بالقرآن.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن: "ما مر بأية رحمة إلا
وقف عندها فسأل، ولا بآية عذاب إلا وقف عندها فتعوذ" أبو داود: 871 والترمذي: 262
حسن صحيح وغيرهما.
وكان هذا في صلاة الليل (راجع مسلم : 772)، فالعبرة ليست بالقراءة والحفظ بدون فهم
وتدبر.. وفي الحديث "أعطوا أعينكم حظها من العبادة: النظر في المصحف والتفكر فيه،
والاعتبار عند عجائبه" (الجامع الصغير: 1161، ضعيف).. أما سماع القرآن.. فإن الله
تعالى أمرك إذا قرئ القرآن أن تسمع له وتنصت وتتفكر (وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ) (الأعراف:
من الآية 205)، فالعبرة بسماع الإجابة مع حضور القلب وسلامة أجهزة الاستقبال (إِنَّمَا
يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) (الأنعام: من الآية 36)، وهذه الأجهزة تتعطل إذا كان صاحبها
جاهلاً أو مكذبًا، فالجاهل يحتاج دعوة وتنبيهًا للحق والمكذب لا يسمع ولا يعقل (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ) (الأنعام: من الآية 39)، وهؤلاء أكثر الناس (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ
أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)) (الفرقان)، وقال
تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)) (ق).
قالوا إذا كان القلب سليمًا أدرك الحقائق وتفكر كما ينبغي، والقلب شهيد أي حاضر الفهم؛ لأن
من لا يفهم فهو في حكم الغائب، وإن حضر بجسمه فهو لم يحضر بفهمه.. أي سمع الكلام
فوعاه وتعقله بقلبه وتفهمه بلُبِّه.. فالقرآن لا يصل إلى القلب بالاطلاع والقراءة بدون فهم وبدون
معايشة ومعاناة ومواجهة أعداء الله ومجاهدتهم (فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً
(52)) (الفرقان)، وقد عاش المسلمون المعارك والابتلاءات.. وكان ينزل القرآن يصف
أحوالهم ويذكرهم بنعمه ونصره ويصوب أخطاءهم.. عاشوا القرآن في التهجد بالليل..
وبالنهار.. لقد كان القرآن حياتهم..
علم القرآن والعمل به: العلم ليس لمجرد الثقافة والمعرفة المجردة.. وإنما العلم لا بدَّ أن يؤدِّي
إلى عمل، وقد تربى المسلمون على أخذ القرآن للعمل به وليكون العمل ترجمة للعلم.. "إنهم لم
يكونوا يقرءون بقصد التذوق.. وإنما كان أحدهم يتلقى القرآن لتنفيذ أمر الله في خاصة شأنه
وشأن الجماعة التي يعيش فيها، وشأن الحياة التي يحياها، يتلقى الأمر ليعمل به فور سماعه
كما يتلقى الجندي في الميدان الأمر اليومي ليعمل به فور سماعه" (معالم في الطريق: 17)،
وقد روي عن كثير من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُقرئهم عشر آيات فلا
يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، فيعلمنا القرآن والعمل جميعًا..
وقالوا: كنا إذا تعلمنا عشر آيات من القرآن لم نتعلم العشر التي بعدها حتى نعلم حلالها
وحرامها وأمرها ونهيها.. لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل بالقرآن، كان قرآنًا يمشي
على الأرض، كان خلقه وسلوكه القرآن، وكان الصحابة إذا نزلت آية تسابقوا للعمل بها..
والقرآن رسائل لكلِّ مؤمن والرسالة من الحبيب تقرأ جيدًا ويقرأ ما بين السطور.. فكيف إذا
كانت رسائل من العظيم الجبار!، قال الحسن البصري: من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من
ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار.. ومن الأدب مع القرآن أن تعتبر نفسك
المقصود بكل خطاب في القرآن.." وقال أحد العلماء: "من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله"،
والقرآن عقيدة وشريعة وحكم بين الناس.. وفي الحديث "..طوبى لمن عمل بعلمه.. "
الترمذي : 2417 والعمل هو ثمرة العلم، ومن علم كان هذا العلم حجة عليه ويسأل عنه،
ففي الحديث "لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم
أبلاه وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم" (الترمذي:2416).. وفي يوم
القيامة "يؤتى برجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن فأتى به فعرفعه الله نعمه فعرفها، فقال: ماذا
عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت القرآن فيك، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم
ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في
النار" (جزء من حديث مسلم: 1905 والنسائي وأحمد: 2 / 322).
وسئل إبراهيم بن أدهم، ما لنا ندعو فلا يُستجَاب لنا؟ قال خمسة، وذكر منها "وقد قرأتم القرآن
فلم تعملوا بما فيه.."
أثر سماع القرآن:
إن المؤمنين إذا سمعوا كلام الكبير الجبار تأثروا لما فيه من الوعد
والوعيد، والتخويف والتهديد.. ومن مظاهر ذلك:
1- (إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا) (الأنفال: من الآية 2)،
أي خافت قلوبهم وفزعت وخشية.
2- (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) (الزمر: من
الآية 23)، أي تقشعر جلودهم من الخشية ثم تلين لما يرجون من رحمته ولطفه.. إذا ذكرت
آيات العذاب اقشعرت جلودهم.. وإذا ذكرت آيات الرحمة تلين جلودهم وقلوبهم.
3- (خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) (مريم: من الآية 58)، فكن مع هؤلاء الأنبياء القدوة، ساجدًا باكيًا
إذا تليت آيات الرحمن.. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع القرآن بكى، " فقد قرأ عبد
الله على النبي صلى الله عليه وسلم من سورة النساء حتى بلغ (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ
بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا (41) (النساء)، قال: "كف" أو "أمسك".. فإذا عينيه
صلى الله عليه وسلم تذرفان "البخاري: 5055 ومسلم: 800 قال النووي: البكاء عند قراءة
القرآن صفة العارفين وشعار الصالحين"، وقال الغزالي يستحب البكاء مع قراءة القرآن
وعندها، وطريق تحصليه: أن يحضر قلبه الحزن والخوف بتأمل ما فيه من التهديد والوعيد
الشديد والوثائق والعهود، ثم ينظر تقصيره في ذلك، فإن لم يحضره حزن فليبك على فقد ذلك
وإنه من أعظم المصائب (شرح حديث البخاري السابق..) وفي الحديث: "لا يلج النار رجل
بكى من خشية الله.." (الترمذي: 2311 حسن صحيح وابن ماجه وأحمد وغيرهم)..
ويستحب الدعاء عند ذلك. قالت أم الدرداء: أما تجد قشعريرة.. فادع الله عندها فإن الدعاء
يستجاب (ابن جرير)، وعن عائشة: "إذا اقشعر الجلد ووجل القلب وفاضت العين فذلك حين
يستجاب الدعاء" .
فعلى شباب الدعوة الراغب في حمل الأمانة أن يأخذ بمنهج هذا القرآن
ومنهج الحركة به والتأثر به فإن الطريق شاق، والقرآن يرسم معالم الطريق وموكب الدعاة
والدعوة على مدار التاريخ لا بدَّ لهم من مواجهة الناس وإرشاد المجتمع لردهم إلى ربهم
وخالقهم وتحمل الأذى في سبيل إعلاء كلمة الله، وعندئذ يتذوقون القرآن كما تذوقه أسلافهم،
وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا، وذهاب همومنا وغمومنا، وجلاء أحزاننا،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تحياتى لكم،،،،،،،،،،،
الحمد لله وبعد.. فإن شهر رمضان هو شهر القرآن، والقرآن واجه أمة
كانت في جاهلية فأحياها وحوَّلها إلى أمة متحضرة ناهضة.
والقرآن خالد، موجود بين أيدينا ومحفوظ لم يتغير وهو صالح ويصلح لكل زمان ومكان لمن
يفهمه ويتدبره ويعمل به "من حكم به عدل ومن قال به صدق.. وفي القرآن خبر الأمم السابقة
وخبر ما بعدنا من أشراط الساعة وأهوال وأحوال يوم القيامة، وهو الفاصل بين الحق والباطل،
والخطأ والصواب، وهو الجد ليس بالهزل وهو حبل الله المتين والوسيلة إلى معرفة الرب. ولا
تزيغ به الأهواء فلا يقدر أهل الآراء والأهواء على تغييره، ولا يشبع منه العلماء ولا يحيطون
به، ولا يبلى على كثرة الرد.. ولا تنقضي عجائبه على مر الزمان(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ
وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53))
(فصلت)، (وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا) (النمل: من الآية 93)؛ أي تعرفون آياته
ودلائل قدرته.. ثم قال (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (النمل: من الآية 93)، وفي هذا
ترهيب عظيم وتهديد شديد.
القرآن يُحيي القلوب
إن القرآن يُحيي القلوب الميتة، ويبعث فيها الروح، كالماء يحيي الأرض بعد موتها فيخرج
الزرع، كذلك ينزل القرآن من السماء فتتلقاه القلوب فتتفتح وتنشرح وتتحرك.. أما القلوب
القاسية فهي كالصخرة القاسية التي لا حياةَ فيها (أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الزمر: من الآية 22
)، فأين من أين، وشتان من شتان!؟ قال تعالى (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي
بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
(122)) (المائدة)، فالحياة والنور قوة وأخلاق.. (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا
كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي
إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)) (الشورى).
فالروح يحصل به الحياة، والنور يبدد الظلمات وتحصل به الإضاءة
والإشراق، والأحياء هم الذين ينتفعون بالقرآن (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ
كَانَ حَيًّا) (يس)، فالكافرون موتى لا يسمعون!! والأحياء ينفعهم الإنذار وقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال)، فالحياة باستجابة دعوة الله
ورسوله.. والقلب الذي يعيش مع القرآن فهو قلب حي، والبيت الذي لا يقرأ فيه القرآن بيت
خرب، ففي الحديث "إن الرجل الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب" الترمذي: 2913
حسن صحيح، وأحمد 1 / 223 وغيرهما.
وفي الحديث: ".. وإن القلب الذي ليس فيه من كتاب الله شيء، خرب كخراب البيت الذي لا
ساكن له" الدارمي: 3307 والقرآن هو أدب الله، ففي الحديث "ليس من مؤدب إلا وهو يحب
أن يؤتى أدبه وإن أدب الله القرآن" الدارمي :3 321 "، و"كان صلى الله عليه وسلم خلقه
القرآن" مسلم: 746.
قراءة القرآن
يهتم الناس بقراءة القرآن وتحسين الصوت ومخارج الحروف وأحكام التلاوة.. وهذا مهم لكن
الأهم هو الفهم والتدبر والعمل، فكثير من الناس توقف عند القراءة وترك الأهم.. وقد كان النبي
صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يبلغ قومًا القرآن يقرأه عليهم بالترتيل والتقطيع، وتكون قراءته
عليهم مفسرة حرفًا حرفًا؛ ليتدبروا فيه ويتعظون به. شرح حديث الترمذي: 2925، قال
تعالى: (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً (106)) (الإسراء) على
طول مدة.. آية آية.. سورة سورة، أو على ترسل وتمهل في التلاوة، فإن ذلك أقرب للفهم،
وأسهل للحفظ.. وقد نزل القرآن مفرقًا لأنه لو نزل جملة واحدة بجميع الفرائض لنفروا ولم
يطيقوا.. والمقصود من القراءة هو التدبر (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا
الأَلْبَابِ (29)) (ص) أي أنزلناه كثير الخير والبركة والمنافع الدنيوية والآخروية.. ليتدبروا
آياته ويتفكروا ما فيها من الأسرار العجيبة والحكم البالغة، وليتعظ بهذا القرآن أصحاب العقول
السليمة، قال الحسن البصري: "والله ما تدبّـُره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم
ليقول: والله لقد قرأت القرآن فما أسقط منه حرفًا، وقد أسقطه والله كله، ما يُرى للقرآن عليه
أثر في خلق ولا عمل.." صفوة التفاسير وعن مجاهد في تفسير (يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا
كَثِيرًا) (البقرة: من الآية 69)، قال: الفهم بالقرآن.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن: "ما مر بأية رحمة إلا
وقف عندها فسأل، ولا بآية عذاب إلا وقف عندها فتعوذ" أبو داود: 871 والترمذي: 262
حسن صحيح وغيرهما.
وكان هذا في صلاة الليل (راجع مسلم : 772)، فالعبرة ليست بالقراءة والحفظ بدون فهم
وتدبر.. وفي الحديث "أعطوا أعينكم حظها من العبادة: النظر في المصحف والتفكر فيه،
والاعتبار عند عجائبه" (الجامع الصغير: 1161، ضعيف).. أما سماع القرآن.. فإن الله
تعالى أمرك إذا قرئ القرآن أن تسمع له وتنصت وتتفكر (وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ) (الأعراف:
من الآية 205)، فالعبرة بسماع الإجابة مع حضور القلب وسلامة أجهزة الاستقبال (إِنَّمَا
يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) (الأنعام: من الآية 36)، وهذه الأجهزة تتعطل إذا كان صاحبها
جاهلاً أو مكذبًا، فالجاهل يحتاج دعوة وتنبيهًا للحق والمكذب لا يسمع ولا يعقل (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ) (الأنعام: من الآية 39)، وهؤلاء أكثر الناس (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ
أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)) (الفرقان)، وقال
تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)) (ق).
قالوا إذا كان القلب سليمًا أدرك الحقائق وتفكر كما ينبغي، والقلب شهيد أي حاضر الفهم؛ لأن
من لا يفهم فهو في حكم الغائب، وإن حضر بجسمه فهو لم يحضر بفهمه.. أي سمع الكلام
فوعاه وتعقله بقلبه وتفهمه بلُبِّه.. فالقرآن لا يصل إلى القلب بالاطلاع والقراءة بدون فهم وبدون
معايشة ومعاناة ومواجهة أعداء الله ومجاهدتهم (فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً
(52)) (الفرقان)، وقد عاش المسلمون المعارك والابتلاءات.. وكان ينزل القرآن يصف
أحوالهم ويذكرهم بنعمه ونصره ويصوب أخطاءهم.. عاشوا القرآن في التهجد بالليل..
وبالنهار.. لقد كان القرآن حياتهم..
علم القرآن والعمل به: العلم ليس لمجرد الثقافة والمعرفة المجردة.. وإنما العلم لا بدَّ أن يؤدِّي
إلى عمل، وقد تربى المسلمون على أخذ القرآن للعمل به وليكون العمل ترجمة للعلم.. "إنهم لم
يكونوا يقرءون بقصد التذوق.. وإنما كان أحدهم يتلقى القرآن لتنفيذ أمر الله في خاصة شأنه
وشأن الجماعة التي يعيش فيها، وشأن الحياة التي يحياها، يتلقى الأمر ليعمل به فور سماعه
كما يتلقى الجندي في الميدان الأمر اليومي ليعمل به فور سماعه" (معالم في الطريق: 17)،
وقد روي عن كثير من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُقرئهم عشر آيات فلا
يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، فيعلمنا القرآن والعمل جميعًا..
وقالوا: كنا إذا تعلمنا عشر آيات من القرآن لم نتعلم العشر التي بعدها حتى نعلم حلالها
وحرامها وأمرها ونهيها.. لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل بالقرآن، كان قرآنًا يمشي
على الأرض، كان خلقه وسلوكه القرآن، وكان الصحابة إذا نزلت آية تسابقوا للعمل بها..
والقرآن رسائل لكلِّ مؤمن والرسالة من الحبيب تقرأ جيدًا ويقرأ ما بين السطور.. فكيف إذا
كانت رسائل من العظيم الجبار!، قال الحسن البصري: من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من
ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار.. ومن الأدب مع القرآن أن تعتبر نفسك
المقصود بكل خطاب في القرآن.." وقال أحد العلماء: "من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله"،
والقرآن عقيدة وشريعة وحكم بين الناس.. وفي الحديث "..طوبى لمن عمل بعلمه.. "
الترمذي : 2417 والعمل هو ثمرة العلم، ومن علم كان هذا العلم حجة عليه ويسأل عنه،
ففي الحديث "لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم
أبلاه وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم" (الترمذي:2416).. وفي يوم
القيامة "يؤتى برجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن فأتى به فعرفعه الله نعمه فعرفها، فقال: ماذا
عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت القرآن فيك، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم
ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في
النار" (جزء من حديث مسلم: 1905 والنسائي وأحمد: 2 / 322).
وسئل إبراهيم بن أدهم، ما لنا ندعو فلا يُستجَاب لنا؟ قال خمسة، وذكر منها "وقد قرأتم القرآن
فلم تعملوا بما فيه.."
أثر سماع القرآن:
إن المؤمنين إذا سمعوا كلام الكبير الجبار تأثروا لما فيه من الوعد
والوعيد، والتخويف والتهديد.. ومن مظاهر ذلك:
1- (إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا) (الأنفال: من الآية 2)،
أي خافت قلوبهم وفزعت وخشية.
2- (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) (الزمر: من
الآية 23)، أي تقشعر جلودهم من الخشية ثم تلين لما يرجون من رحمته ولطفه.. إذا ذكرت
آيات العذاب اقشعرت جلودهم.. وإذا ذكرت آيات الرحمة تلين جلودهم وقلوبهم.
3- (خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) (مريم: من الآية 58)، فكن مع هؤلاء الأنبياء القدوة، ساجدًا باكيًا
إذا تليت آيات الرحمن.. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع القرآن بكى، " فقد قرأ عبد
الله على النبي صلى الله عليه وسلم من سورة النساء حتى بلغ (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ
بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا (41) (النساء)، قال: "كف" أو "أمسك".. فإذا عينيه
صلى الله عليه وسلم تذرفان "البخاري: 5055 ومسلم: 800 قال النووي: البكاء عند قراءة
القرآن صفة العارفين وشعار الصالحين"، وقال الغزالي يستحب البكاء مع قراءة القرآن
وعندها، وطريق تحصليه: أن يحضر قلبه الحزن والخوف بتأمل ما فيه من التهديد والوعيد
الشديد والوثائق والعهود، ثم ينظر تقصيره في ذلك، فإن لم يحضره حزن فليبك على فقد ذلك
وإنه من أعظم المصائب (شرح حديث البخاري السابق..) وفي الحديث: "لا يلج النار رجل
بكى من خشية الله.." (الترمذي: 2311 حسن صحيح وابن ماجه وأحمد وغيرهم)..
ويستحب الدعاء عند ذلك. قالت أم الدرداء: أما تجد قشعريرة.. فادع الله عندها فإن الدعاء
يستجاب (ابن جرير)، وعن عائشة: "إذا اقشعر الجلد ووجل القلب وفاضت العين فذلك حين
يستجاب الدعاء" .
فعلى شباب الدعوة الراغب في حمل الأمانة أن يأخذ بمنهج هذا القرآن
ومنهج الحركة به والتأثر به فإن الطريق شاق، والقرآن يرسم معالم الطريق وموكب الدعاة
والدعوة على مدار التاريخ لا بدَّ لهم من مواجهة الناس وإرشاد المجتمع لردهم إلى ربهم
وخالقهم وتحمل الأذى في سبيل إعلاء كلمة الله، وعندئذ يتذوقون القرآن كما تذوقه أسلافهم،
وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا، وذهاب همومنا وغمومنا، وجلاء أحزاننا،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تحياتى لكم،،،،،،،،،،،
منتديات عرب مسلم | منتدى برامج نت | منتدى عرب مسلم | منتديات برامج نت | منتدى المشاغب | منتدى فتكات | منتديات مثقف دوت كوم | منتديات العرب | إعلانات مبوبة مجانية | إعلانات مجانية |اعلانات مبوبة مجانية | اعلانات مجانية | القرآن الكريم | القرآن الكريم قراءة واستماع | المكتبة الصوتية للقران الكريم mp3 | مكتبة القران الكريم mp3 | ترجمة القرآن | القرآن مع الترجمة | أفضل ترجمة للقرآن الكريم | ترجمة القرآن الكريم | Quran Translation | Quran with Translation | Best Quran Translation | Quran Translation Transliteration | تبادل إعلاني مجاني