الحمد لله رب العالمين يسمع دعاء الخلائق ويجيب ..
يغفر لمن استغفره ، ويرحم من استرحمه ، و يصلح المعيب ...
نحمده تبارك وتعالى ونسأله التنظيم لأحوالنا و الترتيب ...
ونعوذ بنور وجهه الكريم من الفساد و الإفساد والتخريب ...
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المقرب والحبيب ...
خلقٌهُ نعمة ، ومبعثه رحمة ، وشمس سنته لا تغيب ...
فصلِ اللهم عليه و على آلـه و صحبه و كل من انتسب إليه من بعيد أو قريب ...
أمــاآ بعد إخوتـي و أعزاآئي أعضاء و زوار العاشق الكراآم و بالأخص قــراآء هذا الموضوع,,
يسـر مجمـوعـة [ رواد الخير ] أن يُقدم لكـمـ موضوعـه الأول
مقتطفـات من كـتـاب [ الطريق إلى القرآن ] للشيخ [ إبراهيـمـ السكـران ]
أتمنى من الله أن يُعجبـكمـ الموضوع
لطالما أبهرني حديث بعض الصالحين إذ يتحدثون عما يرونه من فرق
مبهر في حياتهم، وعن فرقٍ عظيمٍ في فهمهم وصحة نظرهم
واستقرار تفكيرهم؛ ببركة هذا القرآن ..
ولطالما أبهرني حديث بعض الصالحين إذ يبثون شجواهم عما يجدونه
في أنفسهم بعد تلاوة القرآن.. يتحدثون عن شيء يحسون به، كأنما
يلمسونه بحواسهم، من قوة الإرادة في فعل الخيرات والتأبي على
المعاصي..
وراحة النفس في صراعات الأفكار والمنافسات الاجتماعية ..
بل لقد أبهرني فوق ذلك كله تشرف النبي صلى الله عليه وسلم ذاته بالقرآن سيد
ولد آدم يتشرف بكتاب الله..
فانظر كيف يرسم القرآن حال النبي صلى الله عليه وسلم قبل القرآن، وحال النبي
صلى الله عليه وسلم بعد القرآن كما قال تعالى ﴿ وكَذَلك أَوحينا إِلَيك روحا من
أمرنا ماكنت تدري مالكتاب ولا الإيمان ) [ الشورى : 52 ]
وقول الله سبحانه ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا
إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ) [ يوسف : 3 ]
فانظر بالله عليك كيف تأثرت حال النبي صلى الله عليه وسلم بعد إنزال القرآن
عليه ، بل انظر ما هو أعجب من ذلك وهو حال النبي صلى الله عليه وسلم بعد
الرسالة إذا راجع ودارس القرآن مع جبريل كيف يكون أجود
بالخير من الريح المرسلة كما في البخاري، هذا وهو رسول الله
الذي كمل يقينه وإيمانه، ومع ذلك يتأثر بالقرآن فيزداد نشاطه في
الخير، فكيف بنفوسنا الضعيفة المحتاجة إلى دوام العلاقة مع هذا
القرآن..
بل انظر كيف جعل خاصية الرسول صلى الله عليه وسلم تلاوة هذا القرآن فقال :
( رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ) [ البينة : 2 ].
لا بد أن هذا الشرف للقرآن يعكس عظمةً في مضامين ومحتويات
هذا القرآن ذاته، ولا بد أن يكون لهذا القرآن حضور في حياتنا
يوازي هذه العظمة.
وفي هذه الرسالة القصيرة التي بين يديك حصيلة خطرات وتباريح
حول واقع القرآن في حياتنا، وآثاره المبهرة الحسية والمعنوية.
من أعجب أسرار القرآن وأكثرها لفتاً للانتباه تلك السطوة الغريبة
التي تخضع لها النفوس عند سماعه .. (سطوة القرآن) ظاهرة حارت
فيها العقول ..
حين يسري صوت القارئ في الغرفة يغشى المكان سكينة ملموسة
تهبط على أرجاء ما حولك ..
تشعر أن ثمة توتراً يغادر المكان ..
كأن الجمادات من حولك أطبقت على الصمت..
كأن الحركة توقفت..
هناك شيء ما تشعر به لكنك لا تستطيع أن تعبر عنه..
حين تكون في غرفتك - مثلاً - ويصدح صوت القارئ من
جهازك المحمول، أوحين تكون في سيارتك في لحظات ا نتظار
ويتحول صوت الإذاعة إلى عرض آيات مسجلة من الحرم الشريف
.. تشعر أن سكوناً غريباً يتهادى رويداً رويداً فيما حولك..
كأنما كنت في مصنع يرتطم دوي عجلاته ومحركاته ثم توقف كل
شيء مرة واحدة..
كأنما توقف التيار الكهربائي عن هذا المصنع مرة واحدة فخيم
الصمت وخفتت الأنوار وساد الهدوء المكان..
هذه ظاهرة ملموسة يصنعها (القرآن العظيم) في النفوس تحدث عنها
الكثير من الناس بلغة مليئة بالحيرة والعجب..
حين قدمت للمجتمع الغربي أول مرة قبل ثلاث سنوات للدراسة؛
اعتنيت عناية بالغة بتتبع قصص وأخبار (حديثي العهد بالإسلام) ..
كنت أحاول أن أستكشف سؤالاً واحداً فقط:
ما هو أكثر مؤثر يدفع الإنسان الغربي لاعتناق الإسلام؟ (حتى يمكن
الاستفادة منه في دعوة البقية).
كنت أتوقع أنني يمكن أن أصل إلى (نظرية معقدة) حول الموضوع،
أو تفاصيل دقيقة حول هذه القضية لا يعرفها كثير من الناس،
وقرأت لأجل ذلك الكثير من التجارب الذاتية لشخصيات غربية
أسلمت، وشاهدت الكثير من المقاطع المسجلة يروي فيها غربيون
قصة إسلامهم، وكم كنت مأخوذاً بأكثر عامل تردد في قصصهم،
ألا وهو أنهم (سمعوا القرآن وشعروا بشعور غريب استحوذ عليهم)
هذا السيناريو يتكرر تقريباً في أكثر قصص الذين أسلموا، وهم لا
يعرفون اللغة العربية أصلاً!
إنها سطوة القرآن.. والله يقول ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته
خاشعا متصدعا من خشية الله ) [ الحشر : 21 ] هذا تأثر الجمادات فكيف بالبشر؟!
- تأمل كيف تنفعل (الجمادات الصماء) بسكينة القرآن
( لَوْ أَنْزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ . . ) الحشر 21
الجبال الرواسي التي يضرب المثل في صلابتها تتصدع وتتشقق من هيبة كلام الله ..
فكيف بقلوب الانبياء عليهم أزكى الصلاة والسلام بسكينة الوحي، كما يصور القرآن
تأثرهم بكلام الله، وخرورهم إلى الأرض، وبكاءهم؛ كما في قوله تعالى ( أولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) مريم 58
وأخيراً .. تأمل كيف انبهر أشرف الخلق على الإطلاق، وسيد ولد آدم محمد عليه الصلاة و سلام
بسكينة القرآن ، ففي البخاري عن عبد الله بن مسعود قال ( قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم
اقرأ علي" ، فقلت: أقرأ عليك يا رسول الله وعليك أنزل ؟ فقال رسول الله
" إني أشتهي أن أسمعه من غيري"، فقرأت النساء حتى إذا بلغت
"فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " قال لي رسول الله .
[ كف ، أو أمسك "، فرأيت عينيه تذرفان ) البخاري : 5055
ويا لعجائب هذه الهيبة القرآنية التي تتطامن على النفوس فتخبت لكلام الله، وتتسلل الدمعات
والمرء يداريها ويتنحنح، ويشعر المسلم فعلاً أن نفسه ترفرف من بعد ما كانت تتثاقل إلى الأرض ..
هل يليق بنا يا أخي الكريم أن نهمله ؟ وهل يليق بنا أن نتصفح يومياً عشرات التعليقات والأخبار و الإيميلات و المقالات ،
و مع ذلك ليس لـ (كتاب الله) نصيبٌ من يومنا . . ؟!
لقد اشتكى رسول الله صلى الله عليه و سلم من كفار قومه حين وقعو في صفةٍ بشعة
فواحسرتاه إن شابهنا هؤلاء الكفار في هذه الصفة التي تذمر منها رسول الله
و جأر بالشكوى إلى الله منها، يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم
( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) الفرقان : 30
أي خسارة.. و أي حرمان .. أن يتجارى الكسل و الخمول بالمرء حتى يتدهور
في منحدرات ( هجر القرآن ) و أذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو حبيبنا
الذي نفداه بأنفسنا وأهلينا وما نملك يشتكي إلى ربه الكفار بسبب (هجر القرآن )
فهل نرضى لأنفسنا أن نخالف مراد حبيبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم . . ؟!
أخي الذي أحب له ما أحب لنفسي ..
القضية لن تكلفنا الكثير، إنما هي دقائق معدودة من يومنا نجعلها حقاً حصرياً لكتاب الله ..
نتقلب بين مواعظه وأحكامه وأخباره، فنتزكى بما يسيل في آياته العظيمة
من نبض إيماني، ومعدن أخلاقي، والتزامات حقوقية، ورسالة عالمية إلى الناس كافة..
الحديث عن قسوة القلب حديث ذو شجون، ومن رزايا هذا
الزمن أن صرنا لا نستحي من المناصحة عن قسوة القلب بينما
قلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة .. لكن دعنا يا أخي ندردش دردشة
المحبوسين يتشاجون لبعضهم كيف يهربون من معتقلات
خطاياهم..
لقد قرأت كثيراً كثيراً في كتب الرقائق والإيمانيات والمواعظ،
وجربت كثيراً من الوسائل التي ذكروها، وأصدقك القول أنني
رأيتها محدودة الجدوى، لا أنكر أن فيها فائدة، لكن ليست الفائدة
الفعلية التي كنت أتوقعها، ووجدت العلاج الحقيقي الفعال الناجع
المذهل في دواء واحد فقط، دواء واحد لا غير، وكلما استعملته
رأيت الشفاء في نفسي، وكلما ابتعدت عنه عادت لي أسقامي، هذا
العلاج هو بكل اختصار (تدبر القرآن).
دع عنك كلما يذكره صيادلة الإيمان، ودع عنك كل عقاقير
الرقائق التي يصفونها، واستعمل (تدبر القرآن) وسترى في نفسك
وإيمانك وقوتك على الطاعات وتأبيك على المعاصي وراحة نفسك
في صراعات المناهج والأفكار شيئاً لا ينقضي منه العجب.
كل تقصير يقع فيه الإنسان، سواء كان تقصيراً علمياً بالتأويل
والتحريف للشريعة، أو كان تقصيراً سلوكياً بالرضوخ لدواعي
الشهوة، فإنه فرع عن قسوة القلب.
وهل تعلم كيف تحدث قسوة القلب؟
قسوة القلب ناشئة عن البعد عن الوحي، ألا ترى الله تعالى يقول:
(ألم يأن للذين آمنو أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق
ولايكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبلُ فطال عليهم الأمد فقست
قلوبهم ) [ الحديد : 16 ]
أرأيت يا أخي؟ إنه طول الأمد .. !
لما طال بهم الأمد قست قلوبهم .. ولو جددوا العهد مع الوحي
لحيت قلوبهم..
فإذا قسا القلب تجرأ الإنسان على الميل بالشريعة مع هواه ..
وإذا قسا القلب تهاون الإنسان في الطاعات واستثقلها ..
وإذا قسا القلب عظمت الدنيا في عين المرء فأقبل عليها وأهمل
حمل رسالة الإسلام للناس .. وإذا قسا القلب ضعفت الغيرة والحمية
لدين الله ..
وما العلاج إذاً ؟
العلاج لما يحيك في هذه الصدور هو مداواتها بتدبر القرآن .. بالله
عليك تأمل في قوله تعالى : (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من
ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) [ يونس:57 ]
فإذا شفيت الصدور وجدت خفة نفس في الطاعات ..
وإذا شفيت الصدور انقادت للنصوص بكل سلاسة ونفرت من
التأويل والتحريف ..
وإذا شفيت الصدور تعلقت بالآخرة واستهانت بحطام الدنيا ..
وإذا شفيت الصدور امتلأت بحمل هم إظهار الهدى ودين الحق
على الدين كله ..
وأعجب من ذلك أنه إذا شفيت الصدور استقزمت الأهداف
الصغيرة ..
تلك الأهداف التي تستعظمها النفوس الوضيعة ..
الولع بالشهرة ..
وحب الظهور ..
وشغف الرياسة والجاه في عيون الناس ..
وشهوة غلبة الأقران ..
النفوس التي شفاها هذا القرآن .. ترى كل ذلك حطام إعلامي
ظاهره لذيذ فإذا جرب الإنسان بعضه اكتشف تفاهته ..
وأنه لا يستحق لحظة من العناء فضلاً عن اللهاث سنوات..
فضلاً عن تقبل أن يقوم المرء بتحريف الوحي ليقال فلان الوسطي
الراقي الوطني التنموي الحضاري النهضوي التقدمي.. إلى غير ذلك
من عصائب الأهواء التي تعشي العيون عن رؤية الحقائق..
هل تظن يا أخي أن تحريف معاني الشريعة لا صلة له بقسوة
القلب؟! أفلا تقرأ معي يا أخي قوله تعالى ( وجعلنا قلوبهم قاسية
يُحرفون الكلم عن مواضعه )[ المائدة :13].
دعنا نعد قراءة آية الشفاء( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من
ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) [ يونس:57 ]
يا الله ..
هل قال الله "شفاء لما في الصدور" ..
نعم إنه شفاء لما في الصدور..
هكذا بكل وضوح ..
هذا القرآن يا أخي له سحر عجيب في إحياء القلب وتحريك
النفوس وعمارتها بالشوق لباريها جل وعلا ..
وسر ذلك أن هذا القرآن له سطوة خفية مذهلة في صناعة
الاخبات والخضوع في النفس البشرية كما يقول تعالى ( وليعلم
الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له
قلوبهم ) [ الحج:54]
فإذا أخبتت النفوس ..
وانفعلت بالتأثر الإيماني ..
انحلت قيود الجوارح ..
ولهج اللسان بالذكر ..
وخفقت الأطراف بالركوع والسجود والسعي لدين الله .. كما
يصور الحق تبارك وتعالى ذلك بقوله : ( الله نزل أحسن الحديث
كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم
تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله )[ الزمر:23].
لاحظ كيف تقشعر .. ثم تلين ..
إنها الرهبة التي تليها الاستجابة ..
وتلك هي هيبة القرآن..
حالات الانحراف عن التدين حالات تذيب القلب مرارةً،
وخصوصاً إذا كان المنحرف صديقاً قريباً عشت معه أيام العلم
والإيمان..
وحالات الانحراف بينها تفاوت كبير..
فبعضهم مشكلته (علمية) بسبب رهبة عقول ثقافية كبيرة انهزم
أمامها..
وبعضهم مشكلته (سلوكية) بسبب ضعفه أمام لذائذ اللهو
والترفيه.. وإن كان الأمر دوماً يكون مركباً من هوى وشبهة لكنه
يكون أغلب لأحدهما بحسب الحال، فإما تعتريه شبهة تقوده للتمرغ
في الشهوات، وإما تغلبه شهوة فيتطلب لها الشبهات والمخارج
والحيل.
وأنا إلى هذه الساعة على كثرة ما تعاملت مع هذه الحالات لا
أعرف علاجاً أنفع من (تدبر القرآن) فإن القرآن يجمع نوعي
العلاج (الإيماني والعلمي) وهذا لا يكاد يوجد في غير القرآن،
فالقرآن له سر عجيب في صناعة الإخبات في النفس البشرية
يقول تعالى ( وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا
به فتخبت له قلوبهم ) [ الحج:54] وإذا تهيأ المحل بالإيمان لان لقبول الحق
والإذعان له كما قال تعالى( الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر
منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله )[ الزمر:23].
والمراد أنه إذا رأى متدبر القرآن هدي القرآن في هذه القضايا
وأمثالها، ثم قارنها بأحوال التيارات الفكرية المعاصرة، ورأى ما في
كلام هؤلاء من تأويلات للنصوص لتوافق الذوق الغربي، والإزراء
باتباع السلف في فهم الإسلام، وملء القلوب بحب الدنيا، واللهج
بتعظيم الكفار، وتهتيك الحواجز بين الجنسين، والارتخاء العبادي
الظاهر...الخ. إذا قارن بين القرآن وبين أحوال هؤلاء انفتح له باب
معرفة الحق.
حين أسمع بعض المفكرين الإسلاميين يتكلمون عن ضرورة
مقاومة وتفنيد الأفكار الضالة الجديدة عبر دراسات فكرية موسعة؛
فلا أخفي أنني أحترم تماماً حرصهم على سلامة التصورات
الإسلامية من الاجتياح العلماني المعاصر ..
لكنني أرتاب كثيراً في نجاعة هذه المبالغة في التعويل على
الدراسات الفكرية..
عندي وجهة نظر لكني لا أبوح بها كثيراً .. لأني أرى بعض
المفكرين الإسلاميين يتصور أنها نوع من التثبيط والتخذيل، فلذلك
ألوذ بالصمت ..
وجهة نظري هذه بكل اختصار هي أن أمر الانحرافات الفكرية
المعاصرة أسهل بكثير مما نتصور ..
فلو نجحنا في تعبئة الشباب المسلم للإقبال على القرآن، وتدبر
القرآن، ومدارسة معاني القرآن، لتهاوت أمام الشاب المسلم -
الباحث عن الحق - كل التحريفات الفكرية المعاصرة ريثما يختم
أول "ختمة تدبر" ..
بالله عليكم لو قرأ الشاب المسلم - الباحث عن الحق- آيات
القرآن في حقارة الكافر ..
وآيات القرآن في وسيلية الدنيا ومركزية الآخرة ..
وآيات القرآن في التحفظ والاحتياط في العلاقة بين الجنسين ..
وآيات القرآن في إقصاء أي فكرة مخالفة للوحي ..
وآيات القرآن في وجوب الوصاية على اتمع عبر شريعة الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ..
وآيات القرآن في تقييد الحريات الشخصية بالإنكار
والاحتساب..
وآيات القرآن في أزلية الصراع بين الحق والباطل ..
وآيات القرآن في وجوب هيمنة الشريعة على كل المجتمعات ..
وآيات القرآن في نفي النسبية وإثبات اليقين ..
وآيات القرآن في مسخ أقوام قردة خاسئين لما تسلطوا على ألفاظ
النصوص بالتأويل لتوافق رغباتهم وأهوائهم ..
وآيات القرآن في ارتباط الكوارث الكونية بالمعاصي والذنوب ..
وآيات القرآن في ترتيب جدول أولويات النهضة بين التوحيد
والإيمان والفرائض والفضيلة وإعداد القوة المدنية .. الخ
فبالله عليكم قولوا لي ماذا سيتبقى - بعد ذلك - من أطلال
الانحرافات الفكرية المعاصرة ؟!
حين يقرأ الشاب المسلم - الباحث عن الحق - مثل هذه
الآيات فإنه ليس أمام "خطاب فكري" يستطيع التخلص منه عبر
مخرج "الاختلاف في وجهة النظر" ..
بل هو أمام "خطاب الله" مباشرة ..
فإما الانصياع وإما النفاق الفكري ..
ولا تسويات أو حلول وسط أمام أوامر ملك الملوك سبحانه
وتعالى..
لنجتهد فقط في تحريض وتأليب العقل المسلم المعاصر على
الإقبال على القرآن، وتدبر القرآن، في تجرد معرفي صادق للبحث
عن الحقيقة.. وصدقوني سنتفاجأ كثيراً بالنتائج ..
قراءة واحدة صادقة لكتاب الله .. تصنع في العقل المسلم ما لا
تصنعه كل المطولات الفكرية بلغتها الباذخة وخيلائها الاصطلاحي
..
قراءة واحدة صادقة لكتاب الله ..
كفيلة بقلب كل حيل الخطاب الفكري المعاصر رأساً على
عقب..
هذا القرآن حين يقرر المسلم أن يقرأه ب"تجرد" .. فإنه لا
يمكن أن يخرج منه بمثل ما دخل عليه .. هذا القرآن يقلب
شخصيتك ومعاييرك وموازينك وحميتك وغيرتك وصيغة علاقتك
بالعالم والعلوم والمعارف والتاريخ ..
وخصوصاً .. إذا وضع القارئ بين عينيه أن هذا القرآن ليس
مجرد "معلومات" يتعامل معها ببرود فكري ..
بل هو "رسالة" تحمل قضية ودوياً ..
وإن من أكثر الأمور لفتاً للانتباه في هذا القرآن العظيم .. هي
ماحكاه الله عن انفعال الأنبياء بالقرآن انفعالاً وجدانياً وعاطفياً
عميقاً ..
لو أفلحنا في إقناع الشاب المسلم بالإقبال على القرآن بالتدبر
الصادق المتجرد للبحث عن الحق .. فاعتبروا أن "الدور المعرفي"
تقريباً انتهى ..
وبقيت مرحلة الإيمان ..
فمن كان معه إيمان وخوف من الله فسيحمله على الانقياد
والانصياع لله سبحانه ..
ومن أرخى لهواه العنان .. فسيتخبط في شعب النفاق الفكري ..
حيث سيبدأ في أن يعلن على الملأ - كما يعلن غيره - أنه "يحترم
ضوابط الشريعة" .. لكنه في دخيلة نفسه يدرك أن كل ما يقوله
مخالف للقرآن ..!
بقي الاستثناء الوحيد هاهنا ..
وهو أنني أقول أن من كانت نفسيته المعرفية سوية .. أعني أنها
تنظر في "جوهر البرهان" وليس في "شكليات الخطاب" فلن يحتاج
إلا لقراءة القرآن بتجرد ..
أما من كان يعاني من عاهات في شخصيته الفكرية .. بحيث أنه
يقدم وهج الديكور اللغوي على جوهر البرهان .. فهذا النوع
المريض من الناس قد يحتاج فعلاً بعض الكتابات الفكرية التي تخدعه
ببعض الطلاء التسويقي .. كما قال الإمام ابن تيمية في حادثة
مشاهدة في كتابه "الرد على المنطقيين" :
(وبعض الناس: يكون الطريق كلما كان أدق وأخفى وأكثر
مقدمات وأطول كان أنفع له، لأن نفسه اعتادت النظر الطويل في
الأمور الدقيقة، فإذا كان الدليل قليل المقدمات، أو كانت جلية، لم
تفرح نفسه به..، فإن من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور
الناس وعمومهم، أو ما يمكن غير الأذكياء معرفته، لم يكن عند
نفسه قد امتاز عنهم بعلم، فيحب معرفة الأمور الخفية الدقيقة
الكثيرة المقدمات)
أخيراً ..
أعطوني ختمة واحدة بتجرد ..
أعطيكم مسلماً حنيفاً سنياً سلفياً ..
ودعوا عنكم خرافة الكتب الفكرية الموسعة ..
ولنجعل القرآن " أصلاً " وغيره من الدراسات الفكرية مجرد " تبع "
كثير من الناس يتساءل ويقول: ماذا أتدبر بالضبط في القرآن؟
والحقيقة أن القرآن فيه حقائق وإشارات كثيرة تحتاج إلى التدبر، ثمة
مفاتيح كثيرة لفهم القرآن..
أعظم وجوه ومفاتيح الانتفاع بالقرآن تدبر ما عرضه القرآن من
(حقائق العلم بالله) فما في القرآن من تصورات عن الملأ الأعلى هي
من أعظم ما يزكي النفوس، وكثيراً من المنتسبين للفكر المعاصر يظن
الأهم في القرآن هو التشريعات العملية، وأما باب العلم الإلهي فهو
قضية ثانوية، ولا يعرف أن هذا هو المقصود الأجل والأعظم،
ولذلك قال الإمام ابن تيمية: "فإن الخطاب العلمي في القرآن
أشرف من الخطاب العملي قدراً وصفة " [درء التعارض،
.[٣٥٨/٥
وأنا شخصياً إذا التقيت بشخصية غربية متميزة في الفكر أو
القانون أو غيرها من العلوم أجاهد نفسي مجاهدة على احترام تميزه،
لأنني كلما رأيتهم في غاية الجهل بالله سبحانه وتعالى، امتلأت
نفسي إزراءً بهم، ما فائدة أن تعرف تفاصيل جزء معين من العلوم
وأنت جاهل بأعظم مطلوب للإنسان.. إنه لا يختلف عن سائق
مركبة يتقن تفاصيل بعض الطرق الفرعية ويجهل الطرق الرئيسية في
المدينة.. فهل مثل هذا يصل؟! أي تخلف وانحطاط معرفي يعيشه
هؤلاء الجهلة بالعلم الإلهي..
ويؤلمني القول بأن كثيراً من المنتسبين للفكر العربي المعاصر
يجهلون دقائق العلم بالله التي عرضها القرآن.. وأما أئمة السلف
الذين ورثنا عنهم علوم الشريعة فقد كانوا في ذروة التبحر في دقائق
القرآن، فمن تأمل - مثلاً - رسالة الإمام أحمد في الرد على
الزنادقة، أو رسالة الدارمي في النقض على المريسي، فستستحو ذ
عليه الدهشة من عمق علمهم بالقرآن وما فيه من أسرار المعرفة
الإلهية، وشدة استحضار الآيات وربط ما بينها، ليست معرفة آحاد
وأفراد الألفاظ فقط، بل معرفة السلف بالقرآن مركبة، فتجدهم
يلاحظون منظومة لوازم معاني القرآن، ويستخلصون قي تقريراتهم
حصيلة توازنات هذه المعاني القرآنية..
ومن وجوه الانتفاع بالقرآن - أيضاً- تدبر أخبار الأنبياء التي
ساقها القرآن وكررها في مواضع متعددة، وبدهي أن هذه الأخبار
عن الأنبياء ليست قصصاً للتسلية، بل هي (نماذج) يريد القرآن أن
يوصل من خلالها رسائل تضمينية، فيتدبر قارئ القرآن ماذا أراد الله
بهذه الأخبار؟ مثل التفطن لعبودية الأنبياء وطريقتهم في التعامل مع
الله كما قال الإمام ابن تيمية :"والقرآن قد أخبر بأدعية الأنبياء،
.[١٦١/ وتوباتهم، واستغفارهم" [تلخيص الاستغاثة: ١
وتلاحظ أن الله يثني ويعيد قصص القرآن في مواطن متفرقة،
وليس هذا تكراراً محضاً، بل في كل موضع يريد الله تعالى أن يوصل
رسالةً ما، وأحياناً أخرى يكون في كل موضع إشارة لجزء من
الأحداث لا يذكره الموضع الآخر، كما قال الإمام ابن تيمية مثلاً:
"وقد ذكر الله قصة قوم لوط في مواضع من القران في سورة هود
والحجر والعنكبوت، وفي كل موضع يذكر نوعاً مما جرى" [الرد
.[ على المنطقيين: ٤٩٤
والمهم هاهنا أن تدبر أخبار الأنبياء، وأخبار الطغاة، وأخبار
الصالحين، في القرآن، ومحاولة تفهم وتحليل الرسالة الضمنية فيها؛
من أعظم مفاتيح الانتفاع بالقرآن.
ومن أعظم وجوه الانتفاع بالقرآن - أيضاً - أن يضع الإنسان
أمامه على طاولة التدبر كل الخطابات الفكرية المعاصرة عن النهضة
والحضارة والتقدم والرقي والإصلاح والاستنارة الخ.. ويضع كل
القضايا التي يرون أنها هي معيار التقدم والرقي ..
ثم يتدبر قارئ القرآن أعمال الإيمان التي عرضها القرآن كمعيار
للتقدم والرقي ..
تأمل فقط بالله عليك كيف ذكر الله الانقياد والتوكل واليقين
والإخلاص والاستغفار والتسبيح والصبر والصدق والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر... الخ في عشرات المواضع ..
بل بعض هذه الأعمال بعينها ذكرت في سبعين موضعاً ..
لا شك أن تنبيهات القرآن على مركزية (تدبر القرآن) في صحة
المنهج والطريق أنها دافع عظيم للتدبر .. لكن ثمة أمراً آخر على
الوجه المقابل لهذه القضية .. معنى منذ أن يتأمله الإنسان يرتفع لديه
منسوب القلق قطعاً .. وهو أن من أعرض عن تدبر القرآن فإن الله
قدر عليه أصلاً ذلك الانصراف لأن الله تعالى سبق في علمه أن هذا
الإنسان لا خير فيه، ولو كان في هذا المعرض خير لوفقه الله للتدبر
والانتفاع بالقرآن، وقد شرح القرآن هذا المعنى في قوله تعالى :
( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ) [الأنفال:23]
كلما رأى الإنسان نفسه معرضاً عن تدبر القرآن، أو معرضاً عن
بعض معاني القرآن، ثم تذكر قوله تعالى: ( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم) يجف ريقه
من الهلع لا محالة ..
على أية حال .. هذا القرآن ينبوع يتنافس الناس في الارتشاف منه
بقدر منازلهم، كما قال الإمام ابن تيمية :"والقرآن مورد يرده
الخلق كلهم، وكل ينال منه على مقدار ما قسم الله له " [درء التعارض
٤٢٧/ : ٧]
حين يقول لك نبي الله إن أعظم سورة في القرآن هي سورة
الفاتحة، كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد المعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال له: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن،( الحمدلله رب العالمين )
هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته.[البخاري، ٤٤٧٤]
فهل هذه المنزلة لسورة الفاتحة منزلة اعتباطية؟ هل الله جل وعلا
يختار أن تكون سورة الفاتحة أعظم وحي أوحاه سبحانه وتعالى
طوال تاريخ النبوات هكذا دون حيثيات موضوعية أعطت هذه
السورة العظيمة مرتبتها الأولوية؟ كم من الوقت منحناه لتدبر هذه
السورة العظيمة والتساؤل عن مغزى هذا التعظيم الإلهي لها؟
حين يتدبر القارئ مضامين هذه السورة فإنه لا يستطيع أن يكف
عن نفسه الذهول كيف تاهت التيارات الفكرية المخالفة لأهل
السنة في قضايا وجزئيات ومسائل جعلوها أعظم مطالبهم، وزهدوا
في مطالب أخرى جاءت هذه السورة العظيمة بتقريرها، تأمل كيف
بدأت هذه السورة بثلاث آيات كلها ثناء على الله، تعظيمه جل
وعلا بربوبيته للعالمين، ثم تعظيمه جل وعلا بكمال رحمته، ثم
تعظيمه جل وعلا بملكه لليوم الآخر .
القارئ يحمد الله بربوبيته للعالمين، ورب العالمين يجيبه فيقول :
(حمدني عبدي)، ثم يواصل القارئ فيثني على الله بكمال رحمته،
ورب العالمين يقول: (أثنى علي عبدي)، فإذا بلغ القارئ الآية الثالثة
فأثنى على الله بملكه لليوم الآخر قال الله: (مجدني عبدي) [صحيح
مسلم، ٩٠٤]..
كثيراً ما أتساءل هل نحن حين نقرأ الفاتحة ونمر بهذه الآيات
نستشعر أن رب الأرض والسماوات يقول لنا ذلك، إنه الله،
يتحدث عنا ونحن نقرأ الفاتحة.. هل تتصور؟!
فبالله عليك تأمل في هذه الآيات الثلاث التي ذكر الله تعالى في
الحديث القدسي في صحيح مسلم أنها نصف الفاتحة، حين قال :
(قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين)..
هذه الآيات الثلاث التي هي نصف الفاتحة، أي أنها نصف أعظم
سورة في القرآن، كلها حمد لله وثناء على الله وتمجيد لله ..
بالله عليك تأمل في هذه الآيات الثلاث، ثم انتقل بذهنك وتذكر
جدل المذاهب الفكرية المعاصرة حول قضية (ترتيب الأولويات) ..
سألتك بالله هل رأيت واحداً منهم يتحدث عن الثناء على الله
وتوقير الله وتعظيم الله باعتباره أولوية من أولويات الإصلاح؟ بالله
عليك هل رأيت أحداً منهم يتحدث عن عمارة النفوس بتمجيد
الباري باعتبارها أولوية من أولويات النهضة والتقدم؟
من الذكريات التي تنتاب خاطري بشكل عشوائي صورة
تتراءى لي كثيراً من أحد مساءات رمضان..
فمن المشاهد في ليالي رمضان، وخصوصاً في هذا العقد
الأخير، أن المساجد صارت تتفاوت كثيراً في توقيت صلا تي
التراويح والتهجد بحسب ما يرتاح له أهل كل حي ويتوافقون
عليه.. ولذلك فكثيراً ما تكون في منزلك قد انتهيت من الصلاة
بينما تسمع بعض المساجد المجاورة ما زالوا في جوف صلاتهم ..
وهذا ما وقع لي ذات ليلة تكاد ذكراها تتهدج في نفسي..
كنت في غرفتي الخاصة أعد بعض الأوراق، وفي ثنايا انهماكي في
هذه المهام .. تسرب من خلال النافذة صوت مسجد الشيخ القارئ
خالد الشارخ، وهو مسجد تتلبد عليه وفود الشباب والفتيان من
الأحياء المجاورة في شرق الرياض..
توقفت عن العمل ..
وفتحت النافذة وكانت ليلة عليلة ..
وكادت أذني أن تنخلع تجاه مصدر الصوت ..
أظنها كانت آيات من سورة المائدة إن لم أكن واهماً ..
والله إنني أكاد ألمس السكينة تتطامن فوق كل ذرة حولي..
شعرت أن الهواء ليس كالهواء..
وأن السماء ليست السماء..
هناك شيء ما أفلست قواميس الدنيا أن تمدني بعبارة أصف بها ذلك
الإحساس..
رباه .. أي شيء يفعله القرآن يا إلهي في النفوس البشرية ..
ومما يعبر في بحر هذه الذكرى أنني أتذكر وأنا صغير أ ن أحد
قريباتي المسنات كانت إذا عادت من صلاة التراويح اتجهت إلى
التلفاز تشاهد نقل صلاة التراويح من المسجد الحرام.. ولا أحصي
كم شهدت دمعاتها تتلامع في محاجرها حين تتسمر أمام تلك
الصفوف المهيبة المطرقة حول كعبة الله المشرفة والقرآن تتجاوب به
منارات الحرم وسواريه..
وفي الأيام التي تسبق دخول شهر رمضان يكثر فيها تبادل التهاني
والدعوات (بلغنا الله وإياك رمضان، وفقنا الله وإياك لصيام رمضان
وقيامه، أحببت أن أبارك لك قدوم الشهر الكريم، الخ ..)
حين رأيت بعض هذه التهاني دار في بالي أن أنظر كيف عرض
الله لنا (رمضان) ؟
في أي إطار وضع الله (شهر رمضان) ؟
أو بمعنى آخر: (ما هي هوية رمضان في القرآن) ؟
حين أخذت أتأمل الآيات القرآنية التي تعرضت لرمضان في القرآن،
وجدته جاء في صيغتين، صيغة الشهر الكامل (رمضان)، وجاء في
صيغة جزئية أي بعض أيامه فقط، وهي (ليلة القدر).
في الصيغة التي جاء فيها بذكر الشهر الكامل (رمضان) قال الله عنه
( شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن )[البقرة:185]
فعرفه الله لنا بأنه الظرف الزمني للقرآن .
وفي الصيغة التي أشير فيها لرمضان بصورة جزئية، وهي أحد
لياليه، جاءت في موضعين، مرةً باسم (ليلة القدر) ومرةً باسم (الليلة
المباركة)، فأما باسم ليلة القدر فيقول تعالى في مطلع سورة القدر
( إنا أنزلناه في ليلة القدر )[ القدر:1] ، وأما باسم الليلة المباركة
فيقول تعالى في مطلع سورة الدخان (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا
منذرين )[ الدخان :3].
وفي كلا الموضعين ذكر الله هذه الليلة عبر علاقتها بالقرآن!
يا لربنا العجب ..
في المواضع التي ذكر الله فيها رمضان، بصيغة الشهر الكامل
وبصيغة الليالي الجزئية، تم تقديمه في إطار علاقته بالقرآن ..
أي إشارة لخصوصية القرآن في رمضان أكثر من ذلك..
استعرض كل شهور السنة الفاضلة.. شهور الحج .. الأشهر
الحرم.. لن تجد كثافة في الإشارة للقرآن كما تجده في علاقة القرآن
برمضان..
بل ثمة أمر قد يكون أشد لفتاً للانتباه من ذلك، أنه ليس فقط
إنزال القرآن اختار الله له رمضان، بل حتى (مراجعة القرآن) مع
النبي صلى الله عليه وسلم اختار الله لها رمضان! فكان جبرائيل عليه السلام
وهو أعظم الملائكة لأنه اختص بنقل كلام الله - يعقد مع النبي
صلى الله عليه وسلم مجالس مسائية في كل ليلة من رمضان لمراجعة القرآن، ففي صحيح
البخاري عن ابن عباس أنه قال: (كان جبريل يلقى النبي في كل ليلة في شهر رمضان
حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن)[ البخاري،4997]
لماذا اختار الله تحديداً هذا الشهر - أيضاً - لمراجعة القرآن؟
أليس في هذا إلماحاً إلى أن الساعات الرمضانية هي أشرف الأزمان
وأليقها بالقرآن؟ هل هناك لفت للانتبا ه لخصوصية القرآن في
رمضان أكثر من هذه الإشارات في اختيار توقيت نزول القرآن،
واختيار توقيت مراجعته؟
والحقيقة أن هذه المدارسة إذا أخذ يتخيلها الإنسان تستحوذ عليه
المهابة .. من يتصور؟
مجلس ليلي رمضاني لمراجعة القرآن، طرفاه أعظم إنسان (محمد
بن عبدالله) وأعظم ملَك (جبرائيل) وموضوع الدرس أعظم الكلام
(كلام ملك الملوك) ..
يا ألله ..
أي هيبة تقبض على النفوس بمجرد تخيل ذلك..
أشهر فعالية اجتماعية في شهر رمضان هي طبعاً (صلاة
التراويح)..
هل سألت نفسك يوماً ما هي الحكمة من صلاة التروايح؟
دعني أكون شفافاً معك فالحقيقة أنه لم يسبق لي أصلاً أن
تساءلت هذا السؤال، ولكن كنت مرةً أطالع فتاوى محقق العلوم
أبو العباس ابن تيمية فرأيته يقول رحمه الله :" بل من أجلِّ مقصود
التراويح قراءة القرآن فيها، ليسمع المسلمون كلام الله" [الفتاوى
١٢٢/٢٣]
سبحان من فتح على ذلك العقل الحراني في فهم أسرار
الشريعة..
وإذا حاول المرء أن يتأمل في سر العلاقة بين رمضان والقرآن، أو
أزمان الصيام والقرآن، فإنه يمكن أن تكون العلاقة أن الصيام يهذب
النفس البشرية فتتهيأ لاستقبال القرآن، ففي أيام الصيام تكون
النفس هادئة ساكنة بسبب ترك فضول الطعام ..
وهذا يعني أن من أعظم ما يعين على تدبر القرآن وفهمه التقلل
من الفضول..
مثل فضول الطعام، وفضول الخلطة مع الناس، وفضول النظر،
وفضول السماع، وفضول تصفح الانترنت..
فكلما زالت حواجز الفضول تهاوت الحجب بين القلب
والقرآن..
ولذلك كان رمضان الذي يتقلص فيه فضول الطعام والشراب
والنكاح بالصيام، ويتقلص فيه فضول الخلطة والكلام بالاعتكاف؛
هو شهر القرآن .
فےـيًّ آإلڪـتہآإبہة:. [عاشقة لوسي - sakura.d - S i l v ε r - ѕ ɪ ı ν ɑ и ɑ - kasandra ]
فےـيًّ آإلإعًدٍآإدٍ :. [ عاشقة لوسي ]
فےـيًّ تہصًـٍـًہمہيًّمہ آإلطٍـًہقـےـمہ :. [ ʂ ĸ я ◆]
فےـيًّ آإلتہטּڛًيًّقـےـ :. [ format ]
خُتًــأُمہــأًُ
هہذٍهہ ڳّــأُنہتً مہجٌرُدٍ مہقًتًطًفَأُتً للڳّتًـأُبِ
ڳّتًأُبِ رُأُئعً بِمہأُ تًعًنہيّهہ أُلڳّلمہة
وُ لتًحّمہيّل أُلڳّتًأُبِ أُضًغًطً ƊƠƜƝLƠAƊ
إلى أنہ نہلقًـأُڳّمہ بِإذٍنہ أُللهہ فَيّ مہوُأُضًيّعً أخُرُى
يغفر لمن استغفره ، ويرحم من استرحمه ، و يصلح المعيب ...
نحمده تبارك وتعالى ونسأله التنظيم لأحوالنا و الترتيب ...
ونعوذ بنور وجهه الكريم من الفساد و الإفساد والتخريب ...
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المقرب والحبيب ...
خلقٌهُ نعمة ، ومبعثه رحمة ، وشمس سنته لا تغيب ...
فصلِ اللهم عليه و على آلـه و صحبه و كل من انتسب إليه من بعيد أو قريب ...
أمــاآ بعد إخوتـي و أعزاآئي أعضاء و زوار العاشق الكراآم و بالأخص قــراآء هذا الموضوع,,
يسـر مجمـوعـة [ رواد الخير ] أن يُقدم لكـمـ موضوعـه الأول
مقتطفـات من كـتـاب [ الطريق إلى القرآن ] للشيخ [ إبراهيـمـ السكـران ]
أتمنى من الله أن يُعجبـكمـ الموضوع
لطالما أبهرني حديث بعض الصالحين إذ يتحدثون عما يرونه من فرق
مبهر في حياتهم، وعن فرقٍ عظيمٍ في فهمهم وصحة نظرهم
واستقرار تفكيرهم؛ ببركة هذا القرآن ..
ولطالما أبهرني حديث بعض الصالحين إذ يبثون شجواهم عما يجدونه
في أنفسهم بعد تلاوة القرآن.. يتحدثون عن شيء يحسون به، كأنما
يلمسونه بحواسهم، من قوة الإرادة في فعل الخيرات والتأبي على
المعاصي..
وراحة النفس في صراعات الأفكار والمنافسات الاجتماعية ..
بل لقد أبهرني فوق ذلك كله تشرف النبي صلى الله عليه وسلم ذاته بالقرآن سيد
ولد آدم يتشرف بكتاب الله..
فانظر كيف يرسم القرآن حال النبي صلى الله عليه وسلم قبل القرآن، وحال النبي
صلى الله عليه وسلم بعد القرآن كما قال تعالى ﴿ وكَذَلك أَوحينا إِلَيك روحا من
أمرنا ماكنت تدري مالكتاب ولا الإيمان ) [ الشورى : 52 ]
وقول الله سبحانه ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا
إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ) [ يوسف : 3 ]
فانظر بالله عليك كيف تأثرت حال النبي صلى الله عليه وسلم بعد إنزال القرآن
عليه ، بل انظر ما هو أعجب من ذلك وهو حال النبي صلى الله عليه وسلم بعد
الرسالة إذا راجع ودارس القرآن مع جبريل كيف يكون أجود
بالخير من الريح المرسلة كما في البخاري، هذا وهو رسول الله
الذي كمل يقينه وإيمانه، ومع ذلك يتأثر بالقرآن فيزداد نشاطه في
الخير، فكيف بنفوسنا الضعيفة المحتاجة إلى دوام العلاقة مع هذا
القرآن..
بل انظر كيف جعل خاصية الرسول صلى الله عليه وسلم تلاوة هذا القرآن فقال :
( رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ) [ البينة : 2 ].
لا بد أن هذا الشرف للقرآن يعكس عظمةً في مضامين ومحتويات
هذا القرآن ذاته، ولا بد أن يكون لهذا القرآن حضور في حياتنا
يوازي هذه العظمة.
وفي هذه الرسالة القصيرة التي بين يديك حصيلة خطرات وتباريح
حول واقع القرآن في حياتنا، وآثاره المبهرة الحسية والمعنوية.
من أعجب أسرار القرآن وأكثرها لفتاً للانتباه تلك السطوة الغريبة
التي تخضع لها النفوس عند سماعه .. (سطوة القرآن) ظاهرة حارت
فيها العقول ..
حين يسري صوت القارئ في الغرفة يغشى المكان سكينة ملموسة
تهبط على أرجاء ما حولك ..
تشعر أن ثمة توتراً يغادر المكان ..
كأن الجمادات من حولك أطبقت على الصمت..
كأن الحركة توقفت..
هناك شيء ما تشعر به لكنك لا تستطيع أن تعبر عنه..
حين تكون في غرفتك - مثلاً - ويصدح صوت القارئ من
جهازك المحمول، أوحين تكون في سيارتك في لحظات ا نتظار
ويتحول صوت الإذاعة إلى عرض آيات مسجلة من الحرم الشريف
.. تشعر أن سكوناً غريباً يتهادى رويداً رويداً فيما حولك..
كأنما كنت في مصنع يرتطم دوي عجلاته ومحركاته ثم توقف كل
شيء مرة واحدة..
كأنما توقف التيار الكهربائي عن هذا المصنع مرة واحدة فخيم
الصمت وخفتت الأنوار وساد الهدوء المكان..
هذه ظاهرة ملموسة يصنعها (القرآن العظيم) في النفوس تحدث عنها
الكثير من الناس بلغة مليئة بالحيرة والعجب..
حين قدمت للمجتمع الغربي أول مرة قبل ثلاث سنوات للدراسة؛
اعتنيت عناية بالغة بتتبع قصص وأخبار (حديثي العهد بالإسلام) ..
كنت أحاول أن أستكشف سؤالاً واحداً فقط:
ما هو أكثر مؤثر يدفع الإنسان الغربي لاعتناق الإسلام؟ (حتى يمكن
الاستفادة منه في دعوة البقية).
كنت أتوقع أنني يمكن أن أصل إلى (نظرية معقدة) حول الموضوع،
أو تفاصيل دقيقة حول هذه القضية لا يعرفها كثير من الناس،
وقرأت لأجل ذلك الكثير من التجارب الذاتية لشخصيات غربية
أسلمت، وشاهدت الكثير من المقاطع المسجلة يروي فيها غربيون
قصة إسلامهم، وكم كنت مأخوذاً بأكثر عامل تردد في قصصهم،
ألا وهو أنهم (سمعوا القرآن وشعروا بشعور غريب استحوذ عليهم)
هذا السيناريو يتكرر تقريباً في أكثر قصص الذين أسلموا، وهم لا
يعرفون اللغة العربية أصلاً!
إنها سطوة القرآن.. والله يقول ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته
خاشعا متصدعا من خشية الله ) [ الحشر : 21 ] هذا تأثر الجمادات فكيف بالبشر؟!
- تأمل كيف تنفعل (الجمادات الصماء) بسكينة القرآن
( لَوْ أَنْزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ . . ) الحشر 21
الجبال الرواسي التي يضرب المثل في صلابتها تتصدع وتتشقق من هيبة كلام الله ..
فكيف بقلوب الانبياء عليهم أزكى الصلاة والسلام بسكينة الوحي، كما يصور القرآن
تأثرهم بكلام الله، وخرورهم إلى الأرض، وبكاءهم؛ كما في قوله تعالى ( أولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) مريم 58
وأخيراً .. تأمل كيف انبهر أشرف الخلق على الإطلاق، وسيد ولد آدم محمد عليه الصلاة و سلام
بسكينة القرآن ، ففي البخاري عن عبد الله بن مسعود قال ( قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم
اقرأ علي" ، فقلت: أقرأ عليك يا رسول الله وعليك أنزل ؟ فقال رسول الله
" إني أشتهي أن أسمعه من غيري"، فقرأت النساء حتى إذا بلغت
"فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " قال لي رسول الله .
[ كف ، أو أمسك "، فرأيت عينيه تذرفان ) البخاري : 5055
ويا لعجائب هذه الهيبة القرآنية التي تتطامن على النفوس فتخبت لكلام الله، وتتسلل الدمعات
والمرء يداريها ويتنحنح، ويشعر المسلم فعلاً أن نفسه ترفرف من بعد ما كانت تتثاقل إلى الأرض ..
هل يليق بنا يا أخي الكريم أن نهمله ؟ وهل يليق بنا أن نتصفح يومياً عشرات التعليقات والأخبار و الإيميلات و المقالات ،
و مع ذلك ليس لـ (كتاب الله) نصيبٌ من يومنا . . ؟!
لقد اشتكى رسول الله صلى الله عليه و سلم من كفار قومه حين وقعو في صفةٍ بشعة
فواحسرتاه إن شابهنا هؤلاء الكفار في هذه الصفة التي تذمر منها رسول الله
و جأر بالشكوى إلى الله منها، يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم
( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) الفرقان : 30
أي خسارة.. و أي حرمان .. أن يتجارى الكسل و الخمول بالمرء حتى يتدهور
في منحدرات ( هجر القرآن ) و أذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو حبيبنا
الذي نفداه بأنفسنا وأهلينا وما نملك يشتكي إلى ربه الكفار بسبب (هجر القرآن )
فهل نرضى لأنفسنا أن نخالف مراد حبيبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم . . ؟!
أخي الذي أحب له ما أحب لنفسي ..
القضية لن تكلفنا الكثير، إنما هي دقائق معدودة من يومنا نجعلها حقاً حصرياً لكتاب الله ..
نتقلب بين مواعظه وأحكامه وأخباره، فنتزكى بما يسيل في آياته العظيمة
من نبض إيماني، ومعدن أخلاقي، والتزامات حقوقية، ورسالة عالمية إلى الناس كافة..
الحديث عن قسوة القلب حديث ذو شجون، ومن رزايا هذا
الزمن أن صرنا لا نستحي من المناصحة عن قسوة القلب بينما
قلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة .. لكن دعنا يا أخي ندردش دردشة
المحبوسين يتشاجون لبعضهم كيف يهربون من معتقلات
خطاياهم..
لقد قرأت كثيراً كثيراً في كتب الرقائق والإيمانيات والمواعظ،
وجربت كثيراً من الوسائل التي ذكروها، وأصدقك القول أنني
رأيتها محدودة الجدوى، لا أنكر أن فيها فائدة، لكن ليست الفائدة
الفعلية التي كنت أتوقعها، ووجدت العلاج الحقيقي الفعال الناجع
المذهل في دواء واحد فقط، دواء واحد لا غير، وكلما استعملته
رأيت الشفاء في نفسي، وكلما ابتعدت عنه عادت لي أسقامي، هذا
العلاج هو بكل اختصار (تدبر القرآن).
دع عنك كلما يذكره صيادلة الإيمان، ودع عنك كل عقاقير
الرقائق التي يصفونها، واستعمل (تدبر القرآن) وسترى في نفسك
وإيمانك وقوتك على الطاعات وتأبيك على المعاصي وراحة نفسك
في صراعات المناهج والأفكار شيئاً لا ينقضي منه العجب.
كل تقصير يقع فيه الإنسان، سواء كان تقصيراً علمياً بالتأويل
والتحريف للشريعة، أو كان تقصيراً سلوكياً بالرضوخ لدواعي
الشهوة، فإنه فرع عن قسوة القلب.
وهل تعلم كيف تحدث قسوة القلب؟
قسوة القلب ناشئة عن البعد عن الوحي، ألا ترى الله تعالى يقول:
(ألم يأن للذين آمنو أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق
ولايكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبلُ فطال عليهم الأمد فقست
قلوبهم ) [ الحديد : 16 ]
أرأيت يا أخي؟ إنه طول الأمد .. !
لما طال بهم الأمد قست قلوبهم .. ولو جددوا العهد مع الوحي
لحيت قلوبهم..
فإذا قسا القلب تجرأ الإنسان على الميل بالشريعة مع هواه ..
وإذا قسا القلب تهاون الإنسان في الطاعات واستثقلها ..
وإذا قسا القلب عظمت الدنيا في عين المرء فأقبل عليها وأهمل
حمل رسالة الإسلام للناس .. وإذا قسا القلب ضعفت الغيرة والحمية
لدين الله ..
وما العلاج إذاً ؟
العلاج لما يحيك في هذه الصدور هو مداواتها بتدبر القرآن .. بالله
عليك تأمل في قوله تعالى : (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من
ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) [ يونس:57 ]
فإذا شفيت الصدور وجدت خفة نفس في الطاعات ..
وإذا شفيت الصدور انقادت للنصوص بكل سلاسة ونفرت من
التأويل والتحريف ..
وإذا شفيت الصدور تعلقت بالآخرة واستهانت بحطام الدنيا ..
وإذا شفيت الصدور امتلأت بحمل هم إظهار الهدى ودين الحق
على الدين كله ..
وأعجب من ذلك أنه إذا شفيت الصدور استقزمت الأهداف
الصغيرة ..
تلك الأهداف التي تستعظمها النفوس الوضيعة ..
الولع بالشهرة ..
وحب الظهور ..
وشغف الرياسة والجاه في عيون الناس ..
وشهوة غلبة الأقران ..
النفوس التي شفاها هذا القرآن .. ترى كل ذلك حطام إعلامي
ظاهره لذيذ فإذا جرب الإنسان بعضه اكتشف تفاهته ..
وأنه لا يستحق لحظة من العناء فضلاً عن اللهاث سنوات..
فضلاً عن تقبل أن يقوم المرء بتحريف الوحي ليقال فلان الوسطي
الراقي الوطني التنموي الحضاري النهضوي التقدمي.. إلى غير ذلك
من عصائب الأهواء التي تعشي العيون عن رؤية الحقائق..
هل تظن يا أخي أن تحريف معاني الشريعة لا صلة له بقسوة
القلب؟! أفلا تقرأ معي يا أخي قوله تعالى ( وجعلنا قلوبهم قاسية
يُحرفون الكلم عن مواضعه )[ المائدة :13].
دعنا نعد قراءة آية الشفاء( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من
ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) [ يونس:57 ]
يا الله ..
هل قال الله "شفاء لما في الصدور" ..
نعم إنه شفاء لما في الصدور..
هكذا بكل وضوح ..
هذا القرآن يا أخي له سحر عجيب في إحياء القلب وتحريك
النفوس وعمارتها بالشوق لباريها جل وعلا ..
وسر ذلك أن هذا القرآن له سطوة خفية مذهلة في صناعة
الاخبات والخضوع في النفس البشرية كما يقول تعالى ( وليعلم
الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له
قلوبهم ) [ الحج:54]
فإذا أخبتت النفوس ..
وانفعلت بالتأثر الإيماني ..
انحلت قيود الجوارح ..
ولهج اللسان بالذكر ..
وخفقت الأطراف بالركوع والسجود والسعي لدين الله .. كما
يصور الحق تبارك وتعالى ذلك بقوله : ( الله نزل أحسن الحديث
كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم
تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله )[ الزمر:23].
لاحظ كيف تقشعر .. ثم تلين ..
إنها الرهبة التي تليها الاستجابة ..
وتلك هي هيبة القرآن..
حالات الانحراف عن التدين حالات تذيب القلب مرارةً،
وخصوصاً إذا كان المنحرف صديقاً قريباً عشت معه أيام العلم
والإيمان..
وحالات الانحراف بينها تفاوت كبير..
فبعضهم مشكلته (علمية) بسبب رهبة عقول ثقافية كبيرة انهزم
أمامها..
وبعضهم مشكلته (سلوكية) بسبب ضعفه أمام لذائذ اللهو
والترفيه.. وإن كان الأمر دوماً يكون مركباً من هوى وشبهة لكنه
يكون أغلب لأحدهما بحسب الحال، فإما تعتريه شبهة تقوده للتمرغ
في الشهوات، وإما تغلبه شهوة فيتطلب لها الشبهات والمخارج
والحيل.
وأنا إلى هذه الساعة على كثرة ما تعاملت مع هذه الحالات لا
أعرف علاجاً أنفع من (تدبر القرآن) فإن القرآن يجمع نوعي
العلاج (الإيماني والعلمي) وهذا لا يكاد يوجد في غير القرآن،
فالقرآن له سر عجيب في صناعة الإخبات في النفس البشرية
يقول تعالى ( وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا
به فتخبت له قلوبهم ) [ الحج:54] وإذا تهيأ المحل بالإيمان لان لقبول الحق
والإذعان له كما قال تعالى( الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر
منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله )[ الزمر:23].
والمراد أنه إذا رأى متدبر القرآن هدي القرآن في هذه القضايا
وأمثالها، ثم قارنها بأحوال التيارات الفكرية المعاصرة، ورأى ما في
كلام هؤلاء من تأويلات للنصوص لتوافق الذوق الغربي، والإزراء
باتباع السلف في فهم الإسلام، وملء القلوب بحب الدنيا، واللهج
بتعظيم الكفار، وتهتيك الحواجز بين الجنسين، والارتخاء العبادي
الظاهر...الخ. إذا قارن بين القرآن وبين أحوال هؤلاء انفتح له باب
معرفة الحق.
حين أسمع بعض المفكرين الإسلاميين يتكلمون عن ضرورة
مقاومة وتفنيد الأفكار الضالة الجديدة عبر دراسات فكرية موسعة؛
فلا أخفي أنني أحترم تماماً حرصهم على سلامة التصورات
الإسلامية من الاجتياح العلماني المعاصر ..
لكنني أرتاب كثيراً في نجاعة هذه المبالغة في التعويل على
الدراسات الفكرية..
عندي وجهة نظر لكني لا أبوح بها كثيراً .. لأني أرى بعض
المفكرين الإسلاميين يتصور أنها نوع من التثبيط والتخذيل، فلذلك
ألوذ بالصمت ..
وجهة نظري هذه بكل اختصار هي أن أمر الانحرافات الفكرية
المعاصرة أسهل بكثير مما نتصور ..
فلو نجحنا في تعبئة الشباب المسلم للإقبال على القرآن، وتدبر
القرآن، ومدارسة معاني القرآن، لتهاوت أمام الشاب المسلم -
الباحث عن الحق - كل التحريفات الفكرية المعاصرة ريثما يختم
أول "ختمة تدبر" ..
بالله عليكم لو قرأ الشاب المسلم - الباحث عن الحق- آيات
القرآن في حقارة الكافر ..
وآيات القرآن في وسيلية الدنيا ومركزية الآخرة ..
وآيات القرآن في التحفظ والاحتياط في العلاقة بين الجنسين ..
وآيات القرآن في إقصاء أي فكرة مخالفة للوحي ..
وآيات القرآن في وجوب الوصاية على اتمع عبر شريعة الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ..
وآيات القرآن في تقييد الحريات الشخصية بالإنكار
والاحتساب..
وآيات القرآن في أزلية الصراع بين الحق والباطل ..
وآيات القرآن في وجوب هيمنة الشريعة على كل المجتمعات ..
وآيات القرآن في نفي النسبية وإثبات اليقين ..
وآيات القرآن في مسخ أقوام قردة خاسئين لما تسلطوا على ألفاظ
النصوص بالتأويل لتوافق رغباتهم وأهوائهم ..
وآيات القرآن في ارتباط الكوارث الكونية بالمعاصي والذنوب ..
وآيات القرآن في ترتيب جدول أولويات النهضة بين التوحيد
والإيمان والفرائض والفضيلة وإعداد القوة المدنية .. الخ
فبالله عليكم قولوا لي ماذا سيتبقى - بعد ذلك - من أطلال
الانحرافات الفكرية المعاصرة ؟!
حين يقرأ الشاب المسلم - الباحث عن الحق - مثل هذه
الآيات فإنه ليس أمام "خطاب فكري" يستطيع التخلص منه عبر
مخرج "الاختلاف في وجهة النظر" ..
بل هو أمام "خطاب الله" مباشرة ..
فإما الانصياع وإما النفاق الفكري ..
ولا تسويات أو حلول وسط أمام أوامر ملك الملوك سبحانه
وتعالى..
لنجتهد فقط في تحريض وتأليب العقل المسلم المعاصر على
الإقبال على القرآن، وتدبر القرآن، في تجرد معرفي صادق للبحث
عن الحقيقة.. وصدقوني سنتفاجأ كثيراً بالنتائج ..
قراءة واحدة صادقة لكتاب الله .. تصنع في العقل المسلم ما لا
تصنعه كل المطولات الفكرية بلغتها الباذخة وخيلائها الاصطلاحي
..
قراءة واحدة صادقة لكتاب الله ..
كفيلة بقلب كل حيل الخطاب الفكري المعاصر رأساً على
عقب..
هذا القرآن حين يقرر المسلم أن يقرأه ب"تجرد" .. فإنه لا
يمكن أن يخرج منه بمثل ما دخل عليه .. هذا القرآن يقلب
شخصيتك ومعاييرك وموازينك وحميتك وغيرتك وصيغة علاقتك
بالعالم والعلوم والمعارف والتاريخ ..
وخصوصاً .. إذا وضع القارئ بين عينيه أن هذا القرآن ليس
مجرد "معلومات" يتعامل معها ببرود فكري ..
بل هو "رسالة" تحمل قضية ودوياً ..
وإن من أكثر الأمور لفتاً للانتباه في هذا القرآن العظيم .. هي
ماحكاه الله عن انفعال الأنبياء بالقرآن انفعالاً وجدانياً وعاطفياً
عميقاً ..
لو أفلحنا في إقناع الشاب المسلم بالإقبال على القرآن بالتدبر
الصادق المتجرد للبحث عن الحق .. فاعتبروا أن "الدور المعرفي"
تقريباً انتهى ..
وبقيت مرحلة الإيمان ..
فمن كان معه إيمان وخوف من الله فسيحمله على الانقياد
والانصياع لله سبحانه ..
ومن أرخى لهواه العنان .. فسيتخبط في شعب النفاق الفكري ..
حيث سيبدأ في أن يعلن على الملأ - كما يعلن غيره - أنه "يحترم
ضوابط الشريعة" .. لكنه في دخيلة نفسه يدرك أن كل ما يقوله
مخالف للقرآن ..!
بقي الاستثناء الوحيد هاهنا ..
وهو أنني أقول أن من كانت نفسيته المعرفية سوية .. أعني أنها
تنظر في "جوهر البرهان" وليس في "شكليات الخطاب" فلن يحتاج
إلا لقراءة القرآن بتجرد ..
أما من كان يعاني من عاهات في شخصيته الفكرية .. بحيث أنه
يقدم وهج الديكور اللغوي على جوهر البرهان .. فهذا النوع
المريض من الناس قد يحتاج فعلاً بعض الكتابات الفكرية التي تخدعه
ببعض الطلاء التسويقي .. كما قال الإمام ابن تيمية في حادثة
مشاهدة في كتابه "الرد على المنطقيين" :
(وبعض الناس: يكون الطريق كلما كان أدق وأخفى وأكثر
مقدمات وأطول كان أنفع له، لأن نفسه اعتادت النظر الطويل في
الأمور الدقيقة، فإذا كان الدليل قليل المقدمات، أو كانت جلية، لم
تفرح نفسه به..، فإن من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور
الناس وعمومهم، أو ما يمكن غير الأذكياء معرفته، لم يكن عند
نفسه قد امتاز عنهم بعلم، فيحب معرفة الأمور الخفية الدقيقة
الكثيرة المقدمات)
أخيراً ..
أعطوني ختمة واحدة بتجرد ..
أعطيكم مسلماً حنيفاً سنياً سلفياً ..
ودعوا عنكم خرافة الكتب الفكرية الموسعة ..
ولنجعل القرآن " أصلاً " وغيره من الدراسات الفكرية مجرد " تبع "
كثير من الناس يتساءل ويقول: ماذا أتدبر بالضبط في القرآن؟
والحقيقة أن القرآن فيه حقائق وإشارات كثيرة تحتاج إلى التدبر، ثمة
مفاتيح كثيرة لفهم القرآن..
أعظم وجوه ومفاتيح الانتفاع بالقرآن تدبر ما عرضه القرآن من
(حقائق العلم بالله) فما في القرآن من تصورات عن الملأ الأعلى هي
من أعظم ما يزكي النفوس، وكثيراً من المنتسبين للفكر المعاصر يظن
الأهم في القرآن هو التشريعات العملية، وأما باب العلم الإلهي فهو
قضية ثانوية، ولا يعرف أن هذا هو المقصود الأجل والأعظم،
ولذلك قال الإمام ابن تيمية: "فإن الخطاب العلمي في القرآن
أشرف من الخطاب العملي قدراً وصفة " [درء التعارض،
.[٣٥٨/٥
وأنا شخصياً إذا التقيت بشخصية غربية متميزة في الفكر أو
القانون أو غيرها من العلوم أجاهد نفسي مجاهدة على احترام تميزه،
لأنني كلما رأيتهم في غاية الجهل بالله سبحانه وتعالى، امتلأت
نفسي إزراءً بهم، ما فائدة أن تعرف تفاصيل جزء معين من العلوم
وأنت جاهل بأعظم مطلوب للإنسان.. إنه لا يختلف عن سائق
مركبة يتقن تفاصيل بعض الطرق الفرعية ويجهل الطرق الرئيسية في
المدينة.. فهل مثل هذا يصل؟! أي تخلف وانحطاط معرفي يعيشه
هؤلاء الجهلة بالعلم الإلهي..
ويؤلمني القول بأن كثيراً من المنتسبين للفكر العربي المعاصر
يجهلون دقائق العلم بالله التي عرضها القرآن.. وأما أئمة السلف
الذين ورثنا عنهم علوم الشريعة فقد كانوا في ذروة التبحر في دقائق
القرآن، فمن تأمل - مثلاً - رسالة الإمام أحمد في الرد على
الزنادقة، أو رسالة الدارمي في النقض على المريسي، فستستحو ذ
عليه الدهشة من عمق علمهم بالقرآن وما فيه من أسرار المعرفة
الإلهية، وشدة استحضار الآيات وربط ما بينها، ليست معرفة آحاد
وأفراد الألفاظ فقط، بل معرفة السلف بالقرآن مركبة، فتجدهم
يلاحظون منظومة لوازم معاني القرآن، ويستخلصون قي تقريراتهم
حصيلة توازنات هذه المعاني القرآنية..
ومن وجوه الانتفاع بالقرآن - أيضاً- تدبر أخبار الأنبياء التي
ساقها القرآن وكررها في مواضع متعددة، وبدهي أن هذه الأخبار
عن الأنبياء ليست قصصاً للتسلية، بل هي (نماذج) يريد القرآن أن
يوصل من خلالها رسائل تضمينية، فيتدبر قارئ القرآن ماذا أراد الله
بهذه الأخبار؟ مثل التفطن لعبودية الأنبياء وطريقتهم في التعامل مع
الله كما قال الإمام ابن تيمية :"والقرآن قد أخبر بأدعية الأنبياء،
.[١٦١/ وتوباتهم، واستغفارهم" [تلخيص الاستغاثة: ١
وتلاحظ أن الله يثني ويعيد قصص القرآن في مواطن متفرقة،
وليس هذا تكراراً محضاً، بل في كل موضع يريد الله تعالى أن يوصل
رسالةً ما، وأحياناً أخرى يكون في كل موضع إشارة لجزء من
الأحداث لا يذكره الموضع الآخر، كما قال الإمام ابن تيمية مثلاً:
"وقد ذكر الله قصة قوم لوط في مواضع من القران في سورة هود
والحجر والعنكبوت، وفي كل موضع يذكر نوعاً مما جرى" [الرد
.[ على المنطقيين: ٤٩٤
والمهم هاهنا أن تدبر أخبار الأنبياء، وأخبار الطغاة، وأخبار
الصالحين، في القرآن، ومحاولة تفهم وتحليل الرسالة الضمنية فيها؛
من أعظم مفاتيح الانتفاع بالقرآن.
ومن أعظم وجوه الانتفاع بالقرآن - أيضاً - أن يضع الإنسان
أمامه على طاولة التدبر كل الخطابات الفكرية المعاصرة عن النهضة
والحضارة والتقدم والرقي والإصلاح والاستنارة الخ.. ويضع كل
القضايا التي يرون أنها هي معيار التقدم والرقي ..
ثم يتدبر قارئ القرآن أعمال الإيمان التي عرضها القرآن كمعيار
للتقدم والرقي ..
تأمل فقط بالله عليك كيف ذكر الله الانقياد والتوكل واليقين
والإخلاص والاستغفار والتسبيح والصبر والصدق والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر... الخ في عشرات المواضع ..
بل بعض هذه الأعمال بعينها ذكرت في سبعين موضعاً ..
لا شك أن تنبيهات القرآن على مركزية (تدبر القرآن) في صحة
المنهج والطريق أنها دافع عظيم للتدبر .. لكن ثمة أمراً آخر على
الوجه المقابل لهذه القضية .. معنى منذ أن يتأمله الإنسان يرتفع لديه
منسوب القلق قطعاً .. وهو أن من أعرض عن تدبر القرآن فإن الله
قدر عليه أصلاً ذلك الانصراف لأن الله تعالى سبق في علمه أن هذا
الإنسان لا خير فيه، ولو كان في هذا المعرض خير لوفقه الله للتدبر
والانتفاع بالقرآن، وقد شرح القرآن هذا المعنى في قوله تعالى :
( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ) [الأنفال:23]
كلما رأى الإنسان نفسه معرضاً عن تدبر القرآن، أو معرضاً عن
بعض معاني القرآن، ثم تذكر قوله تعالى: ( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم) يجف ريقه
من الهلع لا محالة ..
على أية حال .. هذا القرآن ينبوع يتنافس الناس في الارتشاف منه
بقدر منازلهم، كما قال الإمام ابن تيمية :"والقرآن مورد يرده
الخلق كلهم، وكل ينال منه على مقدار ما قسم الله له " [درء التعارض
٤٢٧/ : ٧]
حين يقول لك نبي الله إن أعظم سورة في القرآن هي سورة
الفاتحة، كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد المعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال له: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن،( الحمدلله رب العالمين )
هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته.[البخاري، ٤٤٧٤]
فهل هذه المنزلة لسورة الفاتحة منزلة اعتباطية؟ هل الله جل وعلا
يختار أن تكون سورة الفاتحة أعظم وحي أوحاه سبحانه وتعالى
طوال تاريخ النبوات هكذا دون حيثيات موضوعية أعطت هذه
السورة العظيمة مرتبتها الأولوية؟ كم من الوقت منحناه لتدبر هذه
السورة العظيمة والتساؤل عن مغزى هذا التعظيم الإلهي لها؟
حين يتدبر القارئ مضامين هذه السورة فإنه لا يستطيع أن يكف
عن نفسه الذهول كيف تاهت التيارات الفكرية المخالفة لأهل
السنة في قضايا وجزئيات ومسائل جعلوها أعظم مطالبهم، وزهدوا
في مطالب أخرى جاءت هذه السورة العظيمة بتقريرها، تأمل كيف
بدأت هذه السورة بثلاث آيات كلها ثناء على الله، تعظيمه جل
وعلا بربوبيته للعالمين، ثم تعظيمه جل وعلا بكمال رحمته، ثم
تعظيمه جل وعلا بملكه لليوم الآخر .
القارئ يحمد الله بربوبيته للعالمين، ورب العالمين يجيبه فيقول :
(حمدني عبدي)، ثم يواصل القارئ فيثني على الله بكمال رحمته،
ورب العالمين يقول: (أثنى علي عبدي)، فإذا بلغ القارئ الآية الثالثة
فأثنى على الله بملكه لليوم الآخر قال الله: (مجدني عبدي) [صحيح
مسلم، ٩٠٤]..
كثيراً ما أتساءل هل نحن حين نقرأ الفاتحة ونمر بهذه الآيات
نستشعر أن رب الأرض والسماوات يقول لنا ذلك، إنه الله،
يتحدث عنا ونحن نقرأ الفاتحة.. هل تتصور؟!
فبالله عليك تأمل في هذه الآيات الثلاث التي ذكر الله تعالى في
الحديث القدسي في صحيح مسلم أنها نصف الفاتحة، حين قال :
(قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين)..
هذه الآيات الثلاث التي هي نصف الفاتحة، أي أنها نصف أعظم
سورة في القرآن، كلها حمد لله وثناء على الله وتمجيد لله ..
بالله عليك تأمل في هذه الآيات الثلاث، ثم انتقل بذهنك وتذكر
جدل المذاهب الفكرية المعاصرة حول قضية (ترتيب الأولويات) ..
سألتك بالله هل رأيت واحداً منهم يتحدث عن الثناء على الله
وتوقير الله وتعظيم الله باعتباره أولوية من أولويات الإصلاح؟ بالله
عليك هل رأيت أحداً منهم يتحدث عن عمارة النفوس بتمجيد
الباري باعتبارها أولوية من أولويات النهضة والتقدم؟
من الذكريات التي تنتاب خاطري بشكل عشوائي صورة
تتراءى لي كثيراً من أحد مساءات رمضان..
فمن المشاهد في ليالي رمضان، وخصوصاً في هذا العقد
الأخير، أن المساجد صارت تتفاوت كثيراً في توقيت صلا تي
التراويح والتهجد بحسب ما يرتاح له أهل كل حي ويتوافقون
عليه.. ولذلك فكثيراً ما تكون في منزلك قد انتهيت من الصلاة
بينما تسمع بعض المساجد المجاورة ما زالوا في جوف صلاتهم ..
وهذا ما وقع لي ذات ليلة تكاد ذكراها تتهدج في نفسي..
كنت في غرفتي الخاصة أعد بعض الأوراق، وفي ثنايا انهماكي في
هذه المهام .. تسرب من خلال النافذة صوت مسجد الشيخ القارئ
خالد الشارخ، وهو مسجد تتلبد عليه وفود الشباب والفتيان من
الأحياء المجاورة في شرق الرياض..
توقفت عن العمل ..
وفتحت النافذة وكانت ليلة عليلة ..
وكادت أذني أن تنخلع تجاه مصدر الصوت ..
أظنها كانت آيات من سورة المائدة إن لم أكن واهماً ..
والله إنني أكاد ألمس السكينة تتطامن فوق كل ذرة حولي..
شعرت أن الهواء ليس كالهواء..
وأن السماء ليست السماء..
هناك شيء ما أفلست قواميس الدنيا أن تمدني بعبارة أصف بها ذلك
الإحساس..
رباه .. أي شيء يفعله القرآن يا إلهي في النفوس البشرية ..
ومما يعبر في بحر هذه الذكرى أنني أتذكر وأنا صغير أ ن أحد
قريباتي المسنات كانت إذا عادت من صلاة التراويح اتجهت إلى
التلفاز تشاهد نقل صلاة التراويح من المسجد الحرام.. ولا أحصي
كم شهدت دمعاتها تتلامع في محاجرها حين تتسمر أمام تلك
الصفوف المهيبة المطرقة حول كعبة الله المشرفة والقرآن تتجاوب به
منارات الحرم وسواريه..
وفي الأيام التي تسبق دخول شهر رمضان يكثر فيها تبادل التهاني
والدعوات (بلغنا الله وإياك رمضان، وفقنا الله وإياك لصيام رمضان
وقيامه، أحببت أن أبارك لك قدوم الشهر الكريم، الخ ..)
حين رأيت بعض هذه التهاني دار في بالي أن أنظر كيف عرض
الله لنا (رمضان) ؟
في أي إطار وضع الله (شهر رمضان) ؟
أو بمعنى آخر: (ما هي هوية رمضان في القرآن) ؟
حين أخذت أتأمل الآيات القرآنية التي تعرضت لرمضان في القرآن،
وجدته جاء في صيغتين، صيغة الشهر الكامل (رمضان)، وجاء في
صيغة جزئية أي بعض أيامه فقط، وهي (ليلة القدر).
في الصيغة التي جاء فيها بذكر الشهر الكامل (رمضان) قال الله عنه
( شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن )[البقرة:185]
فعرفه الله لنا بأنه الظرف الزمني للقرآن .
وفي الصيغة التي أشير فيها لرمضان بصورة جزئية، وهي أحد
لياليه، جاءت في موضعين، مرةً باسم (ليلة القدر) ومرةً باسم (الليلة
المباركة)، فأما باسم ليلة القدر فيقول تعالى في مطلع سورة القدر
( إنا أنزلناه في ليلة القدر )[ القدر:1] ، وأما باسم الليلة المباركة
فيقول تعالى في مطلع سورة الدخان (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا
منذرين )[ الدخان :3].
وفي كلا الموضعين ذكر الله هذه الليلة عبر علاقتها بالقرآن!
يا لربنا العجب ..
في المواضع التي ذكر الله فيها رمضان، بصيغة الشهر الكامل
وبصيغة الليالي الجزئية، تم تقديمه في إطار علاقته بالقرآن ..
أي إشارة لخصوصية القرآن في رمضان أكثر من ذلك..
استعرض كل شهور السنة الفاضلة.. شهور الحج .. الأشهر
الحرم.. لن تجد كثافة في الإشارة للقرآن كما تجده في علاقة القرآن
برمضان..
بل ثمة أمر قد يكون أشد لفتاً للانتباه من ذلك، أنه ليس فقط
إنزال القرآن اختار الله له رمضان، بل حتى (مراجعة القرآن) مع
النبي صلى الله عليه وسلم اختار الله لها رمضان! فكان جبرائيل عليه السلام
وهو أعظم الملائكة لأنه اختص بنقل كلام الله - يعقد مع النبي
صلى الله عليه وسلم مجالس مسائية في كل ليلة من رمضان لمراجعة القرآن، ففي صحيح
البخاري عن ابن عباس أنه قال: (كان جبريل يلقى النبي في كل ليلة في شهر رمضان
حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن)[ البخاري،4997]
لماذا اختار الله تحديداً هذا الشهر - أيضاً - لمراجعة القرآن؟
أليس في هذا إلماحاً إلى أن الساعات الرمضانية هي أشرف الأزمان
وأليقها بالقرآن؟ هل هناك لفت للانتبا ه لخصوصية القرآن في
رمضان أكثر من هذه الإشارات في اختيار توقيت نزول القرآن،
واختيار توقيت مراجعته؟
والحقيقة أن هذه المدارسة إذا أخذ يتخيلها الإنسان تستحوذ عليه
المهابة .. من يتصور؟
مجلس ليلي رمضاني لمراجعة القرآن، طرفاه أعظم إنسان (محمد
بن عبدالله) وأعظم ملَك (جبرائيل) وموضوع الدرس أعظم الكلام
(كلام ملك الملوك) ..
يا ألله ..
أي هيبة تقبض على النفوس بمجرد تخيل ذلك..
أشهر فعالية اجتماعية في شهر رمضان هي طبعاً (صلاة
التراويح)..
هل سألت نفسك يوماً ما هي الحكمة من صلاة التروايح؟
دعني أكون شفافاً معك فالحقيقة أنه لم يسبق لي أصلاً أن
تساءلت هذا السؤال، ولكن كنت مرةً أطالع فتاوى محقق العلوم
أبو العباس ابن تيمية فرأيته يقول رحمه الله :" بل من أجلِّ مقصود
التراويح قراءة القرآن فيها، ليسمع المسلمون كلام الله" [الفتاوى
١٢٢/٢٣]
سبحان من فتح على ذلك العقل الحراني في فهم أسرار
الشريعة..
وإذا حاول المرء أن يتأمل في سر العلاقة بين رمضان والقرآن، أو
أزمان الصيام والقرآن، فإنه يمكن أن تكون العلاقة أن الصيام يهذب
النفس البشرية فتتهيأ لاستقبال القرآن، ففي أيام الصيام تكون
النفس هادئة ساكنة بسبب ترك فضول الطعام ..
وهذا يعني أن من أعظم ما يعين على تدبر القرآن وفهمه التقلل
من الفضول..
مثل فضول الطعام، وفضول الخلطة مع الناس، وفضول النظر،
وفضول السماع، وفضول تصفح الانترنت..
فكلما زالت حواجز الفضول تهاوت الحجب بين القلب
والقرآن..
ولذلك كان رمضان الذي يتقلص فيه فضول الطعام والشراب
والنكاح بالصيام، ويتقلص فيه فضول الخلطة والكلام بالاعتكاف؛
هو شهر القرآن .
فےـيًّ آإلڪـتہآإبہة:. [عاشقة لوسي - sakura.d - S i l v ε r - ѕ ɪ ı ν ɑ и ɑ - kasandra ]
فےـيًّ آإلإعًدٍآإدٍ :. [ عاشقة لوسي ]
فےـيًّ تہصًـٍـًہمہيًّمہ آإلطٍـًہقـےـمہ :. [ ʂ ĸ я ◆]
فےـيًّ آإلتہטּڛًيًّقـےـ :. [ format ]
خُتًــأُمہــأًُ
هہذٍهہ ڳّــأُنہتً مہجٌرُدٍ مہقًتًطًفَأُتً للڳّتًـأُبِ
ڳّتًأُبِ رُأُئعً بِمہأُ تًعًنہيّهہ أُلڳّلمہة
وُ لتًحّمہيّل أُلڳّتًأُبِ أُضًغًطً ƊƠƜƝLƠAƊ
إلى أنہ نہلقًـأُڳّمہ بِإذٍنہ أُللهہ فَيّ مہوُأُضًيّعً أخُرُى