استهلال:
وقال جابر رضي الله عنهما :
"إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ،
ودع أذى الجار ، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ،
ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء"
الصيام صيام الجوارح ووسيلة لتحسين الأخلاق :
شرع الإسلام الصوم ? فلم ينظر إليه على أنه حرمان مؤقت من بعض الأطعمة والأشربة ? بل اعتبره خطوة إلى حرمان النفس دائما من شهواتها المحظورة ونزواتها المنكورة. وإقرارا لهذا المعنى قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " من لم يدع قول الزور ? والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه " وقال: "ليس الصيام من الأكل والشرب ? إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سابك أحد ? أو تجهل عليك ? فقل: إنى صائم " . والقرآن الكريم يذكر ثمرة الصوم بقوله : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة/183]".
ويقول صلَّى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:
(فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل؛
فإن سابَّه أحد أو شاتمه فليقل:إني صائم)
وإذا كبَح الصوم المعاصي نال العبد منزلة راقية في العبودية لله ؛ لأنَّ الصوم ـ الذي يراد به مجرد الإمساك عن الطعام والشراب ـ يستطيعه كثير من الناس ، بيدَ أنَّه ـ سبحانه ـ أراد من عباده أن يكون صومهم منقياً لهم من المعاصي وما دار في فلكها، وقد ذكر الإمام ابن حجر العسقلاني أنَّ العلماء:" اتفقوا أنَّ المراد بالصيام صيام من سلم صيامه من المعاصي قولاً وفعلاً "
والحقيقة أنَّ الناس انقسموا في الصيام إلى عدَّة أقسام: فمنهم من يكون صيامه الإمساك عن الأكل والشرب فقط ، إلاَّ أنَّه مرتكب للفواحش مطلق بصرَه لما حرَّم الله من النظر إلى النساء غير المحارم، وبعضهم قد أرخى لأذنه لكي تستمع للأغاني المحرمة ، ولا يخفى على ذي لبٍّ ما فيها من الفسق والكلام الفاحش ، وبعضهم أطلق لفمه العنان بالكلام الساقط، والعبارات الرذيلة، والغيبة والنميمة، وشهادة الزور والكذب؛ فهل هذا صيام من أراد جنَّة الرضوان ؟!
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وهو الصادق المصدوق حيث يقول:"رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ، ورب قائم حظُّه من قيامه السهر"
إذا لم يكن في السمع مني تصاون * وفي بصري غضٌّ وفي منطقي صمت
فحظِّي إذاً من صومي الجوع والظما * فإن قلت: إني صمت يومي فما صمت
ولهذا فإنَّ هؤلاء الذين فرَّطوا بصيامهم يعتبرون محرومين في شهر الصوم ، مفلسين في شهر الجود والإحسان ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم مرَّة لأصحابه :" أتدرون ما المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال : إن المفلس من أمتي، يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا، وضرب هذا . فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته . فإن فنيت حسناته ، قبل أن يقضى ما عليه ، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه . ثم طرح في النار"
لا معنى لظاهر الصيام إن لم تتأدب النفوس:
من صام في نهار رمضان، ولم يصم لسانه من غيبة الآخرين وهتك أعراضهم، ولم تصم يده من إيذاء الآخرين والنيل منهم، ولم يصم قلبه من الأحقاد والغلِّ على إخوانه المسلمين، فإنَّ صيامه ناقص، وفيه تفريط كبير لحدود الله.
وممَّا يعجب له المطَّلع على أحوال بعض العوام حيث يحفظ هؤلاء حديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهنَّ ) ثم يقفون عند هذا الحدِّ، وينسون أو يتناسون تكملة
هذا الحديث إذا اجتنبت الكبائر).
فليدرك الإنسان نفسه ، وليجدد توبته لربه، وليبتعد عن منكرات الأخلاق والأقوال والأعمال؛ فإنَّ رسول الهدى ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول في الحديث الصحيح: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه).
وما معنى حقيقة الصيام إن كان المرء يصوم عن الطعام والشراب، ولكنَّه لا يصوم عن السباب والفحش والبذاءة باللسان، ولا يصوم عن غض البصر عمَّا حرَّم الله؟!
ذكر الإمام ابن رجب ـ رحمه الله ـ أنَّ بعض السلف قال:" أهون الصيام ترك الشراب والطعام، وقال جابر رضي الله عنهما: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ، ودع أذى الجار ، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء!!"
يقول الإمام ابن رجب (فصيامنا هذا يحتاج إلى استغفار نافع، وعمل صالح له شافع، كم نخرق صيامنا بسهام الكلام ، ثمَّ نرقعه ، وقد اتسع الخرق على الراقع، والمقصود أنَّ من أراد الصوم الحقيقي فليحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى ، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته:
أهل الخصوص من الصوام صومهم *** صون اللسان عن البهتان والكذبِ
والعارفون وأهل الأنس صومهم *** صون القلوب عن الأغيار والحجبِ)
بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وتتميم
مكارم الأخلاق :
لقد حدد رسول الإسلام الغاية الأولى من بعثته ? والمنهاج المبين فى دعوته بقوله: "إنما بُعِثتُ لأتمم مكارم الأخلاق " .
فكأن الرسالة التى خطت مجراها فى تاريخ الحياة ? وبذل صاحبها جهدا كبيرا فى مد شعاعها وجمع الناس حولها ? لا تنشد أكثر من تدعيم فضائلهم ? وإنارة آفاق الكمال أمام أعينهم ? حتى يسعوا إليها على بصيرة..
وأركان الإسلام كذلك هدفها تحسين الأخلاق :
والعبادات التى شرعت فى الإسلام واعتبرت أركانا فى الإيمان به ليست طقوسا مبهمة من النوع الذى يربط الإنسان بالغيوب المجهولة ? ويكلفه بأداء أعمال غامضة وحركات لا معنى لها ? كلا فالفرائض التى ألزم الإسلام بها كل منتسب إليه ? هىتمارين متكررة لتعويد المرء أن يحيا بأخلاق صحيحة ? وأن يظل مستمسكا بهذه الأخلاق ? مهما تغيرت أمامه الظروف.. إنها أشبه بالتمارين الرياضية التى يُقبل الإنسان عليها بشغف ? ملتمسا من المداومة عليها عافية البدن وسلامة الحياة. والقرآن الكريم والسنة المطهرة ? يكشفان بوضوح عن هذه الحقائق. فالصلاة الواجبة عندما أمر الله بها أبان الحكمة من إقامتها ? فقال: " وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت/45]". فالإبعاد عن الرذائل ?
والتطهير من سوء القول وسوء العمل هو حقيقة الصلاة .
والزكاة المفروضة ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب ? بل هى أولا غرس لمشاعر الحنان والرأفة ? وتوطيد لعلاقات التعارف والألفة بين شتى الطبقات. وقد نص القرآن على الغاية من إخراج الزكاة بقوله: " خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة/103]". فتنظيف النفس من أدران النقص ? والتسامى بالمجتمع إلى مستوى أنبل هو الحكمة الأولى. ومن أجل ذلك وسع النبى صلى الله عليه وسلم فى دلالة كلمة الصدقة التى ينبغى أن يبذلها المسلم فقال: "تبسمك فى وجه أخيك صدقة ?وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة ? وإرشادك الرجل فى أرض الضلال لك صدقة ? وإماطتك الأذى والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة ? وإفراغك من دلوك فى دلو أخيك لك صدقة وبصرك للرجل الردىء البصر لك صدقة" .
وهذه التعاليم فى البيئة الصحراوية التى عاشت دهورا
على التخاصم والنزق تشير إلى الأهداف التى رسمها الإسلام ?
وقاد العرب فى الجاهلية المظلمة إليها.
وقد يحسب الإنسان أن السفر إلى البقاع المقدسة الذى كلف بها المستطيع واعتبر من فرائض الإسلام على بعض أتباعه يحسب الإنسان هذا السفر رحلة مجردة عن المعانى الخلقية ? ومثلا لما قد تحتويه الأديان أحيانا من تعبدات غيبية. وهذا خطأ ? إذ يقول الله تعالى فى الحديث عن هذه الشعيرة: " الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة/197]". هذا العرض المجمل لبعض العبادات التى اشتهر بها الإسلام ? وعرفت على أنها أركانه الأصيلة ? نستبين منه متانة الأواصر التى تربط الدين بالخلق. إنها عبادات متباينة فى جوهرها ومظهرها ? ولكنها تلتقى عند الغاية التى رسمها الرسول صلى الله عليه وسلم فى قوله:
"إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق ".
فالصلاة والصيام والزكاة والحج ? وما أشبه هذه الطاعات من تعاليم الإسلام ? هى مدارج الكمال المنشود ? وروافد التطهر الذى يصون الحياة ويعلى شأنها ? ولهذه السجايا الكريمة التى ترتبط نجها أو تنشأ عنها أعطيت منزلة كبيرة فى دين الله. فإذا لم يستفد المرء منها ما يزكى قلبه ? وينقى قلبه! ويهذب بالله وبالناس صلته فقد هوى. قال الله عز وجل: " إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى [طه/74-76]".
الأخلاق مقياس لدرجة إيمان العبد :
من منا يتصور أن يكون أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا، هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم " أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ، إذا أقمنا مسابقة بين المسلمين على تكملة الحديث، فقلنا لهم : أكملوا الحديث : " أكمل المؤمنين إيمانا....." كم منهم يتصور أن تكون التكملة أحسنهم خلقا،
ما علاقة الخلق بالإيمان؟
الإيمان قوة عاصمة عن الدنيا ? دافعة إلى المكرمات ومن ثم فإن الله عندما يدعو عباده إلى خير أو ينفرهم من شر ? يجعل ذلك مقتضى الإيمان المستقر فى قلوبهم. وما أكثر ما يقول فى كتابه: " يا أيها الذين آمنوا " ثم يذكر بعدُ ما يُكلفهم به: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة/119]" مثلا.. وقد وضح صاحب الرسالة أن الإيمان القوى يلد الخلق القوى حتما ? وأن انهيار الأخلاق مرده إلى ضعف الإيمان ? أو فقدانه ? بحسب تفاقم الشر أو تفاهته.. فالرجل الذى ينكب جيرانه ويرميهم بالسوء ? يحكم الدين عليه حكما قاسيا ? فيقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم :
" لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ولا يدخل رجل الجنة لا يأمن جاره بوائقه " وتجد الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يعلم أتباعه الإعراض عن اللغو ? ومجانبة الثرثرة والهذر يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت "
إن الأخلاق الفاضلة من نحو أعمال القلب والعقل والجوارح واللسان مثل صدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والرفق والرأفة، والدعاء، والذكر، وتلاوة القرآن، وكذلك حب اللّه ورسوله، وخشية اللّه والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك، كلها داخلة في مفهوم العبادة، وذلك أن العبادة هي الغاية المحبوبة للّه والمرضية له ، كما قال تعالى: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات/56] ". وبها أرسل اللّه جميع الرسل، كما قال نوح لقومه: " يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف/59] " والدين كله داخل في العبادة التي تتضمن غاية الذل للّه بغاية المحبة له ، ومن هنا تكون فضائل الأخلاق ومكارمها داخلة في إطار الدين وركنا أساسيا من أركانه.
إن هذه الأخلاق الإيمانية- كما أطلق عليها ابن تيمية- هي وجه من الوجوه التي يتفاضل فيها الناس فيما يتعلق بزيادة الإيمان ونقصه، يقول- رحمه اللّه تعالى-: من المعلوم بالذوق الذي يجده كل مؤمن أن الناس يتفاضلون في حب اللّه ورسوله وخشية اللّه، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والإخلاص له، وفي سلامة القلوب من الرياء، والكبر والعجب، والرحمة للخلق والنصح لهم، ونحو ذلك من الأخلاق الإيمانية، ومصداق هذا قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» .
الإيمان ومكارم الأخلاق :
يقول ابن تيمية- رحمه اللّه تعالى- ما خلاصته: «إذا كان الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب، وأنه لابد فيه من شيئين: الأول تصديق بالقلب وإقراره ومعرفته وهذا هو التوحيد، والآخر عمل القلب وهو التوكل على اللّه وحده ونحو ذلك من حب اللّه ورسوله، وحب ما يحب اللّه ورسوله، وإخلاص العمل للّه وحده، كانت أعمال القلب من الحب والإخلاص والخشية والتوكل ونحوها داخلة في الإيمان بهذا المعنى، وكانت الأخلاق الكريمة داخلة فيه أيضا، وأما البدن فلا يمكن أن يتخلى عن مراد القلب لأنه إذا كان في القلب معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، ولهذا قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله،
وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»
إن الإيمان بذلك هو مناط تكوين القيم الخلقية والاجتماعية ونحوها، وهو أيضا مصدر الإلزام الخلقي، لأنه هو المسيطر على كل غرائز الإنسان وشهواته، والمتحكم في أحاسيسه ودوافعه .
صاحب الخلق السيء في النار وإن كان
من الصوام القوام :
بعض المنتسبين إلى الدين ? قد يستسهلون أداء العبادات المطلوبة ويظهرون فى المجتمع العام بالحرص على إقامتها وهم فى الوقت نفسه يرتكبون أعمالا يأباها الخلق الكريم والإيمان الحق..
إن نبى الإسلام توعد هؤلاء الخالطين ? وحذر أمته منهم.
ذلك أن التقليد فى أشكال العبادات يستطيعه من لم يُشرب رُوحها ?
أو يرتفع لمستواها.
ربما قدر الطفل على محاكاة أفعال الصلاة وترديد كلماتها..
ربما تمكن الممثل من إظهار الخضوع وتصنع أهم المناسك..
كن هذا وذاك لا يغنيان شيئا عن سلامة اليقين ?ونبالة المقصد.
والحكم على مقدار الفضل وروعة السلوك يرجع إلى مسار لا يخطئ ?
وهو الخلق العالى! وفى هذا ورد عن النبى أن رجلا قال له : يا رسول الله ?
إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها غير أنها تؤذى جيرانها بلسانها.
فقال: "هى فى النار".
ثم قال : يا رسول الله فلانة تذكر من قلة صلاتها وصيامها ?
وأنها تتصدق "بالأثوار من الأقط " بالقطع من العجين ولا تؤذى جيرانها.
قال : "هى فى الجنة" !.
في هذه الإجابة تقدير لقيمة الخلق العالي،
وفيها كذلك تنويه بأن الصدقة عبادة اجتماعية ? يتعدى نفعها إلى الغير ?
ولذلك لم يفترض التقلل منها كما افترض التقلل من الصلاة والصيام ?
وهى عبادات شخصية في ظاهرها.
إن رسول الإسلام لم يكتف بإجابة على سؤال عارض ?
في الإبانة عن ارتباط الخلق بالإيمان الحق ? وارتباطه بالعبادة الصحيحة ?
وجعله أساس الصلاح في الدنيا والنجاة فى الأخرى.
إن أمر الخلق أهم من ذلك ?
ولابد من إرشاد متصل ? ونصائح متتابعة ليرسخ فى الأفئدة والأفكار ?
إن الإيمان والصلاح والأخلاق ? عناصر متلازمة متماسكة ?
لا يستطيع أحد تمزيق عراها.
لقد سأل أصحابه يوما : "أتدرون من المفلس؟ !
قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ? فقال: المفلس من أمتى من يأتى يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ? ويأتى وقد شتم هذا ? وقذف هذا ? وأكل مال هذا ? وسفك دم هذا ? وضرب هذا ? فيُعطى هذا من حسناته ? وهذا من حسناته ? فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه ?
أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ? ثم طرح فى النار".
ذلك هو المفلس : إنه كتاجر يملك فى محله بضائع بألف ? وعليه ديون قدرها ألفان ? كيف يُعد هذا المسكين غنيا؟ والمتدين الذى يباشر بعض العبادات ? ويبقى بعدها بادى الشر ? كالح الوجه ? قريب العدوان كيف يحسب امرءا تقيا؟
فإذا نمت الرذائل فى النفس ? وفشا ضررها ? وتفاقم خطرها ? انسلخ المرء من دينه كما ينسلخ العريان من ثيابه ? وأصبح ادعاؤه للإيمان زورا ? فما قيمة دين بلا خلق؟!! وما معنى الإفساد مع الانتساب لله؟!! وتقريرا لهذه المبادئ الواضحة فى صلة الإيمان بالخلق القويم ? يقول النبى الكريم صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من كن فيه فهو منافق ? وإن صام وصلى وحج واعتمر ? وقال إنى مسلم : إذا حدث كذب ? وإذا وعد أخلف ? وإذا أؤتمن خان " .
وقال فى رواية أخرى: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب ? وإذا وعد أخلف ? وإذا عاهد غدر ? وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم "! . وقال كذلك: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ? ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان ? وإذا حدث كذب ?
وإذا عاهد غدر ? وإذا خاصم فجر".
وروى أحمد وغيره أن رجلا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلس بين يديه فقال: "يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأضربهم وأسبهم فكيف أنا منهم؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يحسب ما خانوك وعصوك وما كذبوك وعقابك إياهم، فإن كان دون ذنوبهم كان فضلا لك عليهم وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل الذي بقي قبلك.
فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهتف، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما له ما يقرأ كتاب الله (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)؛ فقال الرجل: يا رسول الله ما أجد شيئًا خيرًا من فراق هؤلاء يعني عبيده، إني أشهدك أنهم أحرار كلهم ...
والسبب في كونه صاحب الخلق السيئ يسير على خطى النار أن
تدينه أولا تدين مغشوش، يأتي من الدين أسهله،
ويرسب أمام المحك العملي، وأيضا أنه يحرث في البحر، فيجمع الحسنات،
ثم يبددها بسوء خلقه كما بين حديث المفلس.
صاحب الخلق الحسن يسبق بحسن
خلقه الصوام القوام :
في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن المسلم المسدد ليدرك درجة الصوام القوام بآيات الله عز وجل لكرم ضريبته و حسن خلقه " .
وعن أسامة بن شريك قال: كنا جلوسا عند النبى صلى الله عليه وسلم كأنما على رءوسنا الطير ? ما يتكلم منا متكلم ? إذ جاءه أناس فقالوا: من أحب عباد الله إلى الله تعالى؟ قال: "أحسنكم خلقا" . وفى رواية: "ما خيرُ ما أُعطى الإنسان؟ قال: خلق حسن" . وعند مسلم : إن الله لا يحب التفحش"
وسئل: "أى المؤمنين أكمل إيمانا ؟ قال: أحسنهم خلقا" .
وعن عبد الله بن عمرو: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بأحبكم إلىَّ ? وأقربكم منى مجلسا يوم القيامة؟ فأعادها مرتين أو ثلاثا قالوا: نعم يا رسول الله. قال: أحسنكم خلقا " . وقال: "ما من شىء أثقل فى ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن ? إن الله يكره الفاحش البذىء.
وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة".
هذا التصريح لو صدر عن فيلسوف يشتغل بشئون الإصلاح الخلقى
فحسب لما كان مستغربا منه ?
إنما وجه العجب أن يصدر عن مؤسس دين كبير . والأديان عادة ترتكز فى حقيقتها الأولى على التعبد المحض. ونبى الإسلام دعا إلى عبادات شتى ? وأقام دولة ارتكزت على جهاد طويل ضد أعداء كثيرين ? فإذا كان مع سعة دينه ? وتشعب نواحى العمل أمام أتباعه يخبرهم بأن أرجح ما فى موازينهم يوم الحساب ? الخلق الحسن.
فإن دلالة ذلك على منزلة الخلق فى الإسلام لا تخفى..
والحق أن الدين إن كان خلقا حسنا بين إنسان وإنسان ? فهو فى طبيعته السماوية صلة حسنة بين الإنسان وربه ? وكلا الأمرين يرجع إلى حقيقة واحدة. إن هناك أديانا تبشر بأن اعتناق عقيدة ما ? يمحو الذنوب ? وأن أداء طاعة معينة يمسح الخطايا. لكن الإسلام لا يقول هذا ? إلا أن تكون العقيدة المعتنقة محورا لعمل الخير. وأداء الواجب ? وأن تكون الطاعة المقترحة غسلا من
السوء. وإعدادا للكمال المنشود ? أى أنه لا يمحق السيئات إلا الحسنات التى يضطلع بها الإنسان ?ويرقى صعدا ? إلى مستوى أفضل. وقد حرص النبى على توكيد هذه المبادئ العادلة ? حتى تتبينها أمته جيدا ?
فلا تهون لديها قيمة الخلق ?وترتفع قيمة الطقوس .
عن عبد اللّه بن مسعود- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ألا أخبركم بمن يحرم على النّار أو بمن تحرم عليه النّار: على كلّ قريب هيّن سهل حسن الخلق يصلح ما بين الإنسان وبين النّاس .
عن أبي هريرة- رضي الله عنه "أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله
و حسن الخلق و أكثر ما يدخل الناس النار"
عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "والّذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتّى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتّى يأمن جاره بوائقه»، قالوا: وما بوائقه يا نبيّ اللّه! قال: «غشمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدّق به فيقبل منه، ولا يترك خلف ظهره إلّا كان زاده إلى النّار.
إنّ اللّه- عزّ وجلّ- لا يمحو السّيّء بالسّيّء ولكن يمحو السّيّء بالحسن،
إنّ الخبيث لا يمحو الخبيث»
رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل
الناس خلقا :
وحسن الخلق لا يؤسس فى المجتمع بالتعاليم المرسلة ? أو الأوامر والنواهى المجردة ? إذ لا يكفى فى طبع النفوس على الفضائل أن يقول المعلم لغيره : فعل كذا ? أو لا تفعل كذا . فالتأديب المثمر يحتاج إلى تربية طويلة ? ويتطلب تعهدا مستمرا. ولن تصلح تربية إلا إذا اعتمدت على الأسوة الحسنة ? فالرجل السيئ لا يترك فى نفوس من حوله أثراً طيبا. وإنما يتوقع الأثر الطيب ممن تمتد العيون إلى شخصه ? فيروعها أدبه ? ويسببها نبله ? وتقتبس بالإعجاب المحض من خلاله ? وتمشى بالمحبة الخالصة فى آثاره .
بل لابد ليحصل التابع على قدر كبير من الفضل أن
يكون فى متبوعه قدر أكبر ? وقسط أجل.
وقد كان رسول الإسلام بين أصحابه مثلاً أعلى للخلق الذى يدعو إليه ? فهو يغرس بين أصحابه هذا الخلق السامى ? بسيرته العاطرة ? قبل أن يغرسه بما يقول من حكم وعظات. روى أحمد بسنده عن أبي عبد الله الجدلي، قال قلت لعائشة: كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهله ؟
قالت: " كان أحسن الناس خلقا،
لم يكن فاحشا ، ولا متفحشا ، ولا سخابا بالأسواق،
ولا يجزئ بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح"
ففي الرفق والتواضع واللين، نجد :
حرصه على أن يكون واحدًا كآحاد الناس، ما روته عائشة قالت: قلت: يا رسول الله! كل -جعلني الله فداك- متكئا؛ فإنه أهون عليك. فأحنى رأسه حتى كاد أن تصيب جبهته الأرض وقال: آكل كما يأكل العبد وأجلس
كما يجلس العبد فإنما أنا عبد.
ومما جاء من مشاركته أصحابه في معايشهم، ما جاء عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال : كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزاة، فأبطأ بي جملي وأعيا، فأتى على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "جابر". فقلت: نعم. قال: "ما شأنك". قلت: أبطأ عليَّ جملي وأعيا، فتخلفت. فنزل يحجنه بمحجنه، ثم قال: "اركب .
وقد كان -صلى الله عليه وسلم- سهلا لينا، يمكن لأي أحد أن يسأله ما يشاء حتى لو كانت حاجته صغيرة؛ فعن أنس بن مالك قال كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت.
وفي كظمه غيظه ، نجد - عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كنت أمشى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته،
ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك.
فالتفت إليه، فضحك ثم أمر له بعطاء.
وفي الصحيحين أن أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: بينما نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقسم قسمًا أتاه ذو الخويصرة -وهو رجل من بني تميم- فقال: يا رسول الله اعدل.
فقال: "ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل،
قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل".
وفي سهولته ولين عريكته وتسامحه، نجد في صحيحي البخاري ومسلم: "استأذن عمر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه، عالية أصواتهن، فلما استأذن عمر، قمن يبتدرن الحجاب، فأذن له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله. قال: "عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب". قال عمر: فأنت يا رسول الله كنت أحق أن يهبن. ثم قال: أي عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قلن: نعم،
أنت أفظ وأغلظ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
هل الأخلاق قابلة للاكتساب :
قال ابن قدامة المقدسي في مختصر منهاج القاصدين:
زعم بعض من غلبت عليه البطالة فاستثقل الرياضة،
أن الأخلاق لا يتصور تغييرها،
كما لا يتصور تغيير صورة الظاهر .
والجواب : أنه لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لم يكن للمواعظ والوصايا معنى، وكيف تنكر تغيير الأخلاق ونحن نرى الصيد الوحشي يستأنس، والكلب يعلم ترك الأكل، والفرس تعلم حسن المشي وجودة الانقياد، إلا أن بعض الطباع سريعة القبول للصلاح، وبعضها مستصعبة . وأما خيال من اعتقد أن ما في الجبلة لا يتغير، فاعلم أنه ليس المقصود قمع هذه الصفات بالكلية، وإنما المطلوب من الرياضة رد الشهوة إلى الاعتدال الذي هو وسط بين الإفراط والتفريط، وأما قمعها بالكلية فلا، كيف والشهوة إنما خلقت لفائدة ضرورية في الجبلة، ولو انقطعت شهوة الطعام لهلك الإنسان، أو شهوة الوقاع لانقطع النسل، ولو انعدم الغضب بالكلية، لم يدفع الإنسان عن نفسه ما يهلكه، وقد قال الله تعالى : { أشداء على الكفار } [ الفتح : 29 ] ولا تصدر الشدة إلا عن الغضب، ولو بطل الغضب لامتنع جهاد الكفار، وقال تعالى : { والكاظمين الغيظ } [ آل عمران : 134 ] ولم يقل : الفاقدين الغيظ . وكذلك المطلوب في شهوة الطعام الاعتدال دون الشره والتقلل : قال الله تعالى : { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } [ الأعراف : 31 ] إلا أن الشيخ المرشد للمريد إذا رأى له ميلاً إلى الغضب أو الشهوة، حسن أن يبالغ في ذمها على الطلاق ليرده إلى التوسط، ومما يدل على أن المراد من الرياضة الاعتدال أن السخاء خلق مطلوب شرعاً وهو وسط بين طرفي التقتير والتبذير وقد أثنى الله عليه بقوله :
{ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما }
[ الفرقان : 67 ] .
واعلم : أن هذا الاعتدال . تارة يحصل بكمال الفطرة منحة من الخلق، فكم من صبى يخلق صادقاً سخياً حليماً، وتارة يحصل بالاكتساب، وذلك بالرياضة، وهى حمل النفس على الأعمال الجالبة للخلق المطلوب ، فمن أراد تحصيل خلق الجود فليتكلف فعل الجود من البذل ليصير ذلك طبعاً له . وكذلك من أراد التواضع تكلف أفعال المتواضعين، وكذلك جميع الأخلاق المحمودة فإن للعادة أثراً في ذلك، كما أن من أراد أن يكون كاتباً تعاطى فعل الكتابة، أو فقيهاً تعاطى فعل الفقهاء من التكرار، حتى ينعطف على قلبه صفة الفقه، إلا أنه لا ينبغي أن يطلب تأثير ذلك في يومين أو ثلاثة، وإنما يؤثر مع الدوام، كما لا يطلب في النمو علو القامة في يومين أو ثلاثة، وللدوام تأثير عظيم . وكما لا ينبغي أن يستهان بقليل الطاعات، فإن دوامها يؤثر، وكذلك لا يستهان بقليل من الذنوب . كما أن تعاطى أسباب الفضائل يؤثر في النفس ويغير طبعها، فكذلك مساكنة الكسل أيضاً يصير عادة، فيحرم بسببه كل خير . وقد تكتسب الأخلاق الحسنة بمصاحبة أهل الخير، فإن الطبع لص يسرق الخير والشر . قلت : ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم : " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " .
الطريق إلى تهذيب الأخلاق :
قد عرفت أن الاعتدال في الأخلاق هو الصحة في النفس، والميل عن الاعتدال سقم ومرض، فاعلم أن مثال النفس في علاجها كالبدن في علاجه، فكما أن البدن لا يخلق كاملاً، وإنما يكمل بالتربية والغذاء، كذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال، وإنما تكمل بالتزكية وتهذيب الأخلاق، والتغذية بالعلم . وكما أن البدن إذا كان صحيحاً، فشأن الطبيب العمل على حفظ الصحة، وإن كان مريضاً، فشأنه جلب الصحة إليه، كذلك النفس إذا كانت زكية طاهرة مهذبة الخلاق، فينبغي أن يسعى بحفظها وجلب مزيد القوة إليها، وإن كانت عديمة الكمال، فينبغي أن يسعى بجلب ذلك إليه . وكما أن العلة الموجبة لمرض البدن لا تعالج إلا بضدها، إن كانت من حرارة فبالبرودة وإن كانت من البرودة فبالحرارة، فكذلك الأخلاق الرذيلة التي هي من مرض القلب، علاجها بضدها، فيعالج مرض الجهل بالعلم، ومرض البخل بالسخاء، ومرض الكبر بالتواضع، ومرض الشره بالكف عن المشتهى . وكما أنه لابد من احتمال مرارة الدواء، وشدة الصبر عن المشتهيات لصلاح الأبدان المريضة، فكذلك لابد من احتمال المجاهدة، والصبر على مداومة مرض القلب بل أولى، فإن مرض البدن يخلص منه بالموت، ومرض القلب عذاب يدوم بعد الموت أبداً وينبغى للذي يطبُّ نفوس المريدين أن لا يهجم عليهم بالرياضة في فن مخصوص، حتى يعرف أخلاقهم وأمراضهم، إذ ليس علاج كل مريض واحداً، فإذا رأى جاهلاً بالشرع علمه، وإذا رأى متكبراً حمله على ما يوجب التواضع، أو شديد الغضب ألزمه الحلم . وأشد حاجة الرائض لنفسه، قوة العزم، فمتى كان متردداً بعد فلاحه، ومتى أحس من نفسه ضعف العزم تصبر، فإذا انقضت عزيمتها عاقبها لئلا تعاود، كما قال رجل لنفسه : تتكلمين فيما لا يعنيك ؟ لأعاقبنك بصوم سنة .
الحدود على الجرائم الخلقية :
الإكراه على الفضيلة لا يصنع الإنسان الفاضل ? كما أن الإكراه على الإيمان لا يصنع الإنسان المؤمن؟ فالحرية النفسية والعقلية أساس المسئولية. والإسلام يقدر هذه الحقيقة ويحترمها ? وهو يبنى صرح الأخلاق. ولماذا يلجأ إلى القسر فى تعريف الإنسان معنى الخير ? أو توجيه سلوكه إليه ? وهو يحسن الظن بالفطرة الإنسانية ? ويرى أن إزاحة العوائق من أمامها كافية لإيجاد جيل فاضل؟
إن فطرة الإنسان خيرة وليس معنى هذا أنه ملاك لا يحسن إلا الخير ? بل معنى هذا أن الخير يتواءم مع طبيعته الأصيلة ? وأنه يُؤثر اعتناقه والعمل به كما يُؤثر الطير التحليق ? إذا تخلص من قيوده وأثقاله. فالعمل الصحيح فى نظر الإسلام هو تحطيم القيود وإزالة الأثقال أولا ? فإذا جثم الإنسان على الأرض بعدئذ ? ولم يستطع سموا ? نُظر إليه على أنه مريض ? ثم يُسرت له أسباب الشفاء. ولن يصدر الإسلام حكما يعزل هذا الإنسان عن المجتمع إلا يوم يكون بقاؤه فيه مثار شر على الآخرين. فى حدود هذه الدائرة يحارب الإسلام الجرائم الخلقية ? فهو يفترض ابتداء أن الإنسان يحيا أن يعيش من طريق شريف ? وأن يحيا على ثمرات كفاحه وجهده الخاص أى أنه لا يبنى كيانه على السرقة. ما الذى يحمله على السرقة؟ احتياجه إلى ما يقيم أوده؟ فليوفر له من الضرورات والمرفهات ما يغنيه عن ذلك. وتلك فريضة على المجتمع ? إن قصر فيها فألجأ فردا إلى السرقة ? فالجريمة هنا يقع وزرها على المجتمع المفرط ? لا على الفرد المضيع. فإن كفلت للفرد ضروراته ثم مد بعد ذلك يده ? محصت حالته جيدا قبل إيقاع العقوبة عليه ? فلعل هناك شبهة تثبت أن فيه
عرقا ينبض بالخير ? والإبطاء فى العقاب مطلوب دينا .
فإذا تبين من تتبيع أحوال الشخص أن فطرته الْتَاثَتْ ? وأنه أصبح مصدر عدوان على البيئة التى كلفته وآوته ? وأنه قبال عطفها وعنايتها ? بتعكير صفوها وإقلاق أمنها ? فلا ملام على هذه البيئة إذا حدت من عدوان أحد أفرادها ? فكسرت السلاح الذى يؤذى به غيره. وقد وصف القرآن اللصوصية التى تستحق قطع اليد ? بأنها لصوصية الظلم والإفساد ? وقال فى هذا السارق المعاقب: "فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم". فالحد الذى شرعه الإسلام ? هو وقاية للجماعة العادلة المصلحة ? من ضراوة عضو فيها ? يقابل عدالتها بالظلم ? ويقابل إصلاحها بالفساد.
ذلك مثل نسوقه لنبين به أن الحدود على الجرائم الخلقية لم تشرع إكراها على الفضيلة ? وإلجاء للناس بطريق القسوة إلى اتخاذ المسلك الحسنة. فالطريقة المثلى لدى الإسلام هى خطاب القلب الإنسانى ? واستثارة أشواقه الكامنة إلى السمو والكمال ? ورجعه إلى الله بارئه الأعلى ? بأسلوب من الإقناع والمحبة ? وتعليقه بالفضائل الجليلة على أنها الثمرة الطبيعية لهذا كله..
دائرة الأخلاق تشمل المسلم وغير المسلم
قد تكون لكل دين شعائر خاصة به ? تعتبر سمات مميزة له. ولا شك أن فى الإسلام طاعات معينة ? ألزم بها أتباعه ?
وتعتبر فيما بينهم أمورا مقررة لا صلة لغيرهم بها.
غير أن التعاليم الخلقية ليست من هذا القبيل " فالمسلم مكلف أن يلقى أهل الأرض قاطبة بفضائل لا ترقى إليها شبهة ? فالصدق واجب على المسلم مع المسلم وغيره ? والسماحة والوفاء والمروءة والتعاون والكرم.. الخ. وقد أمر القرآن الكريم ألا نتورط مع اليهود أو النصارى فى مجادلات تهيج الخصومات ولا تجدى الأديان شيئا. قال الله تعالى : " وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [العنكبوت/46]". واستغرب من أتباع موسى وعيسى أن يشتبكوا مع المسلمين فى منازعات من هذا النوع الحاد :
" قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ
وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة/139]".
وقد أمر الإسلام بالعدل ولو مع فاجر أو كافر. قال عليه الصلاة والسلام: "دعوة المظلوم مُستجابة ? وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه ".
وقال: "دعوة المظلوم
وإن كان كافرا ليسن دونها حجاب ?
وبهذه النصوص ? مَنع الإسلام أبناءه أن يقترفوا أية إساءة نحو مخالفيهم فى الدين. ومن آيات حسن الخلق مع أهل الأديان الأخرى ما ورد عن ابن عمر: أنه ذبحت له شاة فى أهله ? فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودى؟
أهديتم لجارنا اليهودى؟. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه. "
وكذلك أمر الإسلام أن يصل الإنسان رحمه ? ولو كفروا بدينه الذى اعتنقه ? فإن التزامه للحق لا يعنى المجافاة للأهل : " وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان/15]".
ذلك من الناحية الشخصية. أما من الناحية العامة ? فقد قرر الإسلام أن بقاء
الأمم وازدهار حضارتها ? واستدامة منعتها ? إنما يُكفل لها ? إذا ضمنت حياة الأخلاق فيها ? فإذا سقطت الخلق سقطت الدولة معه. وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا ويؤكد هذه الحقيقة حديث الرسول لقومه وعشيرته ? فقد رشحتهم مكانتهم فى جزيرة العرب لسيادتها ? وتولى مقاليد الحكم بها. ولكن النبى أفهمهم ألا دوام لملكهم إلا بالخلق وحده. فعن أنس بن مالك قال: "كنا فى بيت فيه نفر من المهاجرين والأنصار ? فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ? فجعل كل رجل يوسع رجاء أن يجلس إلى جنبه.. ثم قام إلى الباب فأخذ بعضادتيه ? فقال: الأئمة من قريش ? ولى عليكم حق عظيم ? ولهم ذلك ما فعلوا ثلاثا: إذا استُرْحموا رَحموا ?
وإذا حكموا عد لوا ? وإذا عاهدوا وفوا ?
فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " .
هذا الحديث حاسم فى أنه لا مكانة لأمة ولا لدولة ولا لأسرة إلا بمقدار ما تمثل فى العالم من صفات عالية ? وما تحقق من أهداف كريمة. فلو أن حكما حمل طابع الإسلام والقرآن ? ثم نظر الناس إليه فوجدوه لا يعدل فى قضية ? ولا يرحم فى حاجة ? ولا يوفى فى معاهدة ? فهو باسم الإسلام والقرآن قد انسلخ عن مقوماته الفضالة ?
وأصبح أهلا لأن يعن فى فجاج الأرض وآفاق السماء.
ومن أقوال الإمام ابن تيمية: "إن الله يقيم الدولة العادلة ? وإن كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة ? وإن كانت مسلمة" . إن الخلق فى منابع الإسلام الأولى من كتاب وسنة هو الدين كله ? وهو الدنيا كلها ? فإن نقصت أمة حظا من رفعة فى صلتها بالله ? أو فى مكانتها بين الناس فبقدر نقصان فضائلها وانهزام خلقها.
إسلام العبادات لا يفيد الآخرين شيئا،
فنفعه مقصور على صاحبه :
قال ابن القيّم- رحمه اللّه-: «جمع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بين تقوى اللّه وحسن الخلق، لأنّ تقوى اللّه تصلح ما بين العبد وبين ربّه وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه. فتقوى اللّه توجب له محبّة اللّه
وحسن الخلق يدعو النّاس إلى محبّته"
قال الماورديّ- رحمه اللّه-: «اذا حسنت أخلاق الإنسان كثر مصافوه، وقلّ معادوه، فتسهلّت عليه الامور الصّعاب، ولانت له القلوب الغضاب)
المسلم مهما يأتي من أبواب العبادات والقرب المحضة ، من صلاة وصيام وذكر ودعاء، فهو لا ينفع إلا نفسه بذلك، ولا يشعر من حوله ولا يستفيد بنسكه شيئا، فإذا أثمرت هذه العبادات سلوكا من الرحمة واللين وخدمة إخوانه وقضاء مصالحهم والبشاشة في وجوههم شعروا بإسلامه، وكان سلو كه هذا دعوة إلى الإسلام، كما حدث مع المسلمين التجار في فتح غرب إفريقيا.
"إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ،
ودع أذى الجار ، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ،
ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء"
الصيام صيام الجوارح ووسيلة لتحسين الأخلاق :
شرع الإسلام الصوم ? فلم ينظر إليه على أنه حرمان مؤقت من بعض الأطعمة والأشربة ? بل اعتبره خطوة إلى حرمان النفس دائما من شهواتها المحظورة ونزواتها المنكورة. وإقرارا لهذا المعنى قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " من لم يدع قول الزور ? والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه " وقال: "ليس الصيام من الأكل والشرب ? إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سابك أحد ? أو تجهل عليك ? فقل: إنى صائم " . والقرآن الكريم يذكر ثمرة الصوم بقوله : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة/183]".
ويقول صلَّى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:
(فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل؛
فإن سابَّه أحد أو شاتمه فليقل:إني صائم)
وإذا كبَح الصوم المعاصي نال العبد منزلة راقية في العبودية لله ؛ لأنَّ الصوم ـ الذي يراد به مجرد الإمساك عن الطعام والشراب ـ يستطيعه كثير من الناس ، بيدَ أنَّه ـ سبحانه ـ أراد من عباده أن يكون صومهم منقياً لهم من المعاصي وما دار في فلكها، وقد ذكر الإمام ابن حجر العسقلاني أنَّ العلماء:" اتفقوا أنَّ المراد بالصيام صيام من سلم صيامه من المعاصي قولاً وفعلاً "
والحقيقة أنَّ الناس انقسموا في الصيام إلى عدَّة أقسام: فمنهم من يكون صيامه الإمساك عن الأكل والشرب فقط ، إلاَّ أنَّه مرتكب للفواحش مطلق بصرَه لما حرَّم الله من النظر إلى النساء غير المحارم، وبعضهم قد أرخى لأذنه لكي تستمع للأغاني المحرمة ، ولا يخفى على ذي لبٍّ ما فيها من الفسق والكلام الفاحش ، وبعضهم أطلق لفمه العنان بالكلام الساقط، والعبارات الرذيلة، والغيبة والنميمة، وشهادة الزور والكذب؛ فهل هذا صيام من أراد جنَّة الرضوان ؟!
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وهو الصادق المصدوق حيث يقول:"رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ، ورب قائم حظُّه من قيامه السهر"
إذا لم يكن في السمع مني تصاون * وفي بصري غضٌّ وفي منطقي صمت
فحظِّي إذاً من صومي الجوع والظما * فإن قلت: إني صمت يومي فما صمت
ولهذا فإنَّ هؤلاء الذين فرَّطوا بصيامهم يعتبرون محرومين في شهر الصوم ، مفلسين في شهر الجود والإحسان ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم مرَّة لأصحابه :" أتدرون ما المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال : إن المفلس من أمتي، يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا، وضرب هذا . فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته . فإن فنيت حسناته ، قبل أن يقضى ما عليه ، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه . ثم طرح في النار"
لا معنى لظاهر الصيام إن لم تتأدب النفوس:
من صام في نهار رمضان، ولم يصم لسانه من غيبة الآخرين وهتك أعراضهم، ولم تصم يده من إيذاء الآخرين والنيل منهم، ولم يصم قلبه من الأحقاد والغلِّ على إخوانه المسلمين، فإنَّ صيامه ناقص، وفيه تفريط كبير لحدود الله.
وممَّا يعجب له المطَّلع على أحوال بعض العوام حيث يحفظ هؤلاء حديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهنَّ ) ثم يقفون عند هذا الحدِّ، وينسون أو يتناسون تكملة
هذا الحديث إذا اجتنبت الكبائر).
فليدرك الإنسان نفسه ، وليجدد توبته لربه، وليبتعد عن منكرات الأخلاق والأقوال والأعمال؛ فإنَّ رسول الهدى ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول في الحديث الصحيح: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه).
وما معنى حقيقة الصيام إن كان المرء يصوم عن الطعام والشراب، ولكنَّه لا يصوم عن السباب والفحش والبذاءة باللسان، ولا يصوم عن غض البصر عمَّا حرَّم الله؟!
ذكر الإمام ابن رجب ـ رحمه الله ـ أنَّ بعض السلف قال:" أهون الصيام ترك الشراب والطعام، وقال جابر رضي الله عنهما: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ، ودع أذى الجار ، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء!!"
يقول الإمام ابن رجب (فصيامنا هذا يحتاج إلى استغفار نافع، وعمل صالح له شافع، كم نخرق صيامنا بسهام الكلام ، ثمَّ نرقعه ، وقد اتسع الخرق على الراقع، والمقصود أنَّ من أراد الصوم الحقيقي فليحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى ، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته:
أهل الخصوص من الصوام صومهم *** صون اللسان عن البهتان والكذبِ
والعارفون وأهل الأنس صومهم *** صون القلوب عن الأغيار والحجبِ)
بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وتتميم
مكارم الأخلاق :
لقد حدد رسول الإسلام الغاية الأولى من بعثته ? والمنهاج المبين فى دعوته بقوله: "إنما بُعِثتُ لأتمم مكارم الأخلاق " .
فكأن الرسالة التى خطت مجراها فى تاريخ الحياة ? وبذل صاحبها جهدا كبيرا فى مد شعاعها وجمع الناس حولها ? لا تنشد أكثر من تدعيم فضائلهم ? وإنارة آفاق الكمال أمام أعينهم ? حتى يسعوا إليها على بصيرة..
وأركان الإسلام كذلك هدفها تحسين الأخلاق :
والعبادات التى شرعت فى الإسلام واعتبرت أركانا فى الإيمان به ليست طقوسا مبهمة من النوع الذى يربط الإنسان بالغيوب المجهولة ? ويكلفه بأداء أعمال غامضة وحركات لا معنى لها ? كلا فالفرائض التى ألزم الإسلام بها كل منتسب إليه ? هىتمارين متكررة لتعويد المرء أن يحيا بأخلاق صحيحة ? وأن يظل مستمسكا بهذه الأخلاق ? مهما تغيرت أمامه الظروف.. إنها أشبه بالتمارين الرياضية التى يُقبل الإنسان عليها بشغف ? ملتمسا من المداومة عليها عافية البدن وسلامة الحياة. والقرآن الكريم والسنة المطهرة ? يكشفان بوضوح عن هذه الحقائق. فالصلاة الواجبة عندما أمر الله بها أبان الحكمة من إقامتها ? فقال: " وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت/45]". فالإبعاد عن الرذائل ?
والتطهير من سوء القول وسوء العمل هو حقيقة الصلاة .
والزكاة المفروضة ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب ? بل هى أولا غرس لمشاعر الحنان والرأفة ? وتوطيد لعلاقات التعارف والألفة بين شتى الطبقات. وقد نص القرآن على الغاية من إخراج الزكاة بقوله: " خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة/103]". فتنظيف النفس من أدران النقص ? والتسامى بالمجتمع إلى مستوى أنبل هو الحكمة الأولى. ومن أجل ذلك وسع النبى صلى الله عليه وسلم فى دلالة كلمة الصدقة التى ينبغى أن يبذلها المسلم فقال: "تبسمك فى وجه أخيك صدقة ?وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة ? وإرشادك الرجل فى أرض الضلال لك صدقة ? وإماطتك الأذى والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة ? وإفراغك من دلوك فى دلو أخيك لك صدقة وبصرك للرجل الردىء البصر لك صدقة" .
وهذه التعاليم فى البيئة الصحراوية التى عاشت دهورا
على التخاصم والنزق تشير إلى الأهداف التى رسمها الإسلام ?
وقاد العرب فى الجاهلية المظلمة إليها.
وقد يحسب الإنسان أن السفر إلى البقاع المقدسة الذى كلف بها المستطيع واعتبر من فرائض الإسلام على بعض أتباعه يحسب الإنسان هذا السفر رحلة مجردة عن المعانى الخلقية ? ومثلا لما قد تحتويه الأديان أحيانا من تعبدات غيبية. وهذا خطأ ? إذ يقول الله تعالى فى الحديث عن هذه الشعيرة: " الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة/197]". هذا العرض المجمل لبعض العبادات التى اشتهر بها الإسلام ? وعرفت على أنها أركانه الأصيلة ? نستبين منه متانة الأواصر التى تربط الدين بالخلق. إنها عبادات متباينة فى جوهرها ومظهرها ? ولكنها تلتقى عند الغاية التى رسمها الرسول صلى الله عليه وسلم فى قوله:
"إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق ".
فالصلاة والصيام والزكاة والحج ? وما أشبه هذه الطاعات من تعاليم الإسلام ? هى مدارج الكمال المنشود ? وروافد التطهر الذى يصون الحياة ويعلى شأنها ? ولهذه السجايا الكريمة التى ترتبط نجها أو تنشأ عنها أعطيت منزلة كبيرة فى دين الله. فإذا لم يستفد المرء منها ما يزكى قلبه ? وينقى قلبه! ويهذب بالله وبالناس صلته فقد هوى. قال الله عز وجل: " إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى [طه/74-76]".
الأخلاق مقياس لدرجة إيمان العبد :
من منا يتصور أن يكون أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا، هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم " أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ، إذا أقمنا مسابقة بين المسلمين على تكملة الحديث، فقلنا لهم : أكملوا الحديث : " أكمل المؤمنين إيمانا....." كم منهم يتصور أن تكون التكملة أحسنهم خلقا،
ما علاقة الخلق بالإيمان؟
الإيمان قوة عاصمة عن الدنيا ? دافعة إلى المكرمات ومن ثم فإن الله عندما يدعو عباده إلى خير أو ينفرهم من شر ? يجعل ذلك مقتضى الإيمان المستقر فى قلوبهم. وما أكثر ما يقول فى كتابه: " يا أيها الذين آمنوا " ثم يذكر بعدُ ما يُكلفهم به: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة/119]" مثلا.. وقد وضح صاحب الرسالة أن الإيمان القوى يلد الخلق القوى حتما ? وأن انهيار الأخلاق مرده إلى ضعف الإيمان ? أو فقدانه ? بحسب تفاقم الشر أو تفاهته.. فالرجل الذى ينكب جيرانه ويرميهم بالسوء ? يحكم الدين عليه حكما قاسيا ? فيقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم :
" لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ولا يدخل رجل الجنة لا يأمن جاره بوائقه " وتجد الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يعلم أتباعه الإعراض عن اللغو ? ومجانبة الثرثرة والهذر يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت "
إن الأخلاق الفاضلة من نحو أعمال القلب والعقل والجوارح واللسان مثل صدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والرفق والرأفة، والدعاء، والذكر، وتلاوة القرآن، وكذلك حب اللّه ورسوله، وخشية اللّه والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك، كلها داخلة في مفهوم العبادة، وذلك أن العبادة هي الغاية المحبوبة للّه والمرضية له ، كما قال تعالى: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات/56] ". وبها أرسل اللّه جميع الرسل، كما قال نوح لقومه: " يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف/59] " والدين كله داخل في العبادة التي تتضمن غاية الذل للّه بغاية المحبة له ، ومن هنا تكون فضائل الأخلاق ومكارمها داخلة في إطار الدين وركنا أساسيا من أركانه.
إن هذه الأخلاق الإيمانية- كما أطلق عليها ابن تيمية- هي وجه من الوجوه التي يتفاضل فيها الناس فيما يتعلق بزيادة الإيمان ونقصه، يقول- رحمه اللّه تعالى-: من المعلوم بالذوق الذي يجده كل مؤمن أن الناس يتفاضلون في حب اللّه ورسوله وخشية اللّه، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والإخلاص له، وفي سلامة القلوب من الرياء، والكبر والعجب، والرحمة للخلق والنصح لهم، ونحو ذلك من الأخلاق الإيمانية، ومصداق هذا قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» .
الإيمان ومكارم الأخلاق :
يقول ابن تيمية- رحمه اللّه تعالى- ما خلاصته: «إذا كان الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب، وأنه لابد فيه من شيئين: الأول تصديق بالقلب وإقراره ومعرفته وهذا هو التوحيد، والآخر عمل القلب وهو التوكل على اللّه وحده ونحو ذلك من حب اللّه ورسوله، وحب ما يحب اللّه ورسوله، وإخلاص العمل للّه وحده، كانت أعمال القلب من الحب والإخلاص والخشية والتوكل ونحوها داخلة في الإيمان بهذا المعنى، وكانت الأخلاق الكريمة داخلة فيه أيضا، وأما البدن فلا يمكن أن يتخلى عن مراد القلب لأنه إذا كان في القلب معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، ولهذا قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله،
وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»
إن الإيمان بذلك هو مناط تكوين القيم الخلقية والاجتماعية ونحوها، وهو أيضا مصدر الإلزام الخلقي، لأنه هو المسيطر على كل غرائز الإنسان وشهواته، والمتحكم في أحاسيسه ودوافعه .
صاحب الخلق السيء في النار وإن كان
من الصوام القوام :
بعض المنتسبين إلى الدين ? قد يستسهلون أداء العبادات المطلوبة ويظهرون فى المجتمع العام بالحرص على إقامتها وهم فى الوقت نفسه يرتكبون أعمالا يأباها الخلق الكريم والإيمان الحق..
إن نبى الإسلام توعد هؤلاء الخالطين ? وحذر أمته منهم.
ذلك أن التقليد فى أشكال العبادات يستطيعه من لم يُشرب رُوحها ?
أو يرتفع لمستواها.
ربما قدر الطفل على محاكاة أفعال الصلاة وترديد كلماتها..
ربما تمكن الممثل من إظهار الخضوع وتصنع أهم المناسك..
كن هذا وذاك لا يغنيان شيئا عن سلامة اليقين ?ونبالة المقصد.
والحكم على مقدار الفضل وروعة السلوك يرجع إلى مسار لا يخطئ ?
وهو الخلق العالى! وفى هذا ورد عن النبى أن رجلا قال له : يا رسول الله ?
إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها غير أنها تؤذى جيرانها بلسانها.
فقال: "هى فى النار".
ثم قال : يا رسول الله فلانة تذكر من قلة صلاتها وصيامها ?
وأنها تتصدق "بالأثوار من الأقط " بالقطع من العجين ولا تؤذى جيرانها.
قال : "هى فى الجنة" !.
في هذه الإجابة تقدير لقيمة الخلق العالي،
وفيها كذلك تنويه بأن الصدقة عبادة اجتماعية ? يتعدى نفعها إلى الغير ?
ولذلك لم يفترض التقلل منها كما افترض التقلل من الصلاة والصيام ?
وهى عبادات شخصية في ظاهرها.
إن رسول الإسلام لم يكتف بإجابة على سؤال عارض ?
في الإبانة عن ارتباط الخلق بالإيمان الحق ? وارتباطه بالعبادة الصحيحة ?
وجعله أساس الصلاح في الدنيا والنجاة فى الأخرى.
إن أمر الخلق أهم من ذلك ?
ولابد من إرشاد متصل ? ونصائح متتابعة ليرسخ فى الأفئدة والأفكار ?
إن الإيمان والصلاح والأخلاق ? عناصر متلازمة متماسكة ?
لا يستطيع أحد تمزيق عراها.
لقد سأل أصحابه يوما : "أتدرون من المفلس؟ !
قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ? فقال: المفلس من أمتى من يأتى يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ? ويأتى وقد شتم هذا ? وقذف هذا ? وأكل مال هذا ? وسفك دم هذا ? وضرب هذا ? فيُعطى هذا من حسناته ? وهذا من حسناته ? فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه ?
أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ? ثم طرح فى النار".
ذلك هو المفلس : إنه كتاجر يملك فى محله بضائع بألف ? وعليه ديون قدرها ألفان ? كيف يُعد هذا المسكين غنيا؟ والمتدين الذى يباشر بعض العبادات ? ويبقى بعدها بادى الشر ? كالح الوجه ? قريب العدوان كيف يحسب امرءا تقيا؟
فإذا نمت الرذائل فى النفس ? وفشا ضررها ? وتفاقم خطرها ? انسلخ المرء من دينه كما ينسلخ العريان من ثيابه ? وأصبح ادعاؤه للإيمان زورا ? فما قيمة دين بلا خلق؟!! وما معنى الإفساد مع الانتساب لله؟!! وتقريرا لهذه المبادئ الواضحة فى صلة الإيمان بالخلق القويم ? يقول النبى الكريم صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من كن فيه فهو منافق ? وإن صام وصلى وحج واعتمر ? وقال إنى مسلم : إذا حدث كذب ? وإذا وعد أخلف ? وإذا أؤتمن خان " .
وقال فى رواية أخرى: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب ? وإذا وعد أخلف ? وإذا عاهد غدر ? وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم "! . وقال كذلك: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ? ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان ? وإذا حدث كذب ?
وإذا عاهد غدر ? وإذا خاصم فجر".
وروى أحمد وغيره أن رجلا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلس بين يديه فقال: "يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأضربهم وأسبهم فكيف أنا منهم؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يحسب ما خانوك وعصوك وما كذبوك وعقابك إياهم، فإن كان دون ذنوبهم كان فضلا لك عليهم وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل الذي بقي قبلك.
فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهتف، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما له ما يقرأ كتاب الله (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)؛ فقال الرجل: يا رسول الله ما أجد شيئًا خيرًا من فراق هؤلاء يعني عبيده، إني أشهدك أنهم أحرار كلهم ...
والسبب في كونه صاحب الخلق السيئ يسير على خطى النار أن
تدينه أولا تدين مغشوش، يأتي من الدين أسهله،
ويرسب أمام المحك العملي، وأيضا أنه يحرث في البحر، فيجمع الحسنات،
ثم يبددها بسوء خلقه كما بين حديث المفلس.
صاحب الخلق الحسن يسبق بحسن
خلقه الصوام القوام :
في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن المسلم المسدد ليدرك درجة الصوام القوام بآيات الله عز وجل لكرم ضريبته و حسن خلقه " .
وعن أسامة بن شريك قال: كنا جلوسا عند النبى صلى الله عليه وسلم كأنما على رءوسنا الطير ? ما يتكلم منا متكلم ? إذ جاءه أناس فقالوا: من أحب عباد الله إلى الله تعالى؟ قال: "أحسنكم خلقا" . وفى رواية: "ما خيرُ ما أُعطى الإنسان؟ قال: خلق حسن" . وعند مسلم : إن الله لا يحب التفحش"
وسئل: "أى المؤمنين أكمل إيمانا ؟ قال: أحسنهم خلقا" .
وعن عبد الله بن عمرو: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بأحبكم إلىَّ ? وأقربكم منى مجلسا يوم القيامة؟ فأعادها مرتين أو ثلاثا قالوا: نعم يا رسول الله. قال: أحسنكم خلقا " . وقال: "ما من شىء أثقل فى ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن ? إن الله يكره الفاحش البذىء.
وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة".
هذا التصريح لو صدر عن فيلسوف يشتغل بشئون الإصلاح الخلقى
فحسب لما كان مستغربا منه ?
إنما وجه العجب أن يصدر عن مؤسس دين كبير . والأديان عادة ترتكز فى حقيقتها الأولى على التعبد المحض. ونبى الإسلام دعا إلى عبادات شتى ? وأقام دولة ارتكزت على جهاد طويل ضد أعداء كثيرين ? فإذا كان مع سعة دينه ? وتشعب نواحى العمل أمام أتباعه يخبرهم بأن أرجح ما فى موازينهم يوم الحساب ? الخلق الحسن.
فإن دلالة ذلك على منزلة الخلق فى الإسلام لا تخفى..
والحق أن الدين إن كان خلقا حسنا بين إنسان وإنسان ? فهو فى طبيعته السماوية صلة حسنة بين الإنسان وربه ? وكلا الأمرين يرجع إلى حقيقة واحدة. إن هناك أديانا تبشر بأن اعتناق عقيدة ما ? يمحو الذنوب ? وأن أداء طاعة معينة يمسح الخطايا. لكن الإسلام لا يقول هذا ? إلا أن تكون العقيدة المعتنقة محورا لعمل الخير. وأداء الواجب ? وأن تكون الطاعة المقترحة غسلا من
السوء. وإعدادا للكمال المنشود ? أى أنه لا يمحق السيئات إلا الحسنات التى يضطلع بها الإنسان ?ويرقى صعدا ? إلى مستوى أفضل. وقد حرص النبى على توكيد هذه المبادئ العادلة ? حتى تتبينها أمته جيدا ?
فلا تهون لديها قيمة الخلق ?وترتفع قيمة الطقوس .
عن عبد اللّه بن مسعود- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ألا أخبركم بمن يحرم على النّار أو بمن تحرم عليه النّار: على كلّ قريب هيّن سهل حسن الخلق يصلح ما بين الإنسان وبين النّاس .
عن أبي هريرة- رضي الله عنه "أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله
و حسن الخلق و أكثر ما يدخل الناس النار"
عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "والّذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتّى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتّى يأمن جاره بوائقه»، قالوا: وما بوائقه يا نبيّ اللّه! قال: «غشمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدّق به فيقبل منه، ولا يترك خلف ظهره إلّا كان زاده إلى النّار.
إنّ اللّه- عزّ وجلّ- لا يمحو السّيّء بالسّيّء ولكن يمحو السّيّء بالحسن،
إنّ الخبيث لا يمحو الخبيث»
رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل
الناس خلقا :
وحسن الخلق لا يؤسس فى المجتمع بالتعاليم المرسلة ? أو الأوامر والنواهى المجردة ? إذ لا يكفى فى طبع النفوس على الفضائل أن يقول المعلم لغيره : فعل كذا ? أو لا تفعل كذا . فالتأديب المثمر يحتاج إلى تربية طويلة ? ويتطلب تعهدا مستمرا. ولن تصلح تربية إلا إذا اعتمدت على الأسوة الحسنة ? فالرجل السيئ لا يترك فى نفوس من حوله أثراً طيبا. وإنما يتوقع الأثر الطيب ممن تمتد العيون إلى شخصه ? فيروعها أدبه ? ويسببها نبله ? وتقتبس بالإعجاب المحض من خلاله ? وتمشى بالمحبة الخالصة فى آثاره .
بل لابد ليحصل التابع على قدر كبير من الفضل أن
يكون فى متبوعه قدر أكبر ? وقسط أجل.
وقد كان رسول الإسلام بين أصحابه مثلاً أعلى للخلق الذى يدعو إليه ? فهو يغرس بين أصحابه هذا الخلق السامى ? بسيرته العاطرة ? قبل أن يغرسه بما يقول من حكم وعظات. روى أحمد بسنده عن أبي عبد الله الجدلي، قال قلت لعائشة: كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهله ؟
قالت: " كان أحسن الناس خلقا،
لم يكن فاحشا ، ولا متفحشا ، ولا سخابا بالأسواق،
ولا يجزئ بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح"
ففي الرفق والتواضع واللين، نجد :
حرصه على أن يكون واحدًا كآحاد الناس، ما روته عائشة قالت: قلت: يا رسول الله! كل -جعلني الله فداك- متكئا؛ فإنه أهون عليك. فأحنى رأسه حتى كاد أن تصيب جبهته الأرض وقال: آكل كما يأكل العبد وأجلس
كما يجلس العبد فإنما أنا عبد.
ومما جاء من مشاركته أصحابه في معايشهم، ما جاء عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال : كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزاة، فأبطأ بي جملي وأعيا، فأتى على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "جابر". فقلت: نعم. قال: "ما شأنك". قلت: أبطأ عليَّ جملي وأعيا، فتخلفت. فنزل يحجنه بمحجنه، ثم قال: "اركب .
وقد كان -صلى الله عليه وسلم- سهلا لينا، يمكن لأي أحد أن يسأله ما يشاء حتى لو كانت حاجته صغيرة؛ فعن أنس بن مالك قال كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت.
وفي كظمه غيظه ، نجد - عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كنت أمشى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته،
ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك.
فالتفت إليه، فضحك ثم أمر له بعطاء.
وفي الصحيحين أن أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: بينما نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقسم قسمًا أتاه ذو الخويصرة -وهو رجل من بني تميم- فقال: يا رسول الله اعدل.
فقال: "ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل،
قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل".
وفي سهولته ولين عريكته وتسامحه، نجد في صحيحي البخاري ومسلم: "استأذن عمر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه، عالية أصواتهن، فلما استأذن عمر، قمن يبتدرن الحجاب، فأذن له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله. قال: "عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب". قال عمر: فأنت يا رسول الله كنت أحق أن يهبن. ثم قال: أي عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قلن: نعم،
أنت أفظ وأغلظ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
هل الأخلاق قابلة للاكتساب :
قال ابن قدامة المقدسي في مختصر منهاج القاصدين:
زعم بعض من غلبت عليه البطالة فاستثقل الرياضة،
أن الأخلاق لا يتصور تغييرها،
كما لا يتصور تغيير صورة الظاهر .
والجواب : أنه لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لم يكن للمواعظ والوصايا معنى، وكيف تنكر تغيير الأخلاق ونحن نرى الصيد الوحشي يستأنس، والكلب يعلم ترك الأكل، والفرس تعلم حسن المشي وجودة الانقياد، إلا أن بعض الطباع سريعة القبول للصلاح، وبعضها مستصعبة . وأما خيال من اعتقد أن ما في الجبلة لا يتغير، فاعلم أنه ليس المقصود قمع هذه الصفات بالكلية، وإنما المطلوب من الرياضة رد الشهوة إلى الاعتدال الذي هو وسط بين الإفراط والتفريط، وأما قمعها بالكلية فلا، كيف والشهوة إنما خلقت لفائدة ضرورية في الجبلة، ولو انقطعت شهوة الطعام لهلك الإنسان، أو شهوة الوقاع لانقطع النسل، ولو انعدم الغضب بالكلية، لم يدفع الإنسان عن نفسه ما يهلكه، وقد قال الله تعالى : { أشداء على الكفار } [ الفتح : 29 ] ولا تصدر الشدة إلا عن الغضب، ولو بطل الغضب لامتنع جهاد الكفار، وقال تعالى : { والكاظمين الغيظ } [ آل عمران : 134 ] ولم يقل : الفاقدين الغيظ . وكذلك المطلوب في شهوة الطعام الاعتدال دون الشره والتقلل : قال الله تعالى : { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } [ الأعراف : 31 ] إلا أن الشيخ المرشد للمريد إذا رأى له ميلاً إلى الغضب أو الشهوة، حسن أن يبالغ في ذمها على الطلاق ليرده إلى التوسط، ومما يدل على أن المراد من الرياضة الاعتدال أن السخاء خلق مطلوب شرعاً وهو وسط بين طرفي التقتير والتبذير وقد أثنى الله عليه بقوله :
{ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما }
[ الفرقان : 67 ] .
واعلم : أن هذا الاعتدال . تارة يحصل بكمال الفطرة منحة من الخلق، فكم من صبى يخلق صادقاً سخياً حليماً، وتارة يحصل بالاكتساب، وذلك بالرياضة، وهى حمل النفس على الأعمال الجالبة للخلق المطلوب ، فمن أراد تحصيل خلق الجود فليتكلف فعل الجود من البذل ليصير ذلك طبعاً له . وكذلك من أراد التواضع تكلف أفعال المتواضعين، وكذلك جميع الأخلاق المحمودة فإن للعادة أثراً في ذلك، كما أن من أراد أن يكون كاتباً تعاطى فعل الكتابة، أو فقيهاً تعاطى فعل الفقهاء من التكرار، حتى ينعطف على قلبه صفة الفقه، إلا أنه لا ينبغي أن يطلب تأثير ذلك في يومين أو ثلاثة، وإنما يؤثر مع الدوام، كما لا يطلب في النمو علو القامة في يومين أو ثلاثة، وللدوام تأثير عظيم . وكما لا ينبغي أن يستهان بقليل الطاعات، فإن دوامها يؤثر، وكذلك لا يستهان بقليل من الذنوب . كما أن تعاطى أسباب الفضائل يؤثر في النفس ويغير طبعها، فكذلك مساكنة الكسل أيضاً يصير عادة، فيحرم بسببه كل خير . وقد تكتسب الأخلاق الحسنة بمصاحبة أهل الخير، فإن الطبع لص يسرق الخير والشر . قلت : ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم : " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " .
الطريق إلى تهذيب الأخلاق :
قد عرفت أن الاعتدال في الأخلاق هو الصحة في النفس، والميل عن الاعتدال سقم ومرض، فاعلم أن مثال النفس في علاجها كالبدن في علاجه، فكما أن البدن لا يخلق كاملاً، وإنما يكمل بالتربية والغذاء، كذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال، وإنما تكمل بالتزكية وتهذيب الأخلاق، والتغذية بالعلم . وكما أن البدن إذا كان صحيحاً، فشأن الطبيب العمل على حفظ الصحة، وإن كان مريضاً، فشأنه جلب الصحة إليه، كذلك النفس إذا كانت زكية طاهرة مهذبة الخلاق، فينبغي أن يسعى بحفظها وجلب مزيد القوة إليها، وإن كانت عديمة الكمال، فينبغي أن يسعى بجلب ذلك إليه . وكما أن العلة الموجبة لمرض البدن لا تعالج إلا بضدها، إن كانت من حرارة فبالبرودة وإن كانت من البرودة فبالحرارة، فكذلك الأخلاق الرذيلة التي هي من مرض القلب، علاجها بضدها، فيعالج مرض الجهل بالعلم، ومرض البخل بالسخاء، ومرض الكبر بالتواضع، ومرض الشره بالكف عن المشتهى . وكما أنه لابد من احتمال مرارة الدواء، وشدة الصبر عن المشتهيات لصلاح الأبدان المريضة، فكذلك لابد من احتمال المجاهدة، والصبر على مداومة مرض القلب بل أولى، فإن مرض البدن يخلص منه بالموت، ومرض القلب عذاب يدوم بعد الموت أبداً وينبغى للذي يطبُّ نفوس المريدين أن لا يهجم عليهم بالرياضة في فن مخصوص، حتى يعرف أخلاقهم وأمراضهم، إذ ليس علاج كل مريض واحداً، فإذا رأى جاهلاً بالشرع علمه، وإذا رأى متكبراً حمله على ما يوجب التواضع، أو شديد الغضب ألزمه الحلم . وأشد حاجة الرائض لنفسه، قوة العزم، فمتى كان متردداً بعد فلاحه، ومتى أحس من نفسه ضعف العزم تصبر، فإذا انقضت عزيمتها عاقبها لئلا تعاود، كما قال رجل لنفسه : تتكلمين فيما لا يعنيك ؟ لأعاقبنك بصوم سنة .
الحدود على الجرائم الخلقية :
الإكراه على الفضيلة لا يصنع الإنسان الفاضل ? كما أن الإكراه على الإيمان لا يصنع الإنسان المؤمن؟ فالحرية النفسية والعقلية أساس المسئولية. والإسلام يقدر هذه الحقيقة ويحترمها ? وهو يبنى صرح الأخلاق. ولماذا يلجأ إلى القسر فى تعريف الإنسان معنى الخير ? أو توجيه سلوكه إليه ? وهو يحسن الظن بالفطرة الإنسانية ? ويرى أن إزاحة العوائق من أمامها كافية لإيجاد جيل فاضل؟
إن فطرة الإنسان خيرة وليس معنى هذا أنه ملاك لا يحسن إلا الخير ? بل معنى هذا أن الخير يتواءم مع طبيعته الأصيلة ? وأنه يُؤثر اعتناقه والعمل به كما يُؤثر الطير التحليق ? إذا تخلص من قيوده وأثقاله. فالعمل الصحيح فى نظر الإسلام هو تحطيم القيود وإزالة الأثقال أولا ? فإذا جثم الإنسان على الأرض بعدئذ ? ولم يستطع سموا ? نُظر إليه على أنه مريض ? ثم يُسرت له أسباب الشفاء. ولن يصدر الإسلام حكما يعزل هذا الإنسان عن المجتمع إلا يوم يكون بقاؤه فيه مثار شر على الآخرين. فى حدود هذه الدائرة يحارب الإسلام الجرائم الخلقية ? فهو يفترض ابتداء أن الإنسان يحيا أن يعيش من طريق شريف ? وأن يحيا على ثمرات كفاحه وجهده الخاص أى أنه لا يبنى كيانه على السرقة. ما الذى يحمله على السرقة؟ احتياجه إلى ما يقيم أوده؟ فليوفر له من الضرورات والمرفهات ما يغنيه عن ذلك. وتلك فريضة على المجتمع ? إن قصر فيها فألجأ فردا إلى السرقة ? فالجريمة هنا يقع وزرها على المجتمع المفرط ? لا على الفرد المضيع. فإن كفلت للفرد ضروراته ثم مد بعد ذلك يده ? محصت حالته جيدا قبل إيقاع العقوبة عليه ? فلعل هناك شبهة تثبت أن فيه
عرقا ينبض بالخير ? والإبطاء فى العقاب مطلوب دينا .
فإذا تبين من تتبيع أحوال الشخص أن فطرته الْتَاثَتْ ? وأنه أصبح مصدر عدوان على البيئة التى كلفته وآوته ? وأنه قبال عطفها وعنايتها ? بتعكير صفوها وإقلاق أمنها ? فلا ملام على هذه البيئة إذا حدت من عدوان أحد أفرادها ? فكسرت السلاح الذى يؤذى به غيره. وقد وصف القرآن اللصوصية التى تستحق قطع اليد ? بأنها لصوصية الظلم والإفساد ? وقال فى هذا السارق المعاقب: "فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم". فالحد الذى شرعه الإسلام ? هو وقاية للجماعة العادلة المصلحة ? من ضراوة عضو فيها ? يقابل عدالتها بالظلم ? ويقابل إصلاحها بالفساد.
ذلك مثل نسوقه لنبين به أن الحدود على الجرائم الخلقية لم تشرع إكراها على الفضيلة ? وإلجاء للناس بطريق القسوة إلى اتخاذ المسلك الحسنة. فالطريقة المثلى لدى الإسلام هى خطاب القلب الإنسانى ? واستثارة أشواقه الكامنة إلى السمو والكمال ? ورجعه إلى الله بارئه الأعلى ? بأسلوب من الإقناع والمحبة ? وتعليقه بالفضائل الجليلة على أنها الثمرة الطبيعية لهذا كله..
دائرة الأخلاق تشمل المسلم وغير المسلم
قد تكون لكل دين شعائر خاصة به ? تعتبر سمات مميزة له. ولا شك أن فى الإسلام طاعات معينة ? ألزم بها أتباعه ?
وتعتبر فيما بينهم أمورا مقررة لا صلة لغيرهم بها.
غير أن التعاليم الخلقية ليست من هذا القبيل " فالمسلم مكلف أن يلقى أهل الأرض قاطبة بفضائل لا ترقى إليها شبهة ? فالصدق واجب على المسلم مع المسلم وغيره ? والسماحة والوفاء والمروءة والتعاون والكرم.. الخ. وقد أمر القرآن الكريم ألا نتورط مع اليهود أو النصارى فى مجادلات تهيج الخصومات ولا تجدى الأديان شيئا. قال الله تعالى : " وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [العنكبوت/46]". واستغرب من أتباع موسى وعيسى أن يشتبكوا مع المسلمين فى منازعات من هذا النوع الحاد :
" قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ
وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة/139]".
وقد أمر الإسلام بالعدل ولو مع فاجر أو كافر. قال عليه الصلاة والسلام: "دعوة المظلوم مُستجابة ? وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه ".
وقال: "دعوة المظلوم
وإن كان كافرا ليسن دونها حجاب ?
وبهذه النصوص ? مَنع الإسلام أبناءه أن يقترفوا أية إساءة نحو مخالفيهم فى الدين. ومن آيات حسن الخلق مع أهل الأديان الأخرى ما ورد عن ابن عمر: أنه ذبحت له شاة فى أهله ? فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودى؟
أهديتم لجارنا اليهودى؟. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه. "
وكذلك أمر الإسلام أن يصل الإنسان رحمه ? ولو كفروا بدينه الذى اعتنقه ? فإن التزامه للحق لا يعنى المجافاة للأهل : " وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان/15]".
ذلك من الناحية الشخصية. أما من الناحية العامة ? فقد قرر الإسلام أن بقاء
الأمم وازدهار حضارتها ? واستدامة منعتها ? إنما يُكفل لها ? إذا ضمنت حياة الأخلاق فيها ? فإذا سقطت الخلق سقطت الدولة معه. وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا ويؤكد هذه الحقيقة حديث الرسول لقومه وعشيرته ? فقد رشحتهم مكانتهم فى جزيرة العرب لسيادتها ? وتولى مقاليد الحكم بها. ولكن النبى أفهمهم ألا دوام لملكهم إلا بالخلق وحده. فعن أنس بن مالك قال: "كنا فى بيت فيه نفر من المهاجرين والأنصار ? فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ? فجعل كل رجل يوسع رجاء أن يجلس إلى جنبه.. ثم قام إلى الباب فأخذ بعضادتيه ? فقال: الأئمة من قريش ? ولى عليكم حق عظيم ? ولهم ذلك ما فعلوا ثلاثا: إذا استُرْحموا رَحموا ?
وإذا حكموا عد لوا ? وإذا عاهدوا وفوا ?
فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " .
هذا الحديث حاسم فى أنه لا مكانة لأمة ولا لدولة ولا لأسرة إلا بمقدار ما تمثل فى العالم من صفات عالية ? وما تحقق من أهداف كريمة. فلو أن حكما حمل طابع الإسلام والقرآن ? ثم نظر الناس إليه فوجدوه لا يعدل فى قضية ? ولا يرحم فى حاجة ? ولا يوفى فى معاهدة ? فهو باسم الإسلام والقرآن قد انسلخ عن مقوماته الفضالة ?
وأصبح أهلا لأن يعن فى فجاج الأرض وآفاق السماء.
ومن أقوال الإمام ابن تيمية: "إن الله يقيم الدولة العادلة ? وإن كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة ? وإن كانت مسلمة" . إن الخلق فى منابع الإسلام الأولى من كتاب وسنة هو الدين كله ? وهو الدنيا كلها ? فإن نقصت أمة حظا من رفعة فى صلتها بالله ? أو فى مكانتها بين الناس فبقدر نقصان فضائلها وانهزام خلقها.
إسلام العبادات لا يفيد الآخرين شيئا،
فنفعه مقصور على صاحبه :
قال ابن القيّم- رحمه اللّه-: «جمع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بين تقوى اللّه وحسن الخلق، لأنّ تقوى اللّه تصلح ما بين العبد وبين ربّه وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه. فتقوى اللّه توجب له محبّة اللّه
وحسن الخلق يدعو النّاس إلى محبّته"
قال الماورديّ- رحمه اللّه-: «اذا حسنت أخلاق الإنسان كثر مصافوه، وقلّ معادوه، فتسهلّت عليه الامور الصّعاب، ولانت له القلوب الغضاب)
المسلم مهما يأتي من أبواب العبادات والقرب المحضة ، من صلاة وصيام وذكر ودعاء، فهو لا ينفع إلا نفسه بذلك، ولا يشعر من حوله ولا يستفيد بنسكه شيئا، فإذا أثمرت هذه العبادات سلوكا من الرحمة واللين وخدمة إخوانه وقضاء مصالحهم والبشاشة في وجوههم شعروا بإسلامه، وكان سلو كه هذا دعوة إلى الإسلام، كما حدث مع المسلمين التجار في فتح غرب إفريقيا.