العلاقات الخارجية وسقوط دولة المماليك
راغب السرجاني
إذا أردنا أن نقف وقفة مع العلاقات الخارجية في العصر المملوكي فيمكننا أن ندرس:
العلاقة مع الحفصيين في تونس:
لقد ربطت سلطنة المماليك البحرية في مصر ودولة الحفصيين في تونس علاقات ودية بفعل أربعة عوامل:
1- عامل الدين الإسلامي.
2- عامل الجوار.
3- عامل الخطر المشترك الذي هدد العالم الإسلامي آنذاك.
4- عامل الحج على اعتبار أن مصر واقعة على الطريق البري للحجاج القادمين من شمالي إفريقيا.
لكن شاب هذه العلاقات بعض الفتور بسبب مشكلة الخلافة؛ ذلك أن ملوك بني حفص تلقبوا بلقب الخلفاء فلم يعترف المماليك بإمرة المؤمنين في السلالة الحفصية، وإنما لقبوهم بـ"أمير المسلمين" وهو لقب دون أمير المؤمنين في الرتبة، ويبدو أن مشكلة الخلافة لم تقف حائلاً بين الدولتين في التعاون لرد الاعتداءات الخارجية[1].
العلاقة مع مغول القبجاق:
لم يلبث الدين الإسلامي أن انتشر بين المغول خاصة بعد اعتناق بركة خان ابن جوجي بن جنكيز خان هذا الدين، الأمر الذي ترتب عليه نتيجتان:
الأولى: ازدياد التقارب بين مغول القبجاق والقوى الإسلامية في المشرق خاصة دولة المماليك البحرية الناشئة.
الثانية: ازدياد العداء بين مغول القبجاق وبقية طوائف المغول الوثنيين خاصة مغول فارس.
وسعى بيبرس إلى الاستفادة من هذا الوضع الناشئ بالتحالف مع بركة خان زعيم القبيلة الذهبية، وكان من الطبيعي أن يلاقي تجاوباً من الزعيم المغولي المسلم، إذ إن اعتناق هؤلاء المغول الديانة الإسلامية جعلت التحالف بين الطرفين ضرورة سياسية لمواجهة العدو المشترك المتمثل بهولاكو وأسرته، فما أن علم بيبرس باعتناق بركة خان للدين الإسلامي حتى كتب إليه يغريه بقتال هولاكو، ويرغبه في ذلك.
وبالفعل اتفق بركة خان وبيبرس على محاربة هولاكو، وكتب بركة خان برسالة إلى بيبرس يقول له فيها: "فليعلم السلطان أنني حاربت هولاكو الذي من لحمي ودمي لإعلاء كلمة الله العليا تعصباً لدين الإسلام..."[2].
علاقة المماليك ببعض القوى الأوروبية:
لقد اجتذبت موانئ مصر المدن التجارية الإيطالية (البندقية وجنوة وبيزا) بفضل التكاليف الزهيدة للبضائع القادمة من الشرق الأقصى عبر هذا البلد، إضافةً إلى ميزة الحصول على حاصلات الأراضي المصرية ومنتجاتها الصناعية، وكانت هناك من جهة أخرى أرباح كبيرة تتحقق بتوريد بعض السلع الأوروبية التي كانت مصر بحاجة إليها مثل: الحديد والخشب، لكن توثيق العلاقات السلمية مع مصر لم يكن بالسهولة التي تبدو لأول وهلة بسبب عداوة مصر للصليبيين في بلاد الشام.
وكانت المدن الإيطالية خاصة تسأل قبل أن ترتبط بعلاقات تجارية مع مصر: هل تسيء بذلك إلى بقية العالم المسيحي؟ لأن تجار مصر سوف يستفيدون حتماً من جرَّاء المبادلات التجارية، كما تنتفع خزائن السلطان من حصيلة الرسوم الجمركية، ويترتب على ذلك تنامي قوة هذا البلد، مما يشكل ازدياداً في الخطر على المدن الصليبية في بلاد الشام.
وكان التاجر الغربي الذي يتاجر مع مصر يُوصَف بأنه مسيحي فاجر، في حين تعرَّض حكام المماليك الذين يتعاونون مع التجار الغربيين للانتقاد أيضاً، وبالرغم من أن العقبات على التجارة بين مصر والمدن الإيطالية تأتي من الطرفين؛ إلا أنها استمرت ناشطة أحياناً وسط الأجواء العاصفة، وكان الأمل عند الطرفين في الحصول على أرباح ومنافع جسيمة يبدد الكثير من المخاوف.
وإذا كانت العلاقات بين المدن الإيطالية التجارية وبين المماليك تأرجحت بين المشاحنات والهدوء وفقاً لتقلب الظروف السياسية؛ فإن الوضع اختلف مع الإمارات المسيحية في أوروبا الغربية مثل قشتالة وأرغونة وإشبيلية.
ويبدو أن حرص الإمارات المسيحية في أسبانيا على عدم وصول نجدات من دولة المماليك إلى المسلمين في أسبانيا دفع ملوكها إلى مسالمة المماليك، وتبادل الهدايا مع الأمراء في مصر.
وإذا كانت التجارة مع مصر مباحة بوجه عام لرعايا ملك أرغون؛ فإنه كان محظوراً عليهم أن يبيعوا المسلمين مواد بناء السفن، أو سفناً مبنية، وفي عام 673هـ/ 1274م أصدر جيمس الأول ملك أرغون مرسوماً يحظر فيه تصدير المعادن والخشب، والأسلحة والمواد الغذائية إلى مصر.
كما ارتبطت صقلية بعلاقات طيبة مع حكام مصر منذ العهد الأيوبي، وقد تمتع الصقليون في مصر بتخفيض في التعريفات، واستمرت هذه العلاقة الطيبة في عهد دولة المماليك البحرية، إذ حرص مانفرد بن فريدريك الثاني على صداقة السلطان بيبرس، كما حرص هذا الأخير على الاحتفاظ بعلاقة الود التي ربطت مصر بمملكة صقلية، وقد جمعت الطرفين مصلحة مشتركة وهي العداء للصليبيين في بلاد الشام، ومغول فارس.
وتشير المراجع إلى تبادل الهدايا بين بيبرس ومانفرد، فقد أرسل الأول في عام 660هـ/ 1261م وفداً برئاسة المؤرخ جمال الدين بن واصل إلى ملك صقلية، وحمله هدية جليلة منها بعض الزرافات، وبعض أسرى عين جالوت من المغول، وقد رد مانفرد بسفارة مشابهة تحمل الهدايا للسلطان[3].
العلاقة بالبرتغال والكشوف الجغرافية:
ارتبط تاريخ البرتغال التجاري منذ أوائل القرن السادس عشر الميلادي بالكشوف الجغرافية، والواقع أن حركة الكشوف هذه التي تم قسم كبير منها في القرن الخامس عشر الميلادي كانت أهم نتيجة عملية للنهضة الأوروبية، فقد استطاع الملاحون الأوروبيون أن يحققوا أعظم نصر في هذا المجال في أواخر ذلك القرن تمثل في حادثين:
الأول: كشف الأمريكتين ابتداءً من عام (898هـ/ 1492م).
الثاني: كشف الطريق البحري من أوروبا إلى الهند بالالتفاف حول أفريقيا عن طريق رأس الرجاء الصالح في عام (904هـ/1498م).
وكان لهذين الحادثين أثر عميق في تاريخ العالم ومستقبل البشرية[4].
والواقع أنه تضافرت عدة عوامل أدت إلى الكشف الجغرافي الثاني المرتبط مباشرة بموضوعنا، والذي كان رائده فاسكو دي جاما لعلَّ أهمها:
1- التخلص من الرسوم الجمركية الفادحة التي كانت تفرضها السلطات المملوكية في مصر وبلاد الشام على السلع الشرقية عند مرورها في أراضي هذين البلدين.
2- الرغبة في ضرب الاحتكار الذي كان يمارسه تجار البندقية في نقل السلع الشرقية من موانئ مصر وبلاد الشام إلى أوروبا كوسيلة لحرمان هذا البلد من مصادر ثرائه.
3- تطلع التجار من رعايا دول أخرى غير البندقية إلى النزول إلى ميدان التجارة الشرقية، والحصول لأنفسهم على شطر من أرباحها الوفيرة.
4- ضرب المسلمين، حيث أدى العامل الديني دوراً بارزاً في تخطيط سياسة البرتغاليين بهدف تحويل المسلمين في غربي إفريقيا وفي غيرها من المناطق الآهلة إلى المسيحية.
5- سيطرت على الأوروبيين في عصر النهضة رغبة قوية في زيادة معلوماتهم الجغرافية[5].
وبوصول البرتغاليين إلى الهند عن طريق رأس الرجاء الصالح أنشأوا لهم مراكز تجارية مسلحة على سواحل البلاد الواقعة على هذا الطريق، وعملوا على بسط سيطرتهم العسكرية والتجارية على هذه المناطق ابتغاء احتكار تجارة الشرق، ونقلها إلى أوروبا عبر الطريق الجديد.
وقد أحدث نبأ هذا الاكتشاف الجغرافي المهم انفعالاً قوياً في الدوائر الحاكمة في كل من مصر وجمهورية البندقية؛ ذلك لأن كل ما يصيب تجارة الشرق الأدنى من ضرر يزعزع أسس قوتهما وثروتهما.
وتابع البرتغاليون نشاطهم التجاري في الهند لتحقيق هدفين ينتهيان إلى غاية واحدة:
الأول: توسيع مجال تجارتهم بفتح أسواق جديدة.
الثاني: القضاء على تجارة المماليك بتدمير بحريتهم التجارية.
وبالفعل لم يعد أحدٌ يحصي السفن المملوكية التي أغارت عليها أساطيلهم وأغرقتها أو أحرقتها بعد أن نهبت أو دمرت شحنتها، وقتلت ركابها وبحارتها[6].
والواقع أن اتساع نشاط البرتغاليين التجاري في الهند وسيطرتهم على مصادر تجارة التوابل والسلع الشرقية؛ أدَّى إلى حجب وصول هذه السلع بكميات كبيرة إلى مصر وبلاد الشام؛ فبدأت الدولة المملوكية تعاني أزمة اقتصادية عنيفة.
التصادم بين المماليك والبرتغاليين:
وكان السلطان المملوكي قانصوه الغوري يدرك تماماً أن ازدياد نفوذ البرتغاليين في الهند قد يقضي على مصالحه التجارية وهيبته أمام العالم، وقد تأكد له هذا بصورة عملية عندما أرسل في عام (910هـ/ 1504م) أسطولاً تجاريّاً إلى ساحل مالابار شحن كالمعتاد كميات ضخمة من التوابل والسلع الهندية، وأثناء عودة السفن حملت معها عدداً كبيراً من أمراء الهنود، وعدداً من المسلمين في طريقهم إلى الحج، لكن هذه السفن لم تصل كاملة إلى ميناء جدة؛ إذ هاجمتها سفن الأسطول البرتغالي في مياه الهند، وصادرت معظم شحناتها من التوابل والسلع الهندية.
أثارت هذه الأنباء ثائرة السلطان الغوري فقرر إرسال أسطول حربي إلى مياه الهند مؤلفاً من خمسين سفينة، وعين عليه الأمير حسين كردي.
تجمع الأسطول المملوكي في ميناء جدة، ثم انطلق في عام (913هـ/1507م) إلى سورات في مقاطعة جوجيرات، وكان أمراؤها حلفاء للمماليك، وفاجأ الأسطول البرتغالي بقيادة لورنزو دالميدا أو ألميدا الصغير، وأوقع به الهزيمة عند شول إلى الجنوب من بومباي في العام التالي، وقتل القائد البرتغالي في المعركة[7].
تطلبت هذه الهزيمة التي لحقت بالبرتغاليين انتقاماً اضطلع به ألميدا الكبير في شهر ذي القعدة عام 914هـ/ شهر شباط عام 1509م، ودُمِّرت معظم وحدات الأسطولين المملوكي والهندي، وانسحب الأمير حسين كردي بعد ذلك إلى جَدَّة[8].
فجهَّز السلطان قانصوه الغوري أسطولاً آخر لمواجهة البرتغاليين، وعهد بقيادته إلى الأمير حسين كردي، وانضم إليه عدد من الأتراك والمغاربة.
وعندما تحرك الأسطول المملوكي نحو شواطئ الهند في شهر رمضان عام 921هـ/ شهر تشرين الأول عام 1515م رفض سلطان الطاهريين عامر الثاني بن عبد الوهاب تقديم الموانئ والقوى البشرية والتموين للأسطول، منتهكاً بذلك كل التزامات التحالف مع المماليك، وقد أدت خيانة السلطان الطاهري إلى إرباك مخططات المماليك؛ فتأجلت الحملة على الهند، وظل الأسطول المملوكي راسياً عند شواطئ جزيرة قمران مدة ثمانية أشهر منهمكاً في بناء التحصينات الدفاعية.
وقد حصلت هذه الأحداث في الوقت الذي قُتِلَ فيه السلطان الغوري في موقعة مرج دابق أي في نهاية عصر الدولة المملوكية[9].
العلاقات المملوكية العثمانية:
تُعتَبَر العلاقات المملوكية العثمانية هي مفتاح النهاية في تاريخ الدولة المملوكية؛ إذ سقطت دولة المماليك على أيدي العثمانيين نهائيّاً عام 1517م، ولكن سبق ذلك طريق طويل من العلاقات تراوحت بين المودة والتقدير وبين القلق، ثم الصراع الدامي؛ فقد تجددت علاقات الصداقة بين السلطنتين المملوكية والعثمانية بعد زوال الخطر التيموري، وازدادت تماسكاً في عهد السلطان الأشرف برسباي[10].
وازدادت أواصر الصداقة بين الدولتين في عهد السلطان جقمق، فتبودلت المراسلات والسفارات والهدايا بين الدولتين، وأرسل السلطان العثماني مراد الثاني إلى السلطان المملوكي هدية تضم خمسين أسيراً من الأوروبيين وخمسة من الجواري ومكية كبير من الحرير[11].
واستمرت هذه السياسة الودية قائمة في عهد السلطان إينال، فبعد أن أتم السلطان العثماني محمد الفاتح فتح القسطنطينية أرسل إلى السلطان المملوكي رسالة يبشره بانتصاره الكبير، فأرسل إليه إينال رسالة تهنئة، واحتفل في القاهرة بهذا الحدث الجلل احتفالاً رائعاً[12].
تردي العلاقات بين المماليك والعثمانيين (888- 896هـ):
طُويَت صفحة العلاقات الجيدة بين الدولتين المملوكية والعثمانية على أثر فتح القسطنطينية، وفتحت صفحة جديدة سادها العداء بفعل تصادم المصالح، فقد توسعت الدولة العثمانية في الأناضول والجزيرة الفراتية شمالاً حتى البحر المتوسط جنوباً، وجبال طوروس، وفي نفس الوقت كانت دولة المماليك قد سيطرت على قيليقيا.
ومع حرص العثمانيين على استمرار تعزيز الروابط مع المماليك؛ إلا أن هؤلاء بدؤوا يقابلون بشيء من الفتور تنامي العلاقات بين الدولتين بعدما شعروا بتعاظم شعبية العثمانيين بين المسلمين نتيجة فتح القسطنطينية، كما لاحظوا بقلق شديد بروز دولة إسلامية قوية أخذت تنمو على حدودهم، وتشق طريقها الخاص بها، وتزايد قلقهم عندما نشطت في العاصمة العثمانية المساعي لتغيير نظام العلاقات بين الدولتين بعد أن أخذ البكوات حماة الحدود؛ يتلقبون بألقاب السلاطين، ويذكر ابن إياس أن محمداً الثاني كان أول زعيم في بني عثمان اتخذ لنفسه لقب سلطان، وساوى نفسه بحكام مصر.
كان اتخاذ الألقاب السلطانية يرمز إلى تحول العثمانيين إلى سياسة الدولة العظمى، وأن المقصود بذلك تأكيد الدور العالمي للسلطنة العثمانية، وقد أدت هذه السياسة إلى تدهور حاد في العلاقات المملوكية العثمانية، وبدأ المماليك يتوجسون خيفة من العثمانيين، فتبدلت نظرتهم إليهم من مشاعر الاعتزاز إلى مشاعر الغيرة، ثم أضحى الصراع على الهيمنة على زعامة العالم الإسلامي السبب الأساسي والرئيسي للنزاع المملوكي - العثماني.
تزايد الصراع و"جم" يلجأ للمماليك:
بعد وفاة السلطان محمد الفاتح في عام 886هـ/ 1481م بدأ النزاع الداخلي على العرش بين الأخوين بايزيد الثاني وجم، ولم يتمكن جم من الصمود في وجه أخيه فلجأ إلى دولة المماليك، فاستقبله السلطان المملوكي قايتباي بحفاوة بالغة؛ مما أثار غضب السلطان العثماني بايزيد الثاني[13]، واتخذ السلطان العثماني بايزيد الثاني موقفاً عدائيّاً صريحاً من المماليك، وتصرف على محورين:
الأول: أنه ساند عسكريّاً علاء الدولة بن ذي القدر الذي هاجم ملطية التابعة للمماليك في عام 888هـ/ 1483م.
الثاني: أنه أحكم سيطرته على الطرق التجارية، وعلى مصادر الخام البالغة الحيوية للمماليك كأخشاب السفن مثلاً، وبذل جميع المحاولات لإضعاف طاقتهم العسكرية؛ كما عرقل شراء الفتيان من أسواق البحر الأسود لنقلهم إلى مصر، فأرسل السلطان قايتباي حملة عسكرية بقيادة تمراز الشمسي فانتصر على علاء الدولة وحلفائه العثمانيين.
وهكذا أدَّت الصدامات المسلحة التي نشبت مع علاء الدولة بن ذي القدر بين أعوام 888- 890هـ/ 1483- 1485م إلى أول حرب مملوكية - عثمانية[14].
واضطر قايتباي إلى الدفاع عن أراضيه أمام اعتداءات العثمانيين، ومن هنا بدأت حملات الأمير أزبك ضد أراضيهم، واستطاع هذا الأمير إلحاق الهزيمة بالجيوش العثمانية ثلاث مرات، أسر في الحملة الأولى عام 891هـ/ 1486م عدد كبيراً من العثمانيين من بينهم القائد أحمد بك بن هرسك[15]، ونتيجة لوساطة باي تونس عقدت اتفاقية سلام بينهما في 896هـ/ 1491م[16].
تحسن العلاقات بين المماليك والعثمانيين (896- 920هـ):
لقد توقفت الحرب بين الدولتين ولكن بشكل مؤقت، وساد الهدوء جبهات القتال ولكن إلى حين، وتبادل الطرفان الهدايا والوفود سنة بعد سنة، كما نشطت حركة التبادل التجاري بينهما، وكان المماليك يشترون الأخشاب والحديد والبارود من آسيا الصغرى وهي مواد غير متوفرة في مصر[17].
ومن مظاهر المشاركة النفسية الجيدة التي تجلَّت خلال هذه الفترة أنه عندما توفي السلطان العثماني بايزيد الثاني؛ بكى السلطان الغوري عليه، وحزن لوفاته، ثم صلى عليه صلاة الغائب في القلعة، كما صلى الناس عليه بعد صلاة الجمعة في الجامع الأزهر، وجامع ابن طولون[18].
النزاع الأخير بين المماليك والعثمانيين (920- 923هـ):
لم يستمر الصلح بين المماليك والعثمانيين أكثر من ربع قرن، حيث إن تنامي هيبة الدولة العثمانية كحامية لجميع المسلمين، وانتصار سليم الأول على الصفويين في معركة جالديران في رجب عام 920هـ/ آب عام 1514م أزعج السلطان المملوكي قانصوه الغوري، فقد كان انتصار العثمانيين في جالديران مفاجأة غير متوقعة للمماليك الذين التزموا جانب الحياد، تاركين الدولة العثمانية وحيدة في مواجهة الصفويين.
في أوائل عام 921هـ/ 1515م وصلت القاهرةَ تباشيرُ الأنباء عن استعدادات العثمانيين العسكرية، فقد كان الجيش والأسطول يستعدان لشن هجوم على مصر.
وفي مرج دابق شمالي حلب دارت رحى معركة عنيفة بين المماليك والعثمانيين سنة (922هـ- 1516م)، وكان النصر حليف العثمانيين، وانتحر السلطان المملوكي قانصوه الغوري بالسم عندما علم بنتيجة المعركة، وأصبحت بلاد الشام ضمن أملاك العثمانيين.
وبعد انتصار السلطان العثماني سليم الأول في مرج دابق؛ توجه إلى مصر، وبعد انتصاره على المماليك في موقعة الريدانية سنة 923هـ/ 1517م شنق السلطان المملوكي طومان باي على باب زويلة، وبذلك أصبحت مصر ضمن أملاك الدولة العثمانية، وهكذا أُسقِطَت دولة المماليك الجراكسة.
________________
[1] د. طقوش: تاريخ المماليك ص109، 110.
[2] النويري: نهاية الأرب 30/87. العيني: عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان 1/361.
[3] د. طقوش: تاريخ المماليك ص147-149.
[4] د. عبد العزيز الشناوي: أوروبا في مطلع العصور الحديثة 1/104.
[5] المرجع السابق ص105.
[6] هايد: تاريخ التجارة في الشرق الأدنى، ترجمة/ أحمد محمد رضا، 4/30.
[7] أحمد دراج: المماليك والفرنج ص137.
[8] سعيد عبد الفتاح عاشور: العصر المماليكي في مصر والشام ص178، 179. أحمد دراج: المرجع السابق ص137، 138. هايد: تاريخ التجارة في الشرق الأدنى ص31.
[9] د. طقوش: تاريخ المماليك ص554.
[10] المقريزي: السلوك 4/656.
[11] ابن إياس:بدائع الزهور 2/245، 246.
[12] المصدر السابق ص316.
[13] السابق نفسه 3/183-185.
[14] ابن إياس: بدائع الزهور 3/218، 219.
[15] المصدر السابق ص226.
[16] إيفانون: الفتح العثماني للأقطار العربية، ترجمة/ يوسف عطا الله، ص56.
[17] د. طقوش: تاريخ المماليك ص492.
[18] ابن إياس: بدائع الزهور 4/270.
راغب السرجاني
إذا أردنا أن نقف وقفة مع العلاقات الخارجية في العصر المملوكي فيمكننا أن ندرس:
العلاقة مع الحفصيين في تونس:
لقد ربطت سلطنة المماليك البحرية في مصر ودولة الحفصيين في تونس علاقات ودية بفعل أربعة عوامل:
1- عامل الدين الإسلامي.
2- عامل الجوار.
3- عامل الخطر المشترك الذي هدد العالم الإسلامي آنذاك.
4- عامل الحج على اعتبار أن مصر واقعة على الطريق البري للحجاج القادمين من شمالي إفريقيا.
لكن شاب هذه العلاقات بعض الفتور بسبب مشكلة الخلافة؛ ذلك أن ملوك بني حفص تلقبوا بلقب الخلفاء فلم يعترف المماليك بإمرة المؤمنين في السلالة الحفصية، وإنما لقبوهم بـ"أمير المسلمين" وهو لقب دون أمير المؤمنين في الرتبة، ويبدو أن مشكلة الخلافة لم تقف حائلاً بين الدولتين في التعاون لرد الاعتداءات الخارجية[1].
العلاقة مع مغول القبجاق:
لم يلبث الدين الإسلامي أن انتشر بين المغول خاصة بعد اعتناق بركة خان ابن جوجي بن جنكيز خان هذا الدين، الأمر الذي ترتب عليه نتيجتان:
الأولى: ازدياد التقارب بين مغول القبجاق والقوى الإسلامية في المشرق خاصة دولة المماليك البحرية الناشئة.
الثانية: ازدياد العداء بين مغول القبجاق وبقية طوائف المغول الوثنيين خاصة مغول فارس.
وسعى بيبرس إلى الاستفادة من هذا الوضع الناشئ بالتحالف مع بركة خان زعيم القبيلة الذهبية، وكان من الطبيعي أن يلاقي تجاوباً من الزعيم المغولي المسلم، إذ إن اعتناق هؤلاء المغول الديانة الإسلامية جعلت التحالف بين الطرفين ضرورة سياسية لمواجهة العدو المشترك المتمثل بهولاكو وأسرته، فما أن علم بيبرس باعتناق بركة خان للدين الإسلامي حتى كتب إليه يغريه بقتال هولاكو، ويرغبه في ذلك.
وبالفعل اتفق بركة خان وبيبرس على محاربة هولاكو، وكتب بركة خان برسالة إلى بيبرس يقول له فيها: "فليعلم السلطان أنني حاربت هولاكو الذي من لحمي ودمي لإعلاء كلمة الله العليا تعصباً لدين الإسلام..."[2].
علاقة المماليك ببعض القوى الأوروبية:
لقد اجتذبت موانئ مصر المدن التجارية الإيطالية (البندقية وجنوة وبيزا) بفضل التكاليف الزهيدة للبضائع القادمة من الشرق الأقصى عبر هذا البلد، إضافةً إلى ميزة الحصول على حاصلات الأراضي المصرية ومنتجاتها الصناعية، وكانت هناك من جهة أخرى أرباح كبيرة تتحقق بتوريد بعض السلع الأوروبية التي كانت مصر بحاجة إليها مثل: الحديد والخشب، لكن توثيق العلاقات السلمية مع مصر لم يكن بالسهولة التي تبدو لأول وهلة بسبب عداوة مصر للصليبيين في بلاد الشام.
وكانت المدن الإيطالية خاصة تسأل قبل أن ترتبط بعلاقات تجارية مع مصر: هل تسيء بذلك إلى بقية العالم المسيحي؟ لأن تجار مصر سوف يستفيدون حتماً من جرَّاء المبادلات التجارية، كما تنتفع خزائن السلطان من حصيلة الرسوم الجمركية، ويترتب على ذلك تنامي قوة هذا البلد، مما يشكل ازدياداً في الخطر على المدن الصليبية في بلاد الشام.
وكان التاجر الغربي الذي يتاجر مع مصر يُوصَف بأنه مسيحي فاجر، في حين تعرَّض حكام المماليك الذين يتعاونون مع التجار الغربيين للانتقاد أيضاً، وبالرغم من أن العقبات على التجارة بين مصر والمدن الإيطالية تأتي من الطرفين؛ إلا أنها استمرت ناشطة أحياناً وسط الأجواء العاصفة، وكان الأمل عند الطرفين في الحصول على أرباح ومنافع جسيمة يبدد الكثير من المخاوف.
وإذا كانت العلاقات بين المدن الإيطالية التجارية وبين المماليك تأرجحت بين المشاحنات والهدوء وفقاً لتقلب الظروف السياسية؛ فإن الوضع اختلف مع الإمارات المسيحية في أوروبا الغربية مثل قشتالة وأرغونة وإشبيلية.
ويبدو أن حرص الإمارات المسيحية في أسبانيا على عدم وصول نجدات من دولة المماليك إلى المسلمين في أسبانيا دفع ملوكها إلى مسالمة المماليك، وتبادل الهدايا مع الأمراء في مصر.
وإذا كانت التجارة مع مصر مباحة بوجه عام لرعايا ملك أرغون؛ فإنه كان محظوراً عليهم أن يبيعوا المسلمين مواد بناء السفن، أو سفناً مبنية، وفي عام 673هـ/ 1274م أصدر جيمس الأول ملك أرغون مرسوماً يحظر فيه تصدير المعادن والخشب، والأسلحة والمواد الغذائية إلى مصر.
كما ارتبطت صقلية بعلاقات طيبة مع حكام مصر منذ العهد الأيوبي، وقد تمتع الصقليون في مصر بتخفيض في التعريفات، واستمرت هذه العلاقة الطيبة في عهد دولة المماليك البحرية، إذ حرص مانفرد بن فريدريك الثاني على صداقة السلطان بيبرس، كما حرص هذا الأخير على الاحتفاظ بعلاقة الود التي ربطت مصر بمملكة صقلية، وقد جمعت الطرفين مصلحة مشتركة وهي العداء للصليبيين في بلاد الشام، ومغول فارس.
وتشير المراجع إلى تبادل الهدايا بين بيبرس ومانفرد، فقد أرسل الأول في عام 660هـ/ 1261م وفداً برئاسة المؤرخ جمال الدين بن واصل إلى ملك صقلية، وحمله هدية جليلة منها بعض الزرافات، وبعض أسرى عين جالوت من المغول، وقد رد مانفرد بسفارة مشابهة تحمل الهدايا للسلطان[3].
العلاقة بالبرتغال والكشوف الجغرافية:
ارتبط تاريخ البرتغال التجاري منذ أوائل القرن السادس عشر الميلادي بالكشوف الجغرافية، والواقع أن حركة الكشوف هذه التي تم قسم كبير منها في القرن الخامس عشر الميلادي كانت أهم نتيجة عملية للنهضة الأوروبية، فقد استطاع الملاحون الأوروبيون أن يحققوا أعظم نصر في هذا المجال في أواخر ذلك القرن تمثل في حادثين:
الأول: كشف الأمريكتين ابتداءً من عام (898هـ/ 1492م).
الثاني: كشف الطريق البحري من أوروبا إلى الهند بالالتفاف حول أفريقيا عن طريق رأس الرجاء الصالح في عام (904هـ/1498م).
وكان لهذين الحادثين أثر عميق في تاريخ العالم ومستقبل البشرية[4].
والواقع أنه تضافرت عدة عوامل أدت إلى الكشف الجغرافي الثاني المرتبط مباشرة بموضوعنا، والذي كان رائده فاسكو دي جاما لعلَّ أهمها:
1- التخلص من الرسوم الجمركية الفادحة التي كانت تفرضها السلطات المملوكية في مصر وبلاد الشام على السلع الشرقية عند مرورها في أراضي هذين البلدين.
2- الرغبة في ضرب الاحتكار الذي كان يمارسه تجار البندقية في نقل السلع الشرقية من موانئ مصر وبلاد الشام إلى أوروبا كوسيلة لحرمان هذا البلد من مصادر ثرائه.
3- تطلع التجار من رعايا دول أخرى غير البندقية إلى النزول إلى ميدان التجارة الشرقية، والحصول لأنفسهم على شطر من أرباحها الوفيرة.
4- ضرب المسلمين، حيث أدى العامل الديني دوراً بارزاً في تخطيط سياسة البرتغاليين بهدف تحويل المسلمين في غربي إفريقيا وفي غيرها من المناطق الآهلة إلى المسيحية.
5- سيطرت على الأوروبيين في عصر النهضة رغبة قوية في زيادة معلوماتهم الجغرافية[5].
وبوصول البرتغاليين إلى الهند عن طريق رأس الرجاء الصالح أنشأوا لهم مراكز تجارية مسلحة على سواحل البلاد الواقعة على هذا الطريق، وعملوا على بسط سيطرتهم العسكرية والتجارية على هذه المناطق ابتغاء احتكار تجارة الشرق، ونقلها إلى أوروبا عبر الطريق الجديد.
وقد أحدث نبأ هذا الاكتشاف الجغرافي المهم انفعالاً قوياً في الدوائر الحاكمة في كل من مصر وجمهورية البندقية؛ ذلك لأن كل ما يصيب تجارة الشرق الأدنى من ضرر يزعزع أسس قوتهما وثروتهما.
وتابع البرتغاليون نشاطهم التجاري في الهند لتحقيق هدفين ينتهيان إلى غاية واحدة:
الأول: توسيع مجال تجارتهم بفتح أسواق جديدة.
الثاني: القضاء على تجارة المماليك بتدمير بحريتهم التجارية.
وبالفعل لم يعد أحدٌ يحصي السفن المملوكية التي أغارت عليها أساطيلهم وأغرقتها أو أحرقتها بعد أن نهبت أو دمرت شحنتها، وقتلت ركابها وبحارتها[6].
والواقع أن اتساع نشاط البرتغاليين التجاري في الهند وسيطرتهم على مصادر تجارة التوابل والسلع الشرقية؛ أدَّى إلى حجب وصول هذه السلع بكميات كبيرة إلى مصر وبلاد الشام؛ فبدأت الدولة المملوكية تعاني أزمة اقتصادية عنيفة.
التصادم بين المماليك والبرتغاليين:
وكان السلطان المملوكي قانصوه الغوري يدرك تماماً أن ازدياد نفوذ البرتغاليين في الهند قد يقضي على مصالحه التجارية وهيبته أمام العالم، وقد تأكد له هذا بصورة عملية عندما أرسل في عام (910هـ/ 1504م) أسطولاً تجاريّاً إلى ساحل مالابار شحن كالمعتاد كميات ضخمة من التوابل والسلع الهندية، وأثناء عودة السفن حملت معها عدداً كبيراً من أمراء الهنود، وعدداً من المسلمين في طريقهم إلى الحج، لكن هذه السفن لم تصل كاملة إلى ميناء جدة؛ إذ هاجمتها سفن الأسطول البرتغالي في مياه الهند، وصادرت معظم شحناتها من التوابل والسلع الهندية.
أثارت هذه الأنباء ثائرة السلطان الغوري فقرر إرسال أسطول حربي إلى مياه الهند مؤلفاً من خمسين سفينة، وعين عليه الأمير حسين كردي.
تجمع الأسطول المملوكي في ميناء جدة، ثم انطلق في عام (913هـ/1507م) إلى سورات في مقاطعة جوجيرات، وكان أمراؤها حلفاء للمماليك، وفاجأ الأسطول البرتغالي بقيادة لورنزو دالميدا أو ألميدا الصغير، وأوقع به الهزيمة عند شول إلى الجنوب من بومباي في العام التالي، وقتل القائد البرتغالي في المعركة[7].
تطلبت هذه الهزيمة التي لحقت بالبرتغاليين انتقاماً اضطلع به ألميدا الكبير في شهر ذي القعدة عام 914هـ/ شهر شباط عام 1509م، ودُمِّرت معظم وحدات الأسطولين المملوكي والهندي، وانسحب الأمير حسين كردي بعد ذلك إلى جَدَّة[8].
فجهَّز السلطان قانصوه الغوري أسطولاً آخر لمواجهة البرتغاليين، وعهد بقيادته إلى الأمير حسين كردي، وانضم إليه عدد من الأتراك والمغاربة.
وعندما تحرك الأسطول المملوكي نحو شواطئ الهند في شهر رمضان عام 921هـ/ شهر تشرين الأول عام 1515م رفض سلطان الطاهريين عامر الثاني بن عبد الوهاب تقديم الموانئ والقوى البشرية والتموين للأسطول، منتهكاً بذلك كل التزامات التحالف مع المماليك، وقد أدت خيانة السلطان الطاهري إلى إرباك مخططات المماليك؛ فتأجلت الحملة على الهند، وظل الأسطول المملوكي راسياً عند شواطئ جزيرة قمران مدة ثمانية أشهر منهمكاً في بناء التحصينات الدفاعية.
وقد حصلت هذه الأحداث في الوقت الذي قُتِلَ فيه السلطان الغوري في موقعة مرج دابق أي في نهاية عصر الدولة المملوكية[9].
العلاقات المملوكية العثمانية:
تُعتَبَر العلاقات المملوكية العثمانية هي مفتاح النهاية في تاريخ الدولة المملوكية؛ إذ سقطت دولة المماليك على أيدي العثمانيين نهائيّاً عام 1517م، ولكن سبق ذلك طريق طويل من العلاقات تراوحت بين المودة والتقدير وبين القلق، ثم الصراع الدامي؛ فقد تجددت علاقات الصداقة بين السلطنتين المملوكية والعثمانية بعد زوال الخطر التيموري، وازدادت تماسكاً في عهد السلطان الأشرف برسباي[10].
وازدادت أواصر الصداقة بين الدولتين في عهد السلطان جقمق، فتبودلت المراسلات والسفارات والهدايا بين الدولتين، وأرسل السلطان العثماني مراد الثاني إلى السلطان المملوكي هدية تضم خمسين أسيراً من الأوروبيين وخمسة من الجواري ومكية كبير من الحرير[11].
واستمرت هذه السياسة الودية قائمة في عهد السلطان إينال، فبعد أن أتم السلطان العثماني محمد الفاتح فتح القسطنطينية أرسل إلى السلطان المملوكي رسالة يبشره بانتصاره الكبير، فأرسل إليه إينال رسالة تهنئة، واحتفل في القاهرة بهذا الحدث الجلل احتفالاً رائعاً[12].
تردي العلاقات بين المماليك والعثمانيين (888- 896هـ):
طُويَت صفحة العلاقات الجيدة بين الدولتين المملوكية والعثمانية على أثر فتح القسطنطينية، وفتحت صفحة جديدة سادها العداء بفعل تصادم المصالح، فقد توسعت الدولة العثمانية في الأناضول والجزيرة الفراتية شمالاً حتى البحر المتوسط جنوباً، وجبال طوروس، وفي نفس الوقت كانت دولة المماليك قد سيطرت على قيليقيا.
ومع حرص العثمانيين على استمرار تعزيز الروابط مع المماليك؛ إلا أن هؤلاء بدؤوا يقابلون بشيء من الفتور تنامي العلاقات بين الدولتين بعدما شعروا بتعاظم شعبية العثمانيين بين المسلمين نتيجة فتح القسطنطينية، كما لاحظوا بقلق شديد بروز دولة إسلامية قوية أخذت تنمو على حدودهم، وتشق طريقها الخاص بها، وتزايد قلقهم عندما نشطت في العاصمة العثمانية المساعي لتغيير نظام العلاقات بين الدولتين بعد أن أخذ البكوات حماة الحدود؛ يتلقبون بألقاب السلاطين، ويذكر ابن إياس أن محمداً الثاني كان أول زعيم في بني عثمان اتخذ لنفسه لقب سلطان، وساوى نفسه بحكام مصر.
كان اتخاذ الألقاب السلطانية يرمز إلى تحول العثمانيين إلى سياسة الدولة العظمى، وأن المقصود بذلك تأكيد الدور العالمي للسلطنة العثمانية، وقد أدت هذه السياسة إلى تدهور حاد في العلاقات المملوكية العثمانية، وبدأ المماليك يتوجسون خيفة من العثمانيين، فتبدلت نظرتهم إليهم من مشاعر الاعتزاز إلى مشاعر الغيرة، ثم أضحى الصراع على الهيمنة على زعامة العالم الإسلامي السبب الأساسي والرئيسي للنزاع المملوكي - العثماني.
تزايد الصراع و"جم" يلجأ للمماليك:
بعد وفاة السلطان محمد الفاتح في عام 886هـ/ 1481م بدأ النزاع الداخلي على العرش بين الأخوين بايزيد الثاني وجم، ولم يتمكن جم من الصمود في وجه أخيه فلجأ إلى دولة المماليك، فاستقبله السلطان المملوكي قايتباي بحفاوة بالغة؛ مما أثار غضب السلطان العثماني بايزيد الثاني[13]، واتخذ السلطان العثماني بايزيد الثاني موقفاً عدائيّاً صريحاً من المماليك، وتصرف على محورين:
الأول: أنه ساند عسكريّاً علاء الدولة بن ذي القدر الذي هاجم ملطية التابعة للمماليك في عام 888هـ/ 1483م.
الثاني: أنه أحكم سيطرته على الطرق التجارية، وعلى مصادر الخام البالغة الحيوية للمماليك كأخشاب السفن مثلاً، وبذل جميع المحاولات لإضعاف طاقتهم العسكرية؛ كما عرقل شراء الفتيان من أسواق البحر الأسود لنقلهم إلى مصر، فأرسل السلطان قايتباي حملة عسكرية بقيادة تمراز الشمسي فانتصر على علاء الدولة وحلفائه العثمانيين.
وهكذا أدَّت الصدامات المسلحة التي نشبت مع علاء الدولة بن ذي القدر بين أعوام 888- 890هـ/ 1483- 1485م إلى أول حرب مملوكية - عثمانية[14].
واضطر قايتباي إلى الدفاع عن أراضيه أمام اعتداءات العثمانيين، ومن هنا بدأت حملات الأمير أزبك ضد أراضيهم، واستطاع هذا الأمير إلحاق الهزيمة بالجيوش العثمانية ثلاث مرات، أسر في الحملة الأولى عام 891هـ/ 1486م عدد كبيراً من العثمانيين من بينهم القائد أحمد بك بن هرسك[15]، ونتيجة لوساطة باي تونس عقدت اتفاقية سلام بينهما في 896هـ/ 1491م[16].
تحسن العلاقات بين المماليك والعثمانيين (896- 920هـ):
لقد توقفت الحرب بين الدولتين ولكن بشكل مؤقت، وساد الهدوء جبهات القتال ولكن إلى حين، وتبادل الطرفان الهدايا والوفود سنة بعد سنة، كما نشطت حركة التبادل التجاري بينهما، وكان المماليك يشترون الأخشاب والحديد والبارود من آسيا الصغرى وهي مواد غير متوفرة في مصر[17].
ومن مظاهر المشاركة النفسية الجيدة التي تجلَّت خلال هذه الفترة أنه عندما توفي السلطان العثماني بايزيد الثاني؛ بكى السلطان الغوري عليه، وحزن لوفاته، ثم صلى عليه صلاة الغائب في القلعة، كما صلى الناس عليه بعد صلاة الجمعة في الجامع الأزهر، وجامع ابن طولون[18].
النزاع الأخير بين المماليك والعثمانيين (920- 923هـ):
لم يستمر الصلح بين المماليك والعثمانيين أكثر من ربع قرن، حيث إن تنامي هيبة الدولة العثمانية كحامية لجميع المسلمين، وانتصار سليم الأول على الصفويين في معركة جالديران في رجب عام 920هـ/ آب عام 1514م أزعج السلطان المملوكي قانصوه الغوري، فقد كان انتصار العثمانيين في جالديران مفاجأة غير متوقعة للمماليك الذين التزموا جانب الحياد، تاركين الدولة العثمانية وحيدة في مواجهة الصفويين.
في أوائل عام 921هـ/ 1515م وصلت القاهرةَ تباشيرُ الأنباء عن استعدادات العثمانيين العسكرية، فقد كان الجيش والأسطول يستعدان لشن هجوم على مصر.
وفي مرج دابق شمالي حلب دارت رحى معركة عنيفة بين المماليك والعثمانيين سنة (922هـ- 1516م)، وكان النصر حليف العثمانيين، وانتحر السلطان المملوكي قانصوه الغوري بالسم عندما علم بنتيجة المعركة، وأصبحت بلاد الشام ضمن أملاك العثمانيين.
وبعد انتصار السلطان العثماني سليم الأول في مرج دابق؛ توجه إلى مصر، وبعد انتصاره على المماليك في موقعة الريدانية سنة 923هـ/ 1517م شنق السلطان المملوكي طومان باي على باب زويلة، وبذلك أصبحت مصر ضمن أملاك الدولة العثمانية، وهكذا أُسقِطَت دولة المماليك الجراكسة.
________________
[1] د. طقوش: تاريخ المماليك ص109، 110.
[2] النويري: نهاية الأرب 30/87. العيني: عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان 1/361.
[3] د. طقوش: تاريخ المماليك ص147-149.
[4] د. عبد العزيز الشناوي: أوروبا في مطلع العصور الحديثة 1/104.
[5] المرجع السابق ص105.
[6] هايد: تاريخ التجارة في الشرق الأدنى، ترجمة/ أحمد محمد رضا، 4/30.
[7] أحمد دراج: المماليك والفرنج ص137.
[8] سعيد عبد الفتاح عاشور: العصر المماليكي في مصر والشام ص178، 179. أحمد دراج: المرجع السابق ص137، 138. هايد: تاريخ التجارة في الشرق الأدنى ص31.
[9] د. طقوش: تاريخ المماليك ص554.
[10] المقريزي: السلوك 4/656.
[11] ابن إياس:بدائع الزهور 2/245، 246.
[12] المصدر السابق ص316.
[13] السابق نفسه 3/183-185.
[14] ابن إياس: بدائع الزهور 3/218، 219.
[15] المصدر السابق ص226.
[16] إيفانون: الفتح العثماني للأقطار العربية، ترجمة/ يوسف عطا الله، ص56.
[17] د. طقوش: تاريخ المماليك ص492.
[18] ابن إياس: بدائع الزهور 4/270.