منتديات عرب مسلم
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات عرب مسلمدخول

description الرسول وأخلاق ما بعد النصر .. د/ راغب السرجاني Empty الرسول وأخلاق ما بعد النصر .. د/ راغب السرجاني

more_horiz

تُنسِي نشوة النصر كثيرًا من القادة قواعد الأخلاق الأساسية، فنسمع عن
استباحة للبلاد، وإراقة للدماء، وخراب للعمران، وخُلْفٍ للعهود والوعود..
لكن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النصر كان بعيدًا كل البعد عن
هذه الشرور والآثام، وسنتعرض بإذن الله لطرف من أخلاقه في هذا الموقف، وذلك
من خلال المطالب الآتية:

المطلب الأول: العفو عند المقدرة
لم تكن المعارك التي خاضها الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون بهدف
التشفِّي أو الانتقام من المشركين الذين مارسوا مع المسلمين شتى أنواع
التعذيب، وحاولوا إبادتهم في كثير من الأحايين، لكن المسلمين احتسبوا كل
ذلك عند الله عز وجل، ويؤكد هذا الأمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم في
كثير من المواقف كان يستطيع -من دون شك- أن يقتل من يريد من المشركين،
ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يتعامل بالحسنى والعفو والصفح، بل وينكر
وبقوَّة على من يخالف هذا الأمر. لقد كان هذا العفو من العلامات المميِّزة
له صلى الله عليه وسلم، حتى ذكرها رب العالمين في صفته في كتب الأولين، فقد
قال زيد بن سعنة -رضي الله عنه- أنه قد جاء في التوراة أنه "يَسْبِقْ
حِلْمُهُ جَهْلُهُ، وَلَا يزِيده شِدَّةُ الجَهْلِ عَليِه إِلا حلمًا".
من نماذج هذا العفو ما رواه مسلم في صحيحه في صلح الحديبية عن سلمة بن
الأكوع -رضي الله عنه- قال: ".. ثم إن المشركين راسلونا الصلح حتى مشى
بعضنا في بعض واصطلحنا... قال: فلمَّا اصطلحنا نحن وأهل مكة واختلط بعضنا
ببعض أتيت شجرة؛ فكسحت شوكها؛ فاضطجعت في أصلها. قال: فأتاني أربعة من
المشركين من أهل مكة فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
فأبغضتهم، فتحوَّلْتُ إلى شجرة أخرى، وعلَّقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينما هم
كذلك إذ نادى منادٍ من أسفل الوادي: يا لَلْمُهاجرين..!! قُتِلَ ابنُ
زُنَيْم، قال: فاخترطت سيفي، ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رُقُود؛ فأخذت
سلاحهم؛ فجعلته ضِغثًا في يدي، قال: ثم قلت: والذي كَرَّمَ وجهَ محمد لا
يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه (يعني: رأسه!!)، قال: ثم جئت
بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء عمي عامر برجل من
العَبَلات يقال له: مِكْرَزٌ يقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على
فرس مُجفَّف في سبعين من المشركين؛ فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم؛ فقال: «دَعُوهُمْ يَكُنْ لَهُمْ بَدْءُ الْفُجُورِ‏ ‏وَثِنَاهُ» فعفا
عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ
بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرًا} [الفتح: 24]... قال: ثم خرجنا راجعين إلى المدينة..." الحديث.

هكذا ببساطة.. لم ينتقم، فيسفك الدماء، وينتهك الأعراض، وينهب الدُّور، بل
العفو هو شيمته صلى الله عليه وسلم في كل وقتٍ، وفي مواجهة كل عدو، وسيأتي
بإذن الله تفصيل لموضوع العفو عن الأسرى في باب قادم.

ثم إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعفو عن الأفراد الذين لا يقدمون كثيرًا
ولا يؤخرون في سير الأحداث فقط، بل كان يعفو عن شعوب كاملة، وأمم بأسرها،
وذلك خُلُق فريد في القادة الحربيين؛ أن يعفوا عن شعوبٍ ناصبتهم وجيوشَهم
العَدَاء، وحاربتهم طويلاً، وقتلت منهم الكثير، وسَامَتْهُم سوء العذاب
عندما كانت تتحكم فيهم، ولكن لأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن
شِيَمه العظيمة العفوُ؛ فقد عفا كثيرًا، ومن أشهر مواقفه في هذا الصدد عفوه
عن أهل مكة.

إن الكلمات الخالدة التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل مكة يوم فتح
مكة ينبغي أن تُكتَب بماء من ذهبٍ، فهي إنما تُنبِيء عن معدن نفيسٍ نقيٍّ
غاية النقاء.. قال صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّ اللّهَ
قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَظّمَهَا
بِالْآبَاءِ، النّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ»، ثم تلا هذه الآية:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]،
ثم قال صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تُرَوْنَ أَنّي
فَاعِلٌ فِيكُمْ؟» قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ.
قَالَ: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطّلَقَاءُ».

ولم يكن هذا العفو خاصًّا بأهل مكة فقط، حتى لا يقول أحدٌ أنهم -أي أهل
مكة- الأهل والعشيرة ولذلك عفا عنهم، بل كان هذا يحدث مع كثير من الشعوب
والقبائل بصرف النظر عن أصولهم وأجناسهم، وما أروع موقفه صلى الله عليه
وسلم مع قبيلة هوازن، وذلك بعد انتصار غزوة حنين المهيب، مع العلم أن جذور
هوازن بعيدة جدًا عن قريش التي ينتمي إليها الرسول صلى الله عليه وسلم، بل
إن التاريخ يُثْبِت خلافات عميقة بين القبيلتين. ولكي نقدِّر عظمة أخلاق
الرسول صلى الله عليه وسلم لا بد لنا من العودة إلى التاريخ بعض الشيء،
لكي نتعرف على جذور هذه القبيلة وعلاقتها بقريش، فكما نعلم أن العرب بصفة
عامة ينقسمون إلى قسمين رئيسيين عدنانيين وقحطانيين، ثم ينقسم العدنانيون
بدورهم إلى ربيعة ومضر، ومضر تنقسم إلى إلياس وعيلان, وهما فرعان كبيران
جدًا، وتأتى قبيلة قريش من فرع إلياس بعد تفرعات كثيرة، وتأتي قبيلة هوازن
من عيلان بعد تفرعات كثيرة أيضًا، وكما هو معروف كلما بعدت الأنساب ازدادت
الحساسيات بين القبائل، وفقد الناس الشعور بالرحم التي ينتمون إليها، وقد
كانت الصراعات والتنافسات تقوم بين أولاد العمومة كبني هاشم وبني مخزوم،
وكالأوس والخزرج، فما بالكم بهذه الفروع البعيدة! ولقد أكل الحقد والخوف
قلوب أهل هوازن عندما شاهدوا التقدم الملموس للحركة الإسلامية، خاصَّة أن
الرسول صلى الله عليه وسلم قرشي، ومن ثمَّ جمعت هوازن مع أولاد عمومتهم
ثقيف أكثر من خمسة وعشرين ألفًا من المقاتلين بهدف استئصال المسلمين
استئصالاً كاملاً من الوجود، فكانت غزوة حنين الخطيرة، ولكن الله عز وجل
شاء أن يكتب النصر للمسلمين بعد هِزَّةً سرعان ما تماسكوا بعدها، وبعد
المعركة غَنِم المسلمون غنائم كثيرة من الإبل والشياه، وأسروا عددًا مهولاً
من المشركين بلغ في بعض الروايات ستة آلاف، ووزَّع رسول الله صلى الله
عليه وسلم هذه الغنائم كلها على الجيش المنتصر، وأعطى المؤلفة قلوبهم عطاءً
سخيًا، ونفدت كل الغنائم ولم يحتفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه
بأيِّ شيء!!

وبعد انتهاء توزيع الغنائم حدثت مفاجأة ضخمة لم تكن متوقعة..!!

لقد جاء وفدٌ من قبيلة هوازن إلى وادي الجعرانة، لإعلان الإسلام أمام النبي
صلى الله عليه وسلم، وكان الوفد يُمَثِّل كلَّ بطون هوازن ما عدا ثقيف،
وذلك بعد أقلِّ من شهرين من حرب حُنَيْن الهائلة، وذلك بعد أن فقدوا كل
شيء، فقد خسروا نساءهم وأبناءهم، وأموالهم، وأنعامهم، وكانوا قد فَرُّوا
إلى الطائف مع ثقيف، وما استطاعوا الخروج لحرب المسلمين، وكان من الممكن أن
يفقدوا ديارهم ويعيشوا عمرهم لاجئين عند ثقيف في الطائف، ولكنهم فكَّروا
في العودة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد يقبل منهم إسلامهم، ويعيد
إليهم بعض الممتلكات.

وأعلن وفد هوازن الإسلام أمامَ النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول
الله إنَّا أهلٌ وعشيرةٌ، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك، فامنن
علينا مَنَّ الله عليك.

لقد أصبح الموقف في غاية الحرج، فها هي القبيلة الضخمة هوازن تأتي لتعلن
إسلامها، ولتسترد بعض ما ذهب منها، ومن المحتمل أن يرتدوا إذا لم يستردوا
أسراهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم -كما ذكرنا- قد قسَّم كل الغنائم
على الجيش، فأربعة أخماس الغنائم قُسِّمت على أفراد الجيش العام، وقُسِّمَ
الخُمسُ الباقي على سادة القبائل وطلقاء مكة وغيرهم من المؤلفة قلوبهم، وقد
أعطى النبي صلى الله عليه وسلم هذه العطايا ليتألّف بها الناس، ولو أخذ
النبي صلى الله عليه وسلم منهم ما أعطاهم لارتدوا عن الإسلام، فهو يريد
إسلام هوازن، وفي الوقت نفسه يريد ثبات أهل مكة وزعماء القبائل، فكيف
الخروج من هذه الأزمة؟!

قال الرسول صلى الله عليه وسلم لوفد هوازن: «أَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ
أَحَبّ إلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ؟» فقالوا: يا رسول الله خيرتنا بين
أحسابنا وأموالنا؟ بل أبناؤنا ونساؤنا أحب إلينا؛ فقال الرسول صلى الله
عليه وسلم: «أَمّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهُوَ
لَكُمْ، وَإِذَا مَا أَنَا صَلّيْت الظّهْرَ بِالنّاسِ فَقُومُوا
فَقُولُوا: إنّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى
الْمُسْلِمِينَ وَبِالْمُسْلِمِينَ إلَى رَسُولِ اللّهِ فِي أَبْنَائِنَا
وَنِسَائِنَا، فَسَأُعْطِيكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَسْأَلُ لَكُمْ».

فلمّا صَلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر؛ قاموا فقالوا ما
أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: «أَمّا مَا كَانَ لِي
وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ»؛ فقال المهاجرون: وما كان لنا
فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول
الله صلى الله عليه وسلم.

وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة: أما أنا وبنو
فزارة فلا، وقال العباس بن مرداس السلمي: أما أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو
سليم: بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عباس بن
مرداس لبني سليم: وهنتموني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ
تَمَسّكَ مِنْكُمْ بِحَقّهِ مِنْ هَذَا السّبْيِ فَلَهُ بِكُلّ إنْسَانٍ
سِتّ فَرَائِضَ مِنْ أَوّلِ سَبْيٍ أُصِيبُهُ». فَرَدّوا إلَى النّاسِ
أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ.

وبهذا وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هوازن إلى حَلٍّ وَسَطٍ، بإعادة
نسائهم وأبنائهم، مع إشعارهم أنه معهم قلبًا وقالبًا، وأقنع المسلمين في
ذات الوقت بترك الأسرى والسبي ابتغاء مرضاة الله عز وجل، وترك لهم الغنائم.

وما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم هو مُنتهَى الحكمة، وبه انتهت مشكلة
هوازن، ودخلت في الإسلام بنفسٍ راضيةٍ، وقد تيقنت أنها تتعامل مع رسول،
وليس مع مجرد زعيم أو قائد، وما أعتقد أن في تاريخ الأمم مثل هذا الرقي في
التعامل مع العدو بعد النصر! ولم يكن هذا ليحدث لولا أن إسلام القوم كان
أحب إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموالهم وغنائمهم، ولولا أن
القتال كان خالصًا لله عز وجل، فما أعظمَ عفوك يا رسول الله!

المطلب الثاني: العفو عن زعماء الأعداء

في المطلب السابق مر بنا كيف تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعفو مع
غير المسلمين، فذكرنا إحسانه وكرمه في تعامله معهم بكل طوائفهم، بل ذكرنا
كيف تعامل بالعفو مع المدن والشعوب التي آذته كثيرًا، كأهل مكة وهوازن، وهو
ما يكاد أن يكون نادرًا تمامًا في تاريخ أيِّ أمة من أمم الأرض. وإذا كانت
الصور السابقة من صور التعامل نادرة، فإن الصورة التي سنتناولها في هذا
المطلب تكاد تكون مستحيلة!!

إننا سنتناول في هذا المطلب عفوه صلى الله عليه وسلم عن زعماء الأعداء
الذين قاوموه وحاربوه سنواتٍ عديدة.. سنتناول عفوه عن أولئك الذي جَيَّشُوا
الجيوش، وحزَّبُوا الأحزاب لاستئصال شأفة المسلمين..

سنتناول عفوه مع أولئك الذين لم يكتفوا بالسخرية منه والكيد له، بل حفَّزوا
الآخرين على فعل ذلك، وكانوا في فترة من فترات حياتهم أكابر المجرمين،
وقادة الضالين.. بل إننا سنتناول عفوه عن أولئك الذين دبَّروا المحاولات
تلو المحاولات لقتله هو شخصيًا، فما ترك ذلك في قلبه حقدًا، وما أورث
غِلاًّ، وما غيَّر من أخلاقه المعهودة، ولا من طبيعته الرقيقة صلى الله
عليه وسلم.. ونظرة إلى ما يفعله عموم القادة في العالم مع زعماء أعدائهم
توضِّح بجلاء عظمة الأخلاق النبوية ونبلها!

ولعل من أروع الأمثلة على هذا الأمر موقفه صلى الله عليه وسلم مع عكرمة بن أبي جهل أحد كبار زعماء مكة!

كان عكرمة من أشد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم ضراوة في تاريخ
السيرة كلها، وقد شرب العداوة جُلَّ هذه المدة الطويلة من أبيه فرعون هذه
الأمة وألدِّ أعداء الإسلام أبي جهل.. ولكن عكرمة استمر وزاد في العداوة
للدرجة التي جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم يُريق دمه عند فتح مكة
باعتباره من مجرمي الحرب آنذاك..

وكان عكرمة من القليل الذي قاتل في الخندمة ضد خالد بن الوليد -رضي الله
عنه- ، ولكنه بعد هزيمته فرَّ من مكة المكرمة وحاول أن يصل في فراره إلى
اليمن، وذهب بالفعل إلى البحر ليأخذ سفينة وينطلق بها إلى اليمن..

إن طريقه في الكفر طويل، وهو مطلوب الدم، وإذا وجده الرسول صلى الله عليه وسلم سيقتله بلا جدال.

وقد أرادت زوجة عكرمة أم حكيم بنت الحارث بن هشام أن تنقذ زوجها، فذهبت
-بعد أن أسلمت- إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لتشفع عنده لعكرمة بن أبي
جهل في أن يعود إلى مكة المكرمة آمنًا، وقالت: "قد هرب عكرمة منك إلى
اليمن، وخاف أن تقتله فأمِّنْهُ".. فرد الرسول صلى الله عليه وسلم في يسر
وسهولة: «هُوَ آمِنٌ» !!

لم يذكر لها صلى الله عليه وسلم أنه مهدَر الدم، ولم يذكِّرْها بتاريخه
الطويل، ولم يقل لها: أنت حديثة الإسلام جدًا فكيف تشفعين لغيرك؟! لم يقل
لها أيًا من ذلك، ولم يشترط عليه أو عليها شروطًا، وإنما قال: «هُوَ
آمِنٌ»!

وخرجت أم حكيم الزوجة الوفية تبحث عن زوجها، وذهبت حتى وصلت في رحلة طويلة
إلى عكرمة وهو يحاول أن يركب سفينة في ساحل البحر الأحمر متجها إلى اليمن،
فقالت له: "يا ابن عم، قد جئتك من عند أَوْصَلِ الناس، وأبرِّ الناس، وخيرِ
الناس.. لا تُهلك نفسك، إني استأمنت لك محمدًا صلى الله عليه وسلم". فقال
لها: أنت فعلتِ هذا؟! قالت: نعم.

وعكرمة بن أبي جهل في ذلك الوقت يرى الدنيا كلها قد ضُيِّقَتْ عليه، فأين
يذهب؟ إنه يريد أن يذهب الآن إلى اليمن، واليمن بكاملها مسلمة، وبقاع الأرض
تتناقص من حوله، والجميع الآن يدخلون في دين محمد صلى الله عليه وسلم
وحِلفه، فأخذ عكرمة قرارًا سريعا بالعودة معها دون تفكير طويل.

وقبل أن يدخل عكرمة مكة إذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه
كلمات جميلة.. قال: «يَأْتِيكُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ مُؤْمِنًا
مُهَاجِرًا، فَلا تَسُبُّوا أَبَاهُ، فَإِنَّ سَبَّ الْمَيِّتِ يُؤْذِي
الْحَيَّ، وَلا يَبْلُغُ الْمَيِّتَ».

فأيُّ أخلاق كريمة كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه؟!

لقد كان أبو جهل فرعون هذه الأمة، ومع ذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم يأمر
الصحابة -رضي الله عنهم- بألا يلعنوا أبا جهل أمام ابنه عكرمة؛ لكي لا
يؤذوا مشاعره، مع أن عكرمة لم يُسلم حتى هذه اللحظة..

ودخل عكرمة بن أبي جهل إلى مكة المكرمة، ومن بعيد رآه الرسول صلى الله عليه وسلم، فماذا فعل..؟!

هل تذكَّرَ أبا جهل؟! هل استعاد بذاكرته الغزوات التي شارك فيها عكرمة
صادًّا عن سبيل الله..؟! هل فكَّر في قتال عكرمة للمسلمين منذ أيام عند
الخندمة..؟! هل نظر إلى حالة الضعف والهوان الشديد التي جاء بها عكرمة،
فأراد أن يُلَقِّنَهُ درسًا يعرف به قوة الدولة الإسلامية؟!

إنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل أيًا من هذا الذي يتوقعه أي سياسي!!

لقد وثب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عكرمة وما عليه رداء فرحًا به،
وانبسطت أساريره وهو يرى عكرمة بن أبي جهل يعود إليه، مع أنه لم يسلم بعد،
لكن هذه هي طبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تكلف..

وجلس عكرمة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا محمد، إن هذه (وأشار لزوجته) أخبرتني بأنك أمَّنتني!

فقال الرسول صلى الله عليه وسلم دون تفصيلات ولا شروط: «صَدَقَتْ فَأَنْتَ آمِنٌ».

فقال عكرمة: إلام تدعو يا محمد..؟

فقال له: «أَدْعُوكَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ،
وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَأَنْ تُؤْتِيَ
الزَّكَاةَ». وتفعل، وتفعل... وأخذ يعدد عليه أمور الإسلام، حتى عدَّدَ له
كل الخصال الحميدة.

فقال عكرمة: ما دعوتَ إلا إلى الحق وأمر حسن جميل..!!

والقلوب بين أصابع الرحمن يقلِّبُهَا كيف يشاء، ففي هذه اللحظات فقط شعر
عكرمة بن أبي جهل -رضي الله عنه- أن كل ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم
كان حقًّا، وأن كل ما تحدَّثَ عنه قبل ذلك أيام مكة وبعد مكة كان صدقًا،
وكان من كلام النبوة والوحي..!! وهنا قال عكرمة بن أبي جهل: قد كنتَ
-والله- فينا تدعو إلى ما دعوت إليه، وأنت أصدقُنا حديثًا، وأَبَرُّنَا
بِرًّا، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله.

وفي لحظة واحدة انتقل عكرمة من معسكر الكفر إلى معسكر الإيمان!!

ثم قال عكرمة: يا رسول الله، علمني خير شيء.. فقال الرسول صلى الله عليه
وسلم: «تَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ». فقال عكرمة: ثم ماذا؟ قال: «أَنْ تَقُولَ:
أُشْهِدُ اللَّهَ، وَأُشْهِدُ مَنْ حَضَرَ أَنِّي مُسْلِمٌ وَمُهَاجِرٌ
وَمُجَاهِدٌ». فقال عكرمة هذه الكلمات.. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم
وهو يعرف أن عكرمة ما زال حديث عهد بالإسلام، ويحاول قدر المستطاع أن
يقرِّبه إلى الدين: «لا تَسْأَلُنِي الْيَوْمَ شَيْئًا أُعْطِيهِ أَحَدًا
إِلا أَعْطَيْتُهُ لَكَ». فلم يطلب عكرمة بن أبي جهل مالاً، أو سلطانًا، أو
إمارة، وإنما طلب المغفرة فقال: فإني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة
عاديتُكَهَا، أو مسيرٍ أوضعت فيه، أو مقام لقيتك فيه، أو كلام قلته في
وجهك، أو أنت غائب عنه. فقال صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ
كُلَّ عَدَاوَةٍ عَادَانِيهَا، وَكُلَّ مَسِيرٍ سَارَ فِيهِ إِلَى
مَوْضِعٍ يُرِيدُ فِي هَذَا الْمَسِيرِ إِطْفَاءَ نُورِكَ، فَاغْفِرْ لَهُ
مَا نَالَ مِنِّي مِنْ عِرْضٍ فِي وَجْهِي، أَوْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهُ».
فقال عكرمة: رضيتُ يا رسول الله.. ثم قال صادقًا: لا أدع نفقةً كنت أنفقها
في صدٍّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً كنت أقاتل
في صد عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله.

ووهب عكرمة حياته للجهاد في سبيل الله سواء في حروب الردة، أو في فتوح
الشام، حتى قُتِلَ شهيدًا -رضي الله عنه- في اليرموك..! ولننظر كيف بدَّل
الله عز وجل حياته كاملة بحسن استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم له،
وبتأمينه إياه، وبغفرانه له كل التاريخ الأسود الذي كان له مع المسلمين؛
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: «لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ
رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ»، وفي رواية: «خَيْرٌ
لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ».

وما ذكرناه في حق عكرمة -رضي الله عنه- ينطبق كذلك على سهيل بن عمرو، الزعيم القرشي المشهور!

كان سهيل بن عمرو من كبار زعماء قريش بل مكة، وكان من الزعماء الذين لهم
تاريخ أسود وطويل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من كبار السن، وله
من الأولاد الكثير، وكان معظم هؤلاء الأولاد في جيش المسلمين الفاتح لمكة،
وبعد أن فُتِحَ البلد الحرام لم يجد له عونًا من الزعماء الذين كانوا معه
قبل ذلك، فقد فرُّوا أمام الجيش الإسلامي، ففرَّ هو الآخر ودخل بيته كما
يقول: "فانقحمت في بيتي، وأغلقت عليّ بابي"!!

ثم يقول: "وأرسلتُ إلى ابني عبد الله بن سهيل -وهو من جنود الجيش الإسلامي
الفاتح- أن اطلب لي جوارًا من محمد، فإني لا آمن من أن أُقتل، فليس أحد
أسوأ أثرًا مني؛ فإني لقيت الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية بما لم
يلقه أحد، وكنت الذي كاتبته، مع حضوري بدرًا وأُحُدًا ضد المسلمين".

إنه لصاحب تاريخ طويل في الصدِّ عن سبيل الله، وكان صارمًا وعنيدًا جدًا
يوم الحديبية، ثم إنه رفض انضمام ابنه إلى صف المسلمين برغم شفاعة الرسول
صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، ولكنه الآن يقف موقفًا صعبًا خطيرًا يجعل
احتمال قتله واردًا جدًا، وتملَّكه الرعب إلى الدرجة التي جعلته لا يتردد
في أن يطلب من ابنه الصغير أن يتوسط له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
!! وفي هذا -كما هو واضح- ما فيه من جُرحٍ عميقٍ لنفس الزعيم الكبير..

يقول سهيل بن عمرو: ذهب عبد الله بن سهيل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أَمّنْه.

فقال صلى الله عليه وسلم دون تردد: «نَعَمْ، هُوَ آمِنٌ بِأَمَانِ اللَّهِ، فَلْيَظْهَرْ»!!

ولنقارن هذا التعامل من الرسول صلى الله عليه وسلم مع كبار زعماء مكة
المكرمة بما يحدث عند احتلال دولةٍ لدولة أخرى..!! إننا نرى الأمراء
والوزراء والكبراء في البلد المغلوب وقد استُهْدِفُوا بالقتل أو النفي أو
السجن لفترات طويلة، ولا يخفى على أحد مدى الإهانة التي يتعرضون لها، لكن
الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكتفي بإعطاء الأمان لزعماء العدو، بل
ويَحُضُّ الجميع على احترامهم، وعلى عدم التعرُّض لهم بكلمة جارحة، ولا حتى
بنظرة مؤذية، فيقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه في رُقِيٍّ عجيبٍ، وفي
أدبٍ رفيعٍ: «مَنْ لَقِيَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو فَلَا يَشُدَّ النَّظَرَ
إِلَيْهِ»!!

إن الرسول صلى الله عليه وسلم يمنع الصحابة من أن يشددوا النظر إلى سهيل بن
عمرو شماتةً فيه، أو تشفيًّا منه! بل إنه يفعل ما هو أعظم من ذلك، فيمدح
سهيلاً، ويُثني عليه، فيقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «.. فَلَعَمْرِي
إِنَّ سُهَيْلاً لَهُ عَقْلٌ وشَرَفٌ، وَمَا مِثْلُ سُهَيْلٍ جَهِلَ
الْإِسْلَامَ، لَقَدْ رَأَى مَا كَانَ يُوضَعُ فِيهِ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ
لَهُ بِنَافِعِ».

والكلمات تُعجزنا عن التعليق!!

وانطلق عبد الله بن سهيل إلى أبيه ليخبره بعفو الرسول صلى الله عليه وسلم
عنه، فلما ذكر له هذه الكلمات، قال سهيل: كان والله بارًّا صغيرًا
وكبيرًا..!!

وتوجه سهيل بن عمرو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلم بين يديه،
وتغَيَّرت حياته كليَّةً بعد هذا اليوم، وكان -كما يقول الرواة- كثير
الصلاة والصوم والصدقة، وخرج مجاهدًا في سبيل الله، بل كان أميرًا على إحدى
فرق المسلمين في موقعة اليرموك..

فانظر إلى جميل فعله صلى الله عليه وسلم وكيف كان يحوِّل حياة الناس إلى ما
لا يتخيله أحد، وذلك بحسن المعاملة، وسعة الصدر، ونسيان الضغائن والأحقاد.

أما عفوه عن فضالة بن عمير -أحد أشد أعداء أهل مكة- فيحتاج إلى وقفة خاصَّة!

لقد كان فضالة بن عمير من أشدِّ أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم، ووصل
حقده على الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الدرجة التي أراد معها أن يقتله في
وقت الفتح..!! وهذا أمر جدُّ خطير؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم في وسط جيش
كبير يبلغ عشرة آلاف من الصحابة رضوان الله عليهم، وإذا قام فضالة بن عمير
بهذا التَهَوُّر فلا شك أنه مقتول، وهذا يوضح مدى الحقد الذي ملأ قلبه،
فقرر أن يضحي بنفسه ليقتل الرسول صلى الله عليه وسلم..!!

حمل فضالة السيف تحت ملابسه، ومرَّ بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم وهو
يطوف بالبيت، فلما دنا منه قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أَفُضَالَةُ؟»
قال: نعم، فضالة يا رسول الله.. (وكان يدَّعِي الإسلام في ذلك الوقت).

فقال صلى الله عليه وسلم: «مَاذَا كُنْتَ تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ؟» قال:
لا شيء، كنتُ أذكر الله.. فضحك الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال:
«اسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَا فُضَالَةُ».. ثم وضع صلى الله عليه وسلم يده على
صدر فضالة فسكن قلبه!!

فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيءٌ أحبُّ إليَّ منه صلى الله عليه وسلم.

كان هذا هو تعامله صلى الله عليه وسلم مع رجلٍ لم يكتفِ بالتخطيط لقتله
فحسب؛ بل اجتهد في تطبيق ما خَطَّطَ، وحمل السيف واقترب، لولا أن حفظ الله
عز وجل رسوله..

ونختم هذا المطلب بموقف لا يقلُّ عظمة عما سبق، وهو موقفه صلى الله عليه وسلم مع هند بنت عتبة!

لقد كانت هند بنت عتبة من النساء اللاتي حاربن الإسلام طويلاً، ولسنواتٍ
كثيرة، ولها ذكريات مؤلمة جدًا في أذهان المسلمين، بل وعند رسول الله صلى
الله عليه وسلم شخصيًا..

وهند بنت عتبة هي زوجة أبي سفيان -رضي الله عنه-، وابنة عتبة بن ربيعة
القائد القرشي المشهور، وكانت من أشدِّ الناس حقدًا على المسلمين، وبدأ هذا
الحقد من أول أيام الإسلام، ولكنه زاد بشدة وتضاعف بعد يوم بدر؛ بعد أن
قُتل في ذلك اليوم أبوها عتبة بن ربيعة، وعمها شيبة بن ربيعة، وابنها حنظلة
بن أبي سفيان، وأخوها الوليد بن عتبة.. فهؤلاء أربعة من أقرب الأقربين
إليها، وهم جميعًا من سادة قريش؛ فأورث ذلك في قلبها كراهية لا يماثلها
فيها أحد، وظلت على هذا العداء حتى فتح مكة، وكانت من اللائي خرجن مع جيش
الكفار في موقعة أحد، تُحمَّس الجيش القرشيَّ لقتال المسلمين، ولما فرَّ
الجيش من أمام المسلمين في أول المعركة كانت تقذف في وجوههم التراب وتدفعهم
دفعًا لحرب المسلمين، ولم تفرَّ كما فرَّ الرجال..!!

ثم إنه بعد انتصار أهل مكة على المسلمين في نهايات موقعة أحد قامت بفعل
شنيع، وهو التمثيل بجثث المسلمين، فكانت تُقَطِّع الآذانَ والأنوفَ، حتى
وصلت إلى حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- عمِّ الرسول صلى الله عليه
وسلم فبقرت بطنه، وأخرجت كبده، وفي حقد شديد لاكت منه قطعة، فما استساغتها،
فلفظتها !!

وقد أثَّر هذا الموقف بشدة في رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك في قلبه
جرحًا عميقًا.. يقول أبو هريرة -رضي الله عنه-: وقف رسول الله صلى الله
عليه وسلم على حمزة، وقد مُثِّلَ به، فلم يَرَ منظرًا كان أوجع لقلبه منه،
فقال: «رحمك الله أي عم؛ فلقد كنت وصولاً للرحم، فعولاً للخيرات»..

فتخيل مدى الغضب الذي في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ناحية هند.

ثم إنها خرجت مع المشركين في غزوة الأحزاب، بل استمرَّت في حربها ضد
الإسلام حتى اللحظات الأخيرة قُبَيْلَ فتح مكة، حتى إنها رفضت ما طلبه
زوجها من أهل مكة أن يدخلوا إلى بُيُوتهم؛ طلبًا لأمان الرسول صلى الله
عليه وسلم، بل دَعَت أهل مكة لقتل زوجها أبي سفيان عندما أَصَرَّ على
الخضوع للرسول صلى الله عليه وسلم، ودفعتهم دفعا إلى القتال !

إنه تاريخ طويل وشرس لهذه المرأة مع المسلمين.

وبعد هذه الرحلة الطويلة للصدِّ عن سبيل الله، فتح رسول الله صلى الله عليه
وسلم مكَّة، وأقبل أهلُها من كلِّ مكان يبايعون على الإسلام.. وكما جاء
الناس جاءت هند بنت عتبة، وهي منتقبة لا يعرفها صلى الله عليه وسلم تريد أن
تبايع كما يبايع الناس!!

إنَّ أيَّ مُطَّلِعٍ على الأمور لن يفترض في قدوم هند بنت عتبة للبيعة إلا
محاولة منها للهروب من حكم بالقتل هو لا محالة صادر!! ولكن الموقف كان شديد
البُعد عن توقعات الناس! فماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

لقد بدأت النساء تبايع، وقال صلى الله عليه وسلم لهن: «بَايِعْنَنِي عَلَى
أَلاَّ تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا». فقالت هند وهي منتقبة، والرسول صلى
الله عليه وسلم لا يعرفها: والله إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه من الرجال..
أي أن هناك تفصيلات كثيرة للنساء، والرجال قد بايعوا بيعة واحدة.. لكن
الرسول صلى الله عليه وسلم لم يلتفت إلى اعتراضها، وأكمل: «وَلا
تَسْرِقْنَ».. فوقفت هند وقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا
يعطيني ما يكفيني، ويكفي بَنِيَّ، فهل عليَّ من حرج إذا أخذت من ماله بغير
علمه؟! فقال صلى الله عليه وسلم: «خُذِي أَنْتِ وَبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ
بِالْمَعْرُوفِ». ثم انتبه صلى الله عليه وسلم إلى أن هذه التي تتكلم هي
هند بنت عتبة زوج أبي سفيان، فقال صلى الله عليه وسلم: «وَإِنَّكَ لَهُنْدُ
بِنْتُ عُتْبَةَ؟!».. قالت: نعم.. هند بنت عتبة، فاعف عمَّا سلف، عفا الله
عنك!

إنها لحظة فاصلة في حياة هند بنت عتبة!

تُرى ماذا سيفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يتذكر تاريخها الطويل،
وعندما يتذكر حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه-، وما حدث له على يدها..؟

لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كعادته وطبيعته يعفو ويصفح، فلم
يُعَلِّقْ ولا بكلمة واحدة على كل ذكرياته المحزنة، بل تنازل عن كل الحقوق،
وقَبِل إسلامها ببساطة، وأكمل البيعة مع النساء وكأنه لم يتأثر أبدًا!!

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَلا تَزْنِينَ».. واستمرت هند في
اعتراضاتها، فقالت: يا رسول الله، وهل تزني الحرة..؟! فلم يتوقف الرسول صلى
الله عليه وسلم، بل أكمل: «وَلا تَقْتُلْنَ أَوْلادَكُنَّ».. فقالت هند:
قد ربيناهم صغارًا، وقتلتهم كبارًا، هل تركت لنا ولدًا إلا قتلته يوم بدر؟
أنت قتلت آباءهم يوم بدر، وتوصينا الآن بأولادهم!!

فلم ينفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل لها: ولماذا قاتلناهم في
بدر؟! أفلم يكن ذلك لأن المشركين -ومنهم أبوك وعمك وأخوك وابنك- حاربونا
ليل نهار ليفتنونا عن ديننا، وقهرونا وعذبونا وصادروا ديارنا وأموالنا..؟
لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من ذلك، وإنما كان رد فعله
عجيبًا!!

لقد تبَسَّم صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا، وأخذ الموضوع بشيء من
البساطة، وقدَّر موقف هند بنت عتبة، ومدى صعوبة الإسلام عليها.. ثم قال صلى
الله عليه وسلم: «وَلا تَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ بَيْنَ
أَيِدِيكُنَّ وَأَرْجُلِكُنَّ».. فقالت هند: والله إن إتيان البهتان لقبيح.
فقال صلى الله عليه وسلم: «وَلا تَعْصِينَنِي فِي مَعْرُوفٍ».. فقالت هند:
والله ما جلسنا هنا وفي أنفسنا أن نعصيك في معروف.

وهكذا بايعت نساء مكة جميعًا، بمن فيهن هند بنت عتبة -رضي الله عنها- هذه البيعة المباركة.

وسبحان مقلِّب القلوب! لقد حسن إسلام هند بنت عتبة، وكما كانت تخرج مع جيوش
الكفار لتُحَمِّسَهَا لحرب المسلمين، بدأت تخرج مع جيوش المسلمين
لتحمِّسَهُمْ لحرب الكفار!! وكان من أشهر مواقفها يوم اليرموك عندما بدأت
تشجع المسلمين على القتال في سبيل الله، وعلى خوض غمار المعركة الهائلة ضد
مائتي ألف رومي، فكانت من أسباب النصر العظيمة في ذلك اليوم المجيد.

لقد أصبحت هند بنت عتبة -رضي الله عنها- إضافةً قويةً للأمة الإسلامية،
وكانت البداية موقفًا بديعًا من الرسول صلى الله عليه وسلم، وما أكثر
الأعداءَ الذين تحوَّلُوا إلى أخلص الأصدقاء بموقف منه صلى الله عليه
وسلم..!!

description الرسول وأخلاق ما بعد النصر .. د/ راغب السرجاني Emptyرد: الرسول وأخلاق ما بعد النصر .. د/ راغب السرجاني

more_horiz
 الرسول وأخلاق ما بعد النصر .. د/ راغب السرجاني 12887423065


منتديات عرب مسلم | منتدى برامج نت | منتدى عرب مسلم | منتديات برامج نت | منتديات مثقف دوت كوم | منتديات برامج نت العربية | منتديات العرب | منتدى برامج نت المجانية | إعلانات مبوبة مجانية | إعلانات مجانية | اعلانات مبوبة مجانية | اعلانات مجانية | القرآن الكريم | القرآن الكريم قراءة واستماع | المكتبة الصوتية للقران الكريم mp3 | مكتبة القران الكريم mp3 | ترجمة القرآن | القرآن مع الترجمة | أفضل ترجمة للقرآن الكريم | ترجمة القرآن الكريم | Quran Translation | Quran with Translation | Best Quran Translation | Quran Translation Transliteration | تبادل إعلاني مجاني
privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد