تشكل درجات باب العمود في القدس حالة رمزية مهمة للنضال الشعبي ضد الاحتلال. وقد اتخذ باب العمود منذ أيام الاحتلال الأولى دوره في حالات الصمود والتصدي والمقاومة. عند هذا الباب، وفي اليوم الثاني من الاحتلال وغزو الوجوه الغريبة، عمدت قواته إلى وضع حافلات كبيرة لتسهيل ترحيل واقتلاع المواطنين إلى عمان وخارج حدود الوطن. واستمر هذا الوضع عدة أيام إلى أن سُحبت هذه الحافلات من دون أن يتحقق أمل وحلم المحتلين بتخلي المقدسيين عن مدينتهم. ربما تمكنت حافلة واحدة خلال تلك الأيام من نقل عدد قليل.
كان تفكير المحتلين الإسرائيليين أن ما حصل من نزوح جماعي، بعد القتل والتشريد في العام 1948 سيتكرر في العام 1967، وكأن الفلسطينيين لا يأخذون عبرة من الماضي. ومثل هذا الموقف شهدته كافة المدن والقرى الفلسطينية باستثناء بعض المخيمات، وخاصة تلك التي تقع في منطقة أريحا.
لباب العامود منذ الاحتلال البريطاني قسط معروف من هذه الرمزية والتجمع والتظاهر والمجابهات ورفع الشعارات الوطنية ضد الاحتلال والعصابات الصهيونية. فقد شهدت أسواره مقاومة شجاعة ضد هذه العصابات. ومن رموز المقاومة كان القائد المعروف بهجت أبوغربية.
ومنذ العهد العثماني كان العثمانيون قد ميزوا باب العمود عن البوابات الأخرى عندما أعادوا بناء سور المدينة نظرا لأهمية موقعه الجغرافي من البلدة القديمة، ونظراً لصلته بأهم أسواقها، وبسبب دخول الخليفة عمر بن الخطاب إلى القدس من خلاله.
٭٭٭
تعتبر المجابهات التي تقع مع جنود الاحتلال بين عام وآخر في ذكرى ضم إسرائيل للقدس واحتفال المستعمرين الإسرائيليين تحديدا بهذا اليوم، ورفع علم النكبة الفلسطينية واللافتات في شارعي صلاح الدين والسلطان سليمان والبوابة من قبل الشبان المقدسيين، من أهم التحديات أمام تدفق سكان المستعمرات على باب العمود وهم في طريقهم إلى ساحة البراق عبر شارع الواد والحارات الأخرى، حين يصر هؤلاء وغالبيتهم من المستعمرات المحيطة بالقدس، على الدخول منه رغم أن هناك طرقا وبوابات أخرى يمكنهم سلوكها، ومنها بوابات النبي داوود والخليل والجديد، تأكيداً منهم أن القدس لهم وحدهم، وترجمة لطبيعتهم العنصرية. يدخل هؤلاء وهم يرفعون أعلامهم ويرددون الهتافات العنصرية ضد العرب وشخص الرسول محمد «ص»، فيفاجئهم تجمع الفلسطينيين وردهم الصاخب عليهم، مما يجعلهم يستدعون شرطتهم لتساعدهم في الاعتداء على الشبان الفلسطينيين. وتبلغ هذه الاعتداءات من القسوة حد ضرب وسحل عدد من الشبان وجرهم على الأرض وتمزيق ملابسهم، ولكن من المؤكد أن تصميم أهل القدس على تحدي مسيرات المستعمرين تخفف من انتشارهم في حارات وشوارع البلدة القديمة.
٭٭٭
لقد تحولت درجات باب العمود عبر سنوات الاحتلال إلى مكان وملتقى للمقاومين، فهنا تحدث الاحتجاجات والتجمعات وترفع الأعلام الفلسطينية في كل مناسبات الأفراح والأعياد والأتراح وتوديع الشهداء ورفض إجراءات وقوانين الاحتلال والتنديد بها. كما تشهد بين الحين والآخر عروضا فنية ومسرحية ومعارض للرسم التشكيلي والرقص الشعبي والتصوير وغيرها. كما أن باب العمود يشهد نشر الزينات في مناسبات حلول شهر رمضان المبارك والموالد النبوية الشريفة وأعياد الميلاد، كما تشهدها سائر أحياء وأسواق البلدة القديمة.
ومن أهم المناسبات التي شهدها باب العمود مرور جنازة فيصل الحسيني التي قالت جهات إسرائيلية متعددة أن القدس بهذه المناسبة ظهرت وكأنها فلسطينية مائة بالمائة، وأعادها الحدث إلى سيرتها قبل العام 1967 .
ومن هنا يأتي التآمر على هذه الرمزية باستعمال العنف المفرط ضد من يتجمعون على درجاته بحيث أخذ عنف شرطة المستعمرين ووحداتها الخاصة تحديدا بالتصاعد ، وتناول حتى الصحفيين. ومن أهم الإجراءات العدوانية مشروع سيعمل على إغلاق البوابة لمدة تصل إلى سنوات، بحجة تأهيل البنى التحتية من صرف صحي وتبليط وكهرباء وغير ذلك، والهدف هو تغيير طابع باب العمود وتهويده ووضع لوحات عبرية على جدرانه، ويجري التلويح بهذا المشروع بين الحين والآخر. ولهذا المشروع عدة أهداف أيضاً، ومنها إغلاق المحلات التجارية وضرب اقتصاد مدينة القدس. يضاف إلى هذا أن هذا المشروع يمتد من باب العمود حتى ساحة البراق مرورا بشارع الواد، بالتضافر مع حفريات متواصلة تعمل على تعطيل الحركة التجارية والمرورية.
من أهداف هذا المشروع الاستعماري أيضاً، الوصول إلى العمق النفسي للمقدسيين وتدميره، ومضاعفة هموم التجار وأصحاب المحلات الذين يقيمون عند باب العمود وبجواره، ومعاناة السكان القاطنين في هذه المنطقة والطلاب والموظفين والمتوجهين إلى المسجد الأقصى وكنيسة القيامة في أيام الجمع والآحاد، وفي المناسبات الدينية والوطنية، والداخلين إلى البلدة القديمة والقاصدين الأسواق والأهل والأقرباء من كافة الضواحي خارج الأسوار.
٭٭٭
في فصل الصيف يكون باب العمود بوابة الغائبين عن المدينة، فخلاله يمر العاملون في دول الخليج الذين تشهد المدينة بقدومهم حركة اقتصادية ومواسم أعراس، ولجان البعثات التعليمية من سائر البلدان العربية القادمة لاختيار المدرسات و المدرسين، حيث تشهد مراكز تعاقدها زحاماً شديدة.
وفي هذا الفصل تزدهر حركة البسطات والسلال التي تأتي بها الفلاحات، ومعظمهن من قرى شمال غرب القدس، محملات بالتفاح السكري والتين والبرقوق والخوخ والأجاص. هذه القرى الشهيرة بزراعة اللوزيات والتين والتي نجمت شهرتها بعد لجوء أعداد كبيرة من أهالي القرى الزراعية المجاورة إليها في عام النكبة، فتوسعت المساحات الزراعية.
ومن المناسبات المهمة التي كان يشهدها باب العامود أيضاً، فترة الأعياد المسيحية مثل سبت النور وأحد الشعانين حيث كان المسيحيون العرب بصفة خاصة يعطون للمدينة نكهة مميزة وخاصة المقدسون-الحجاج- ومنهم المصريون الأقباط الذين كانوا يفدون بالآلاف. وكانت المقدّسات، ما أن يدخلن باب العمود من مطار قلنديا، حتى يطلقن الزغاريد المصرية المعروفة العالية والحادة مع تبادل التحيات مع أصحاب المحلات والمارة، زغاريد كانت تسمع في كل أسواق القدس. وكان المارة وأصحاب المحلات في خان الزيت وحارة النصارى والدباغة كلما مرت بهم مصرية يقولون لها: «والنبي زغرودة يا مئدسه «مقدسة»» فكانت الإجابة تأتي سريعة. وكان المصريون في الغالب يقيمون في دير الأقباط والبيوت القريبة منه، وكذلك القبارصة واليونان الذين كانوا يقيمون في كنائسهم وأديرتهم، وهنالك الأفواج السورية واللبنانية، ومن الجنسيات الأخرى مثل الفرنسية.
في هذه الفترة كانت تزدهر تجارة العاديات الصدفية والخشبية التي تشتهر بها بيت لحم، وتجارة المسابح من صناعة معمل الحاج أبو الزبادي -عابدين - وكانت معظم المحلات التجارية تتاجر بها، بالإضافة إلى الباعة المتجولين.
ومن المناسبات المهمة التي كان يشهدها سور باب العمود، معارك الانتخابات البرلمانية من خلال مئات اللافتات والملصقات وصور المرشحين التي تزينها الأضواء، حيث كان هناك مرشحون دائمون مثل كامل عريقات- أبو غازي- الذي تظهر صوره باللباس العسكري يتدلى على صدره منظاره الحربي، علما أنه من القادة العسكريين قبل 1948، وكانت هناك جولات انتخابية تدور فيها منافسات حامية بين أنور الخطيب والمحامي الشيخ عبد الغني كاملة المتخصص بالدفاع عن الأملاك والأراضي، ومعظم قضاياه كان يتلقى أجورها في الغالب أجزاء من الأراضي التي يدافع عنها