كان ابن عطية رحمه الله نابغة بمقاييس النبوغ في عصره؛ لأنه أحاط بكل العلوم المعروفة في زمانه، وكان على جانب كبير من الثقافة، والتنوع المعرفي والعلمي. إنه محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي.
نشأ في بيت علم وفضل، وتلقى العلم عن والده، وعن علماء زمانه، ثم رحل طالباً للعلم، فحصَّل منه العظيم والجليل؛ وكان من أفاضل أهل السنة والجماعة، وتولى القضاء لفترة، وكان صاحب جهاد بالسيف كما كان صاحب جهاد بالقلم، فجمع بين كلا الفضيلتين.
وأجلُّ أثاره العلمية كتابه "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" الذي أجمع أهل العلم على أنه غاية في الصحة والدقة والتحرير؛ وقد وصفه أبو حيان فقال: " أجلُّ مَن صنَّف في التفسير، وأفضل من تعرض فيه للتنقيح والتحرير" وقال عنه ابن تيمية: "تفسير ابن عطية خير من تفسير الزمخشري، وأصح نقلاً وبحثاً، وأبعد عن البدع، وإن اشتمل على بعضها، بل هو خير منه بكثير، بل لعله أرجح هذه التفاسير، لكن تفسير ابن جرير أصح من هذه كلها".
جمع ابن عطية مادة تفسيره من كُتب التفاسير التي تقدمته، وتحرَّى أن يُودِع فيه كل ما هو أقرب إلى الصحة وألصق بالسنة؛ فأحسن فيه وأجاد، وأبدع فيه وأفاد، فجاء تفسيراً جامعاً لكل شيء دون أن يطغى فيه جانب على جانب.
وقد امتازت عبارته بالسلاسة والسهولة، وتجافى فيه مؤلفه عن كل غموض وتعقيد، ناهيك عن حسن في العرض، وإخلاص في القصد؛ فجاء تفسيرًا محدد الخطوات، واضح العبارات.
وضع ابن عطية لنفسه -منذ البداية- منهجاً كاملاً في التفسير، ورسم طريقاً واضحة المعالم، حاول الالتزام به ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، بيد أن ميزة ابن عطية لم تقتصر وتقف عند حد وضع منهج كامل لـ "تفسيره" فحسب، بل سار شوطاً أبعد من ذلك؛ إذ رسم للمفسرين من بعده طريقة مثلى، ومنهجية واضحة المعالم، حين جعل من التفسير علماً يستند إلى قواعد ومبادئ قائمة على الدقة والاستقصاء والترتيب.
أما أهم معالم منهجه، فنجملها في النقاط التالية:
- الإعداد العلمي لهذا العمل، وذلك بالتزود من العلوم كلها بزاد؛ فهو كان على علم ودراية بالتفاسير التي تقدمته، وعلى علم كذلك بكتب القراءات، واللغة، والنحو، والحديث، وكل ما يحتاج إليه المفسر من علوم. وكان يرجع في كل علم إلى مصادره الأصلية.
- ثم إن ابن عطية رحمه الله لم يكن ناقلاً لأقوال من سبقه وجامعاً لها فحسب، بل كان مع ذلك ناقداً ومناقشًا لما ينقل؛ فهو لم يكن يقبل من الأقوال إلا ما شهدت له الأصول الشرعية، من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح.
- وابن عطية -على العموم- كان يميل إلى تفسير القرآن بالقرآن، أو على الأقل يختار من الأقوال ما يؤيده القرآن؛ ولأجل هذا عدَّ تفسيره من كتب التفسير بالمأثور.
- وكان من أساس منهجه أن يعتمد كذلك على المأثور من أحاديث الرسول، أو أقوال الصحابة والتابعين، ويختار منها ما بدا له أنه الأسدُّ والأصح والأوفق لمقتضى الشرع ومقاصده.
- وإذا تعرض ابن عطية لمسألة ما لم يتركها حتى يوفيها حقها من البحث والاستقصاء، بل لا يغادرها إلا بعد أن يُشعر قارئه أنه لا مزيد على ما بيَّنه وقرره.
- واهتم بذكر القراءات القرآنية ما صح منها وما شذَّ، وكان ذكره لما شذَّ من القراءات من باب التنبيه عليه ليس إلا.
- ومن معالم منهجه -وهو مما يحسب له- أنه تجنَّب في تفسيره ذكر القصص الإسرائيلي، بل أكثر من ذلك فقد انتقد من سبقه من المفسرين لذكرهم إياها؛ ومن عباراته في ذلك قوله: "وهناك قصص أخرى أعرضت عن ذكرها لضعفها". وقوله كذلك: "لا أذكر من القصص إلا ما لا تنفك الآية إلا به"، وقد عرف العلماء لابن عطية هذا الصنيع، وقدَّروه حق التقدير، وأثنوا عليه في ذلك الثناء الجميل.
- ومع أن ابن عطية رحمه الله كان مالكي المذهب، إلا أنه لم يكن متعصباً لمالكيته، بل كان يتحرى الحقيقة ويقف عندها، ولو خالفت ما هو عليه، ويقف مع الدليل، وإن كان لا يوافق ما يميل إليه.
- وفوق كل ما تقدم فقد أوتي ابن عطية قدرة على التنظيم والتنسيق وحسن العرض، ما لم يتوفر لغيره، مما جعل تفسيره يلقى ذلك القبول، ويُمدح بأفضل المقول.
كانت تلك أهم معالم منهج ابن عطية في "تفسيره"؛ وقد تأثر كثير من العلماء الذين جاؤوا من بعده بمنهجه، واقتفوا أثره؛ ومن بين أولئك العلماء الذين ساروا على دربه ونهجوا نهجه الإمام القرطبي رحمه الله.
بقي أن نشير إلى أن هذا التفسير بقي حبيساً في المخطوطات قرابة ألف عام إلا قليلاً، إلى أن قيَّض الله له ثلة من العلماء الأجلاء، الذين تولوا إخراجه إلى النور في ثوب قشيب من التحقيق والتدقيق والتعليق. فجزى الله الجميع خيراً، وجعل ذلك في صحائفهم، ونفع الله به المسلمين، وجعل مؤلفه في أعلى علِّيِّن آمين.
نشأ في بيت علم وفضل، وتلقى العلم عن والده، وعن علماء زمانه، ثم رحل طالباً للعلم، فحصَّل منه العظيم والجليل؛ وكان من أفاضل أهل السنة والجماعة، وتولى القضاء لفترة، وكان صاحب جهاد بالسيف كما كان صاحب جهاد بالقلم، فجمع بين كلا الفضيلتين.
وأجلُّ أثاره العلمية كتابه "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" الذي أجمع أهل العلم على أنه غاية في الصحة والدقة والتحرير؛ وقد وصفه أبو حيان فقال: " أجلُّ مَن صنَّف في التفسير، وأفضل من تعرض فيه للتنقيح والتحرير" وقال عنه ابن تيمية: "تفسير ابن عطية خير من تفسير الزمخشري، وأصح نقلاً وبحثاً، وأبعد عن البدع، وإن اشتمل على بعضها، بل هو خير منه بكثير، بل لعله أرجح هذه التفاسير، لكن تفسير ابن جرير أصح من هذه كلها".
جمع ابن عطية مادة تفسيره من كُتب التفاسير التي تقدمته، وتحرَّى أن يُودِع فيه كل ما هو أقرب إلى الصحة وألصق بالسنة؛ فأحسن فيه وأجاد، وأبدع فيه وأفاد، فجاء تفسيراً جامعاً لكل شيء دون أن يطغى فيه جانب على جانب.
وقد امتازت عبارته بالسلاسة والسهولة، وتجافى فيه مؤلفه عن كل غموض وتعقيد، ناهيك عن حسن في العرض، وإخلاص في القصد؛ فجاء تفسيرًا محدد الخطوات، واضح العبارات.
وضع ابن عطية لنفسه -منذ البداية- منهجاً كاملاً في التفسير، ورسم طريقاً واضحة المعالم، حاول الالتزام به ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، بيد أن ميزة ابن عطية لم تقتصر وتقف عند حد وضع منهج كامل لـ "تفسيره" فحسب، بل سار شوطاً أبعد من ذلك؛ إذ رسم للمفسرين من بعده طريقة مثلى، ومنهجية واضحة المعالم، حين جعل من التفسير علماً يستند إلى قواعد ومبادئ قائمة على الدقة والاستقصاء والترتيب.
أما أهم معالم منهجه، فنجملها في النقاط التالية:
- الإعداد العلمي لهذا العمل، وذلك بالتزود من العلوم كلها بزاد؛ فهو كان على علم ودراية بالتفاسير التي تقدمته، وعلى علم كذلك بكتب القراءات، واللغة، والنحو، والحديث، وكل ما يحتاج إليه المفسر من علوم. وكان يرجع في كل علم إلى مصادره الأصلية.
- ثم إن ابن عطية رحمه الله لم يكن ناقلاً لأقوال من سبقه وجامعاً لها فحسب، بل كان مع ذلك ناقداً ومناقشًا لما ينقل؛ فهو لم يكن يقبل من الأقوال إلا ما شهدت له الأصول الشرعية، من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح.
- وابن عطية -على العموم- كان يميل إلى تفسير القرآن بالقرآن، أو على الأقل يختار من الأقوال ما يؤيده القرآن؛ ولأجل هذا عدَّ تفسيره من كتب التفسير بالمأثور.
- وكان من أساس منهجه أن يعتمد كذلك على المأثور من أحاديث الرسول، أو أقوال الصحابة والتابعين، ويختار منها ما بدا له أنه الأسدُّ والأصح والأوفق لمقتضى الشرع ومقاصده.
- وإذا تعرض ابن عطية لمسألة ما لم يتركها حتى يوفيها حقها من البحث والاستقصاء، بل لا يغادرها إلا بعد أن يُشعر قارئه أنه لا مزيد على ما بيَّنه وقرره.
- واهتم بذكر القراءات القرآنية ما صح منها وما شذَّ، وكان ذكره لما شذَّ من القراءات من باب التنبيه عليه ليس إلا.
- ومن معالم منهجه -وهو مما يحسب له- أنه تجنَّب في تفسيره ذكر القصص الإسرائيلي، بل أكثر من ذلك فقد انتقد من سبقه من المفسرين لذكرهم إياها؛ ومن عباراته في ذلك قوله: "وهناك قصص أخرى أعرضت عن ذكرها لضعفها". وقوله كذلك: "لا أذكر من القصص إلا ما لا تنفك الآية إلا به"، وقد عرف العلماء لابن عطية هذا الصنيع، وقدَّروه حق التقدير، وأثنوا عليه في ذلك الثناء الجميل.
- ومع أن ابن عطية رحمه الله كان مالكي المذهب، إلا أنه لم يكن متعصباً لمالكيته، بل كان يتحرى الحقيقة ويقف عندها، ولو خالفت ما هو عليه، ويقف مع الدليل، وإن كان لا يوافق ما يميل إليه.
- وفوق كل ما تقدم فقد أوتي ابن عطية قدرة على التنظيم والتنسيق وحسن العرض، ما لم يتوفر لغيره، مما جعل تفسيره يلقى ذلك القبول، ويُمدح بأفضل المقول.
كانت تلك أهم معالم منهج ابن عطية في "تفسيره"؛ وقد تأثر كثير من العلماء الذين جاؤوا من بعده بمنهجه، واقتفوا أثره؛ ومن بين أولئك العلماء الذين ساروا على دربه ونهجوا نهجه الإمام القرطبي رحمه الله.
بقي أن نشير إلى أن هذا التفسير بقي حبيساً في المخطوطات قرابة ألف عام إلا قليلاً، إلى أن قيَّض الله له ثلة من العلماء الأجلاء، الذين تولوا إخراجه إلى النور في ثوب قشيب من التحقيق والتدقيق والتعليق. فجزى الله الجميع خيراً، وجعل ذلك في صحائفهم، ونفع الله به المسلمين، وجعل مؤلفه في أعلى علِّيِّن آمين.