عرضنا في مقالات سابقة لثلاثة تفاسير، اعتمدت منهج التفسير بالمأثور منهجًا أساساً في تفسير القرآن الكريم؛ فتعرَّفنا بداية على الطبري ومنهجه التفسيري من خلال كتابه "جامع البيان" ثم عرضنا لابن عطية ومنهجه التفسيري على ضوء مؤلَّفه "المحرَّر الوجيز" وكانت وقفتنا الأخيرة عند ابن كثير ومنهجه التفسيري استنادًا لكتابه "تفسير القرآن العظيم".
وفي مقالاتنا الآتية سوف نقف وقفات سريعة، عند بعض التفاسير التي صُنفت ضمن ما يسمى التفسير بالرأي، لكن...وقبل الخوض في ذلك نرى من المناسب أن نشير إلى ملاحظتين اثنتين جديرتين بالانتباه في هذا السياق:
الأولى: أن تصنيف تفاسير القرآن الكريم ضمن هذين القسمين الأساسين -التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي- هو من باب الأغلبية، أو بمعنى آخر، إن كل قسم من هذين القسمين اعتمد بشكل أساس منهج التفسير بالمأثور، أو منهج التفسير بالرأي، دون إهمال أو إعراض عن المنهج الآخر كلية، فهو تصنيف أغلبي -إن صح التعبير- لا كلي.
الثانية: أن وصف بعض تفاسير القرآن الكريم أنها اعتمدت منهج التفسير بالرأي، لا يقصد به أن تلك التفاسير اعتمدت الرأي المجرد في تفسير القرآن، بل المقصود من هذا الإطلاق أن ذلك النوع من التفسير اعتمد الرأي المستند إلى الدليل في الأعم الأغلب، ولم يعتمد الرأي المجرد، وعلى هذا فالمصطلح ليس على إطلاقه، وإنما مقيَّد بالرأي المعتبر، والموزون بميزان الشرع؛ يرشد لهذا أن التفسير بالرأي المجرد لا اعتبار له عند من يُعتد بقوله من أهل العلم.
بعد هذا التوضيح المهم، نعود أدراجنا للحديث عن تفسير من أهم التفاسير التي اعتمدت منهج التفسير بالرأي منهجًا أساسًا في تفسير القرآن، وهو تفسير "مفاتيح الغيب" لمؤلفه الإمام الرازي، الملقب بفخر الدين الرازي، الذي كان فريد عصره، ونابغة دهره؛ إذ جمع كثيراً من العلوم وبرع فيها، فكان إماماً في التفسير، وعلم الكلام، وعلوم اللغة، والعلوم العقلية، وغيرها. وكان -لما تمتع به من منـزلة علمية- مقصد العلماء، ومحط الأنظار.
ويُعَدُّ تفسيره المشار إليه آنفاً من أشهر مصنفاته، وهو تفسير مطبوع، ومتداول بين أهل العلم؛ وقد حظي هذا التفسير بشهرة واسعة بين أهل العلم؛ لما امتاز به من سعة في الأبحاث في نواحي شتى؛ ولكن...قبل أن نتوقف عند منهج الرازي في تفسيره، نرى من المناسب والمفيد أن ننبه على أمرين مهمين، يتعلقان بهذا التفسير:
الأول: أن الإمام الرازي لم يتم كتابة تفسيره إلى نهايته، بل أتمه من جاء بعده؛ وهذا القدر فيه شبه إجماع عند من ترجم لـ الرازي، ثم وقع الاختلاف بينهم في تحديد المكان الذي وصل إليه الرازي في كتابة تفسيره، وأيضًا حصل الخلاف بينهم فيمن أتم كتابة هذا التفسير، مع الإشارة إلى أن قارئ هذا التفسير لا يلحظ فيه تفاوتاً في المنهج والمسلك، فالكتاب يسير من بدايته إلى نهايته على وتيرة واحدة.
الأمر الثاني: وهو الأهم، أن كثيرًا من العلماء والمحققين كانت لهم العديد من المآخذ على هذا التفسير؛ كتوسعه في ذكر مسائل علم الكلام، والعلوم الطبيعية والرياضية، التي لا علاقة لها بموضوع التفسير إلا بشيء غير يسير من التكلف والتأويل البعيد، والتعرض لمثل هذه الأمور مما يجلُّ عنه كتاب الله سبحانه؛ غير أن من أهم المآخذ التي سجلها العلماء على هذا التفسير ما عبر عنه ابن حجر بقوله: "وكان يُعاب بإيراد الشبهة الشديدة، ويقصِّر في حلِّها"، وهذا ملاحظ بالفعل في هذا التفسير؛ إذ يورد الرازي شُبه المخالفين على غاية ما يكون الإيراد، حتى قيل: إنه يقرر مذهب خصمه تقريرًا بحيث لو أراد خصمه تقريره لم يقدر على الزيادة عليه..لكنه عندما يعود لتقرير ما هو الحق في المسألة نجده يضعف، ولا يوفي الرد حقه. ولأجل هذا كان بعضهم يتهم الرازي في دينه، ويشكك في عقيدته.
بعد هذا التنبيه المهم، نتوقف قليلا عند منهج الرازي في تفسيره، والذي يقوم على ما يلي:
- اهتمام الرازي ببيان المناسبات بين آيات القرآن وسوره؛ فهو يهتم غاية الاهتمام بذكر المناسبات بين الآيات القرآنية بعضها مع بعض، وكذلك يهتم بذكر مناسبات السور بعضها مع بعض.
- ثم هو لا يكاد يمر بآية من آيات الأحكام، إلا ويذكر أقوال أهل العلم فيها، مع ترجيحه غالباً لمذهب الشافعي، الذي ينتمي إليه. ويفعل مثل هذا في المسائل الأصولية، والنحوية.
- والذي يظهر لقارئ هذا التفسير -فوق ما تقدم- أن مؤلِّفه رحمه الله كان مولعاً بكثرة الاستنباطات والاستطرادات في تفسيره، إضافة إلى توسُّعه -كما ذكرنا آنفاً- في ذكر مسائل الكون والطبيعة، ولأجل هذا، فقد قلَّل البعض من قيمة هذا الكتاب، كتفسير للقرآن الكريم، بل وصل الأمر ببعضهم بأن وصف هذا التفسير بقوله: "فيه كل شيء إلا التفسير" وهذا القول -فيما نرى- فيه شيء من المبالغة، فلا يسعنا أن نسلِّم به على إطلاقه.
ولكن...ومهما قيل في هذا الكتاب من مدح أو ذم، فإن ما لا نستطيع تجاهله -وهو ما نختم به مقالنا-: أن الكتاب -بما له وما عليه- يبقي فيه غير يسير من المادة التفسيرية، التي تفيد طالب العلم المتخصص، وأن فيه ما هو صواب ومقبول. ونستحضر في هذا المقام مقولة الإمام مالك رحمه الله إذ يقول: "إن كل الناس يؤخذ منه ويُرَدُّ، إلا صاحب هذا القبر" يعني رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وفي مقالاتنا الآتية سوف نقف وقفات سريعة، عند بعض التفاسير التي صُنفت ضمن ما يسمى التفسير بالرأي، لكن...وقبل الخوض في ذلك نرى من المناسب أن نشير إلى ملاحظتين اثنتين جديرتين بالانتباه في هذا السياق:
الأولى: أن تصنيف تفاسير القرآن الكريم ضمن هذين القسمين الأساسين -التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي- هو من باب الأغلبية، أو بمعنى آخر، إن كل قسم من هذين القسمين اعتمد بشكل أساس منهج التفسير بالمأثور، أو منهج التفسير بالرأي، دون إهمال أو إعراض عن المنهج الآخر كلية، فهو تصنيف أغلبي -إن صح التعبير- لا كلي.
الثانية: أن وصف بعض تفاسير القرآن الكريم أنها اعتمدت منهج التفسير بالرأي، لا يقصد به أن تلك التفاسير اعتمدت الرأي المجرد في تفسير القرآن، بل المقصود من هذا الإطلاق أن ذلك النوع من التفسير اعتمد الرأي المستند إلى الدليل في الأعم الأغلب، ولم يعتمد الرأي المجرد، وعلى هذا فالمصطلح ليس على إطلاقه، وإنما مقيَّد بالرأي المعتبر، والموزون بميزان الشرع؛ يرشد لهذا أن التفسير بالرأي المجرد لا اعتبار له عند من يُعتد بقوله من أهل العلم.
بعد هذا التوضيح المهم، نعود أدراجنا للحديث عن تفسير من أهم التفاسير التي اعتمدت منهج التفسير بالرأي منهجًا أساسًا في تفسير القرآن، وهو تفسير "مفاتيح الغيب" لمؤلفه الإمام الرازي، الملقب بفخر الدين الرازي، الذي كان فريد عصره، ونابغة دهره؛ إذ جمع كثيراً من العلوم وبرع فيها، فكان إماماً في التفسير، وعلم الكلام، وعلوم اللغة، والعلوم العقلية، وغيرها. وكان -لما تمتع به من منـزلة علمية- مقصد العلماء، ومحط الأنظار.
ويُعَدُّ تفسيره المشار إليه آنفاً من أشهر مصنفاته، وهو تفسير مطبوع، ومتداول بين أهل العلم؛ وقد حظي هذا التفسير بشهرة واسعة بين أهل العلم؛ لما امتاز به من سعة في الأبحاث في نواحي شتى؛ ولكن...قبل أن نتوقف عند منهج الرازي في تفسيره، نرى من المناسب والمفيد أن ننبه على أمرين مهمين، يتعلقان بهذا التفسير:
الأول: أن الإمام الرازي لم يتم كتابة تفسيره إلى نهايته، بل أتمه من جاء بعده؛ وهذا القدر فيه شبه إجماع عند من ترجم لـ الرازي، ثم وقع الاختلاف بينهم في تحديد المكان الذي وصل إليه الرازي في كتابة تفسيره، وأيضًا حصل الخلاف بينهم فيمن أتم كتابة هذا التفسير، مع الإشارة إلى أن قارئ هذا التفسير لا يلحظ فيه تفاوتاً في المنهج والمسلك، فالكتاب يسير من بدايته إلى نهايته على وتيرة واحدة.
الأمر الثاني: وهو الأهم، أن كثيرًا من العلماء والمحققين كانت لهم العديد من المآخذ على هذا التفسير؛ كتوسعه في ذكر مسائل علم الكلام، والعلوم الطبيعية والرياضية، التي لا علاقة لها بموضوع التفسير إلا بشيء غير يسير من التكلف والتأويل البعيد، والتعرض لمثل هذه الأمور مما يجلُّ عنه كتاب الله سبحانه؛ غير أن من أهم المآخذ التي سجلها العلماء على هذا التفسير ما عبر عنه ابن حجر بقوله: "وكان يُعاب بإيراد الشبهة الشديدة، ويقصِّر في حلِّها"، وهذا ملاحظ بالفعل في هذا التفسير؛ إذ يورد الرازي شُبه المخالفين على غاية ما يكون الإيراد، حتى قيل: إنه يقرر مذهب خصمه تقريرًا بحيث لو أراد خصمه تقريره لم يقدر على الزيادة عليه..لكنه عندما يعود لتقرير ما هو الحق في المسألة نجده يضعف، ولا يوفي الرد حقه. ولأجل هذا كان بعضهم يتهم الرازي في دينه، ويشكك في عقيدته.
بعد هذا التنبيه المهم، نتوقف قليلا عند منهج الرازي في تفسيره، والذي يقوم على ما يلي:
- اهتمام الرازي ببيان المناسبات بين آيات القرآن وسوره؛ فهو يهتم غاية الاهتمام بذكر المناسبات بين الآيات القرآنية بعضها مع بعض، وكذلك يهتم بذكر مناسبات السور بعضها مع بعض.
- ثم هو لا يكاد يمر بآية من آيات الأحكام، إلا ويذكر أقوال أهل العلم فيها، مع ترجيحه غالباً لمذهب الشافعي، الذي ينتمي إليه. ويفعل مثل هذا في المسائل الأصولية، والنحوية.
- والذي يظهر لقارئ هذا التفسير -فوق ما تقدم- أن مؤلِّفه رحمه الله كان مولعاً بكثرة الاستنباطات والاستطرادات في تفسيره، إضافة إلى توسُّعه -كما ذكرنا آنفاً- في ذكر مسائل الكون والطبيعة، ولأجل هذا، فقد قلَّل البعض من قيمة هذا الكتاب، كتفسير للقرآن الكريم، بل وصل الأمر ببعضهم بأن وصف هذا التفسير بقوله: "فيه كل شيء إلا التفسير" وهذا القول -فيما نرى- فيه شيء من المبالغة، فلا يسعنا أن نسلِّم به على إطلاقه.
ولكن...ومهما قيل في هذا الكتاب من مدح أو ذم، فإن ما لا نستطيع تجاهله -وهو ما نختم به مقالنا-: أن الكتاب -بما له وما عليه- يبقي فيه غير يسير من المادة التفسيرية، التي تفيد طالب العلم المتخصص، وأن فيه ما هو صواب ومقبول. ونستحضر في هذا المقام مقولة الإمام مالك رحمه الله إذ يقول: "إن كل الناس يؤخذ منه ويُرَدُّ، إلا صاحب هذا القبر" يعني رسول الله عليه الصلاة والسلام.