الملم المغيث في علم الحديث [الجزء السابع]
بسم الله الرحمن الرحيم
العلوم المشتركة بين السند والمتن: قد يتفرد بعض الرواة في رواية حديث لم يشاركه فيه غيره من الرواة لا سندا ولا متنا، وقد يتفرد بعضهم برواية حديث بزيادة أو تغيير في متنه، أو أنه ورد بروايات أخرى قد لا تتفق مع تلك الرواية، كما يتفرد أحدهم برواية حديث بزيادة في إسناده مخالفا بذلك ما جاء به غيره، وحيث أن التفرد أو التعدد وصف مشترك بين السند والمتن له أهميته في هذا العلم لذلك كان التحري والبحث في هذا المجال من الضرورات، وقد سميت الطريقة الموصلة إلى ذلك بلفظ "الاعتبار" علما بأن هذا البحث، لا يتأثر اعتبارا، إلا بجهابذة علماء الحديث، وأرباب الباع الطويل في هذا العلم ..
تفرد الحديث: وينقسم عن هذا الحديث نوعان: الحديث الغريب، والحديث الفرد " خبر الآحاد" ..
أ.الحديث الغريب: وهو الذي تفرد به راوية واحد بحيث لم يروه غيره أو انفرد بزيادة في متنه لتلك الرواية خلافا لغيره وانفرد بزيادة أو تغيير في سنده خلافا لغيره، والحديث الذي لا يرويه إلا صحابي واحد يسمى غريب فإذا رواه ثقات بعدة طرق لسند الرواية عند هذا الراوي الصحابي سمي صحيح غريب، أو حسن غريب كما فعل بتصنيف ذلك صاحب السنن أبو عيسى الترمذي ..
ومن أمثلة الحديث الغريب بأوله حديث : ( إنما الأعمال بالنيات )، فرغم أنه بلغ درجة تواتر الصحة إلا أن منشأه غريب لم يرويه من الصحابة سوى الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ..
وقد يكون غريبا في أوسط سنده، إن كان تفرد به تابعي واحد، وذات الأمر مع تمام الرواية من أولها ..
الحديث الغريب متنا وسندا: و الحديث الغريب متنا وسندا هو الذي لا يروى إلا من وجه واحد ومثال على ذلك:
ما رواه محمد بن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان : سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم )، رواه الشيخان في الصحيح، البخاري في "صحيحة" [ج5/ص: 2352/ر:6043]، ومسلم في "صحيحة" [ج17/ص: 21/ر:6786]، ورواه الترمذي في "سننه" [ج5/ص: 478/ر:3467]، وقال في حكمه: حسن غريب صحيح، ورواه ابن ماجه في "سننه" [ج3/ص: 340/ر:3806]، ورواه الإمام أحمد في "مسنده" [ج2/ص: 462/ر:7127]، وصححه ابن حبان في "صحيحة" [ج3/ص: 112/ر:831]، وخلاصة حكمه: [متفق عليه] ..
فهذا الحديث تفرد به الصحابي أبو هريرة، ثم تفرد به عنه أبو زرعة، وتفرد به عن أبي زرعة عمارة وتفرد به عن عمارة محمد بن فضيل، ثم تحرر السند وتعدد رواته، كما نجد أن متنه واحد عند كل المحدثين ..
الحديث الغريب متنا لا سندا:
وهو الذي رواه المتفرد ثم اشتهر به آخر إذ رواه عنه الكثيرون من معاصريه ومن عاصر معاصريه، مثال حديث: ( إنما الأعمال بالنيات )، فقد ورواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتفرد به لكنه اشتهر عن جمع من الصحابة تكلموا به، ثم تفرد به عن عمر، علقمة، ثم تفرد به محمد بن إبراهيم، وتفرد به بعده يحيى بن سعيد، ثم اشتهر عن يحيى ورواه عنه كثيرون ..
فهذا الحديث غريب متنا بأوله وبعد اشتهاره لم يبقى غريب الإسناد فهو غريب متنا لا سندا، لتفرد رواية متنه أو نصه كل من الصحابي و التابعي وتابعي التابعي ..
الغريب بعض المتن:
ومن أنواع الحديث الغريب، الغريب بعض المتن، ومن ذلك ما رواه الترمذي عن الإمام مالك بن أنس عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زكاة لفطر من رمضان على كل حر أو عبد، ذكرا كان أم أنثى من المسلمين، صاع من تمر أو صاع من شعير )، رواه مسلم في "صحيحة" [ج7/ص: 60/ر:2275]، ورواه أبو داود في "سننه" [ج1/ص: 506/ر:1611]، وصححه له الألباني في "صحيح أبي داود" [ر:1611]، ورواه الترمذي في "سننه" [ج3/ص: 61/ر:676]، وصححه له الألباني في "صحيح الترمذي" [ر:676]، ورواه النسائي في "سننه المجتبى" [ج5/ص: 50/ر:2502]، وصححه له الألباني في "صحيح النسائي" [ر:2502]، ورواه ألإمام مالك في "الموطأ" [ج1/ص: 284/ر:614]، ورواه الدارمي في "سننه" [ج1/ص: 420/ر:1616]، وصححه ابن حبان في "صحيحة" [ج8/ص: 94/ر:3301]، وصححه السيوطي في "الجامع الصغير" [ر:4557]، وصححه له الألباني في "صحيح الجامع" [ر:3571]، وخلاصة حكمه: [صحيح] ..
فهذا الحديث تفرد به الإمام مالك عن سائر رواته، بزيادة لفظ: [من المسلمين]، فالغرابة هنا لهذه الزيادة في المتن ..
الغريب إسنادا لا متنا: وهو الحديث الذي اشتهر بوروده من عدة طرق عن راوي أو عن صحابي أو عدة رواة ثم تفرد به راوي فرواه من وجه آخر أي من طريق آخر غير ما اشتهر به الحديث ..
مثال ذلك:
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا بُرَيْدٌ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وآلهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي معي وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ )، رواه مسلم في "صحيحة" [ج14/ص: 252/ر:5345]، ورواه ابن ماجه في "سننه" [ج3/ص: 153/ر:3258]، وصححه له الألباني في "صحيح ابن ماجه" [ر:3654]، وصححه ابن حبان في "صحيحة" [ج12/ص: 38/ر:5234]، وخلاصة حكمه: [صحيح] ..
وقال الترمذي في "سننه" برقم [4411]: هذا حديث غريب من هذا الوجه من قبل إسناده وقد رُوى من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما يُستغرب من حديث أبى موسى ..
وقال السخاوي في "فتح المغيث" [ج3/ص" 35]: غريب من حديث أبي موسى معروف من حديث غيره ..
والرواية الأخرى:
ما رواه ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي معي وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ )، رواه الشيخان في الصحيح، البخاري [ج5/ص: 2061/ر:5079]، ومسلم [ج14/ص: 251/ر:5343]، ورواه الترمذي "سننه" [ج4/ص:234/ر:1818]، وقال: حسن صحيح، ورواه ابن ماجه في "سننه" [ج3/ص: 153/ر:3256]، ورواه الدارمي في "سننه" [ج1/ص: 532/ر:1971]، ورواه أحمد في "مسنده" [ج2/ص: 314/ر:6283]، وصححه الشيخ شاكر في "مسند أحمد" [ج9/ص: 113]، وخلاصة حكمه: [متفق عليه] ..
ومثال آخر:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى [ثقة حافظ جليل]، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ [ثقة ثبت]، أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ [صدوق حسن الحديث]، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ [ثقة]، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر [صدوق إلا أنه يدلسِ]، عَنْ جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ: ( لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَلَا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاء، وَلَا تَخَيَّرُوا بِهِ الْمَجَالِسَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالنَّارُ النَّارُ )، رواه ابن ماجه في "سننه" [ج1/ص: 138/ر:254]، وصححه له الألباني في "صحيح ابن ماجه" [ر:208]، و صححه الألباني في "صحيح الجامع" [ر:7370]، وخلاصة حكمه: [صحيح] ..
وهذا الحديث غريب إسنادا إذ ورد من عدة طرق مرسلا لم يذكر فيه الصحابي الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكنه روي عن يحيى بن أيوب متصلا بذكر الصحابي جابر بن عبد الله رضي الله عنه، فقد انفرد يحيي بن أيوب به عن غيره من الرواة فقال:
حدثنا ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( لا تعلموا العلم ..... الحديث ..
فهذا الحديث غريب إسنادا لا متنا، ويعبر الترمذي عن هذا القسم من الأحاديث بنحو قوله: [غريب من هذا الوجه] ..
الحديث الفرد:
الحديث الفرد هو الذي تفرد فيه راوية بأي وجه من وجوه التفرد ..
وهو ينقسم إلى قسمين رئيسين هما: الفرد المطلق، والفرد المقيد ..
أ. الحديث الفرد المطلق "المصدر": وهو الحديث الذي تفرد به راويه تفردا مطلقا لم يشاركه فيه أحد غيره من الرواة الصحابة أو التابعين ..
مثال ذلك حديث عمر الفاروق بالنيات فهذا الحديث تفرد به الصحابي الجليل الراشدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يرويه أي صحابي سمعه منه إلى من منتهاه صلى الله عليه وآله وسلم، إلا منسوب إليه بأصل الرواية، غير أنه اشتهر بعد ذلك فرواه كثيرون ..
فالحديث المطلق مشابه للحديث الغريب بالظاهر مخالف له بالأحادية كمصدر إطلاق لأصل السند رفعا من الصحابي أو إرسالا من التابعي، ويعتمد بصحته على علو ثقة الراوي فيكون التفرد بمصدره الأول، مع تصديق أمثاله وأتباعه لأصالة مصدره من منتهاه رفعا أو إرسالا ..
ب. الحديث الفرد المقيد "النسبي": وهو الذي وقع فيه التفرد بالنسبة إلى جهة معينة، من خلال التقيد بثقة الرواية أي تفرد الثقة على ما دونه بثقة الرواية ..
وهذا إفراد بقيد نوعي، وهناك تقيد آخر وهو القصور أي الإجماع أن الرواية باللفظ والمعنى محصورة أو قاصرة على فلان، والقيد الأخير للإفراد هو قيد الجمع، هو ما تفرد به جمع من الناس في بلدة أو مدينة ومن أمثلة قيد الجمع، ما تفرد به أهل المدينة المنورة كما روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على سهيل بن بيضاء في المسجد )، رواه مسلم في"صحيحة" [ج7/ص: 43/ر:2249]، ورواه أبو داود في "سننه" [ج2/ص: 225/ر:3189]، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" [ر:3189]، ورواه الترمذي في "سننه" [ج3/ص: 351/ر:1133]، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" [ر:1032]، وقال: حديث حسن، ورواه النسائي في "سننه المجتبى" [ج4/ص: 371/ر:1967]، وصححه الألباني في "صحيح النسائي" [ر:1967]، ورواه ابن ماجه في "سننه" [ج2/ص: 32/ر:1518]، وصححه له الألباني في "صحيح ابن ماجه" [ر:1241]، ورواه الإمام أحمد في "مسنده" [ج7/ص: 372/ر:25713]، وصححه الحاكم في "المستدرك" [ج3/ص: 730/ر:6645]، وخلاصة حكمه: [صحيح] ..
قال أبو عيسى الترمذي في "سننه" [ج3/ص: 351]: هذا حديث حسن . والعمل على هذا عند بعض أهل العلم . قال الشافعي : قال مالك : لا يصلى على الميت في المسجد . وقال الشافعي : يصلى على الميت في المسجد . واحتج بهذا الحديث ..
فهذا الحديث تفرد به أهل المدينة شهرة لأن أكثرهم حضروا صلاة الجنازة وشهدوا عليها فلم يروه غيرهم، فالتفرد النسبي قد يقع يكون مقيد بجهة تمثل مجتمع أو أفراد مستقلين، فيقال به: هذا الحديث تفرد به فلان من الرواة في حكم الحديث، عند المحدث ..
حكم الحديث الغريب والفرد:
ينقسم الغريب و الفرد من حيث الحكم إلى: صحيح وحسن وضعيف، وفق درجة تحقيق الشروط التقوية والصحة، أو عدمها، ويعبر أبو عيسى الترمذي عن هذا بحكمه أنه صحيح غريب، أو حسن غريب، وفيما دون ذلك فالغالب على الغرائب عدم الصحة، والمعتمد فيما سوى الصحيح والحسن، أن الحكم إنما يقع على صحة المتن لفظا ومعنى ..
ومع أن كثير من المحدثين المتقدمين بخلاف المتأخرين، عارضوا إمكانية تقوية تفرد الحديث، بالمتابعة بتعدد الطرق، إن كان في روايته الآحاد علة، وحتى ولو لم يكن في الرواية شذوذ، ولكن استثنوا من ذلك روايات التابعين الكبار والمتقنين الثبوت، أمثال مالك، والزهري، والأوزاعي، وابن المسيب، وابن المنكدر، وابن عيينة وغيرهم من الشيوخ الثقات، ولكن تبين فيما بعد أن سبب رده كان من باب التخصيص، من الناحية الفقهية والأصولية ..
يقول بذلك ابن رجب : (أكثر الحفاظ المتقدمين يقولون في الحديث إذا انفرد به واحد وإن لم يرو الثقات خلافه؛ إنه لا يتابع عليه، ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضا، ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه)، ورد في "شرح العلل" لابن رجب [ج2/ص: 582] ..
العلوم المشتركة بين العلماء بالإسناد والمتن:
ولفظ العلماء هنا يشمل المحدثين المتخصصين، والفقهاء المجتهدين، والأصوليين المتحققين ..
وهي مصطلحات حديثيه، اصطلحها الأصوليين ووافق على مضمونها المحدثين والفقهاء مع بعض الاختلاف ..
وهي سبعة أقسام:
1. الحديث المتواتر ..
2. الحديث المشهور ..
3. الحديث المستفيض ..
4. الحديث العزيز ..
5. الحديث التابع ..
6. الحديث الشاهد ..
7. الحديث المدرج ..
وأقوى وأعلى أحاديث الاستدلال، عند الفقهاء والأصوليين والمحدثين هو الحديث المتواتر ..
1. الحديث المتواتر:
القرآن نقل بالتواتر جمعا غفير عن جمع غفير، من الأكابر إلى الأصاغر، ومن الخلف عن السلف، بقراءات عشرة؛اهـ
أما الحديث المتواتر فقد تكلمنا عنه سابقا في قسم الحديث الصحيح، وهو من رواه جمع كبير يؤمن عدم تواطؤهم على الكذب، عن جمع مثلهم، في أول السند أو أوسطه، إلى انتهاء السند ..
أي أن كثرتهم تحيل إمكانية تواطؤهم على الكذب، من باب الاستحالة وفق العادة ..
والتواتر لغة: التتابع المتسلسل مع الاتصال الحسي ..
وفي اصطلاح الحديث: ما رواه جمع غفير يستحيل في العادة اتفاقهم على الكذب، عن مثلهم إلى منتهاه ..
ويشترط في تواتر الرواية وجود جمع من الرواة تحيل معقول الكذب في تواطأ الكذب، مع توافر هذه الكثرة في جميع طبقات السند إلى منتهاه، مع شرطية واللقاء المباشر للراوي عن المروي عنه ..
والمتواتر عند الأصوليين هو : ما يفيد العلم الضروري، الذي يُضطر الإنسان إلى تصديقه تصديقًا جازمًا لا تردد ولا ظن فيه، ويستوجب العمل به من غير بحث دلالات حالة رجاله، ولكن ينظر بمتنه مقارنة بثابت الأصول وموافق المعقول، خشية أن يكون تواتره، تفشي كذب، لأن صحة السند تستوجب صحة المتن، وصحة المتن لا تستوجب صحة السند إن أخذ بمضمون معنى المتن ودلالته وليس بصريح لفظ عبارته، مرفوعا لمنتهاه ..
أقسام المتواتر: ورغم أننا بينا ذلك في قسم الحديث الصحيح، إلا أن الإعادة لزيادة الإفادة، فهو كما قلنا سابقا ينقسم إلى قسمين: الحديث المتواتر اللفظي والحديث المتواتر المعنوي ..
أ.المتواتر اللفظي: وهو ما رواه جمع كبير في أول سنده، وأوسطه ومنتهاه، بلفظ واحد وصورة واحدة وهو عزيز جدا على أن ينال من سنده ..
ومثال ذلك حديث : ( من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار )، قال ابن الجوزي في "تنزيه الشريعة" للكناني [ج1/ص: 8] : ( رواه من الصحابة ثمانية وتسعون نفسا منهم العشرة المبشرة )، وروى ابن الجوزي، عن أبي بكر محمد بن أحمد بن عبد الوهاب الإسفراييني أنه قال : ( ليس في الدنيا حديث اجتمع عليه العشرة غيره )، قال الحافظ زين الدين العراقي: وليس كذلك فقد ذكر الحاكم والبيهقي أن حديث رفع اليدين في الصلاة رواه العشرة وقالا: ليس حديث رواه العشرة غيره، وذكر أبو القاسم بن منده أن حديث المسح على الخفين رواه العشرة أيضا ..
وذكر النووي في مقدمة شرح مسلم عن بعضهم: ( أن عدة من رواه من الصحابة مائتان )، قال الحافظ العراقي: ( وأنا أستبعد وقوع ذلك، وقد جمع الحافظ أبو الحجاج الدمشقي طرقه فبلغ بها مائة واثنين )؛ انتهى.
ومما تقدم نجد من إشارات المحدثين أن اجتمع على روايته الصحابة العشرة المبشرين بالجنة وهم أكمال الصحابة بالعدالة والضبط فإن الحديث يأخذ أعلى درجات الصحة باللفظ المتواتر، كما هو الحال إذا ما أجمع الصحاح التسعة على صحة تخريج حديث كحديثنا أعلاه والذي يعتبر من أصح الأحاديث المروية والمخرجة قاطبة ..
ب. المتواتر المعنوي: وهو أن ينقل جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب لتمام عدالة مصدر رواة الأصل، وهم الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصعوبة إحصاء، رواة الفرع، ولكن روي في أساس ووقائع مختلفة تشترك في أمر واحد، وقد تختلف في لفظ نص المتن، دون تغيير في المعنى والدلالة والقصد ..
موجبات التواتر:
الأحاديث المتواترة كثيرة فشعائر الإسلام وفرائضه كالصلاة والوضوء والصيام وغيرها نقلها الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بعدد عديد ثم نقلها العدد العديد عن مثلهم في التابعين، وهكذا، وغيرهم من الأحاديث التي تناقلها وأجمعت على صحة سندها ومتنها، الأئمة في الأقوال والأفعال ..
وهو المتواتر المعنوي ما يكون في أوله آحاديا، ثم يشتهر الحديث ..
كحديث عمر بالنيات أو النوايا، فتمام عمر كضابط عدل توازي عدالة أمة من الرواة الثقاة، يكفي أنه ثاني الراشدين وثاني المبشرين ..
فالفاروق رواه عنه علقمة، ورواه عن علقمة، محمد بن إبراهيم التميمي، ورواه عن التميمي يحيى بن سعيد القطان، ورواه عن القطان جمع غفير من الرواة فاشتهر وأضحى متواترا ..
حكم المتواتر:
هو المعتمد من الأحاديث لأنه يفيد العلم القطعي الثبوت اليقيني الدلالة، لفظا كان أو معنويا ..
بسم الله الرحمن الرحيم
العلوم المشتركة بين السند والمتن: قد يتفرد بعض الرواة في رواية حديث لم يشاركه فيه غيره من الرواة لا سندا ولا متنا، وقد يتفرد بعضهم برواية حديث بزيادة أو تغيير في متنه، أو أنه ورد بروايات أخرى قد لا تتفق مع تلك الرواية، كما يتفرد أحدهم برواية حديث بزيادة في إسناده مخالفا بذلك ما جاء به غيره، وحيث أن التفرد أو التعدد وصف مشترك بين السند والمتن له أهميته في هذا العلم لذلك كان التحري والبحث في هذا المجال من الضرورات، وقد سميت الطريقة الموصلة إلى ذلك بلفظ "الاعتبار" علما بأن هذا البحث، لا يتأثر اعتبارا، إلا بجهابذة علماء الحديث، وأرباب الباع الطويل في هذا العلم ..
تفرد الحديث: وينقسم عن هذا الحديث نوعان: الحديث الغريب، والحديث الفرد " خبر الآحاد" ..
أ.الحديث الغريب: وهو الذي تفرد به راوية واحد بحيث لم يروه غيره أو انفرد بزيادة في متنه لتلك الرواية خلافا لغيره وانفرد بزيادة أو تغيير في سنده خلافا لغيره، والحديث الذي لا يرويه إلا صحابي واحد يسمى غريب فإذا رواه ثقات بعدة طرق لسند الرواية عند هذا الراوي الصحابي سمي صحيح غريب، أو حسن غريب كما فعل بتصنيف ذلك صاحب السنن أبو عيسى الترمذي ..
ومن أمثلة الحديث الغريب بأوله حديث : ( إنما الأعمال بالنيات )، فرغم أنه بلغ درجة تواتر الصحة إلا أن منشأه غريب لم يرويه من الصحابة سوى الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ..
وقد يكون غريبا في أوسط سنده، إن كان تفرد به تابعي واحد، وذات الأمر مع تمام الرواية من أولها ..
الحديث الغريب متنا وسندا: و الحديث الغريب متنا وسندا هو الذي لا يروى إلا من وجه واحد ومثال على ذلك:
ما رواه محمد بن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان : سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم )، رواه الشيخان في الصحيح، البخاري في "صحيحة" [ج5/ص: 2352/ر:6043]، ومسلم في "صحيحة" [ج17/ص: 21/ر:6786]، ورواه الترمذي في "سننه" [ج5/ص: 478/ر:3467]، وقال في حكمه: حسن غريب صحيح، ورواه ابن ماجه في "سننه" [ج3/ص: 340/ر:3806]، ورواه الإمام أحمد في "مسنده" [ج2/ص: 462/ر:7127]، وصححه ابن حبان في "صحيحة" [ج3/ص: 112/ر:831]، وخلاصة حكمه: [متفق عليه] ..
فهذا الحديث تفرد به الصحابي أبو هريرة، ثم تفرد به عنه أبو زرعة، وتفرد به عن أبي زرعة عمارة وتفرد به عن عمارة محمد بن فضيل، ثم تحرر السند وتعدد رواته، كما نجد أن متنه واحد عند كل المحدثين ..
الحديث الغريب متنا لا سندا:
وهو الذي رواه المتفرد ثم اشتهر به آخر إذ رواه عنه الكثيرون من معاصريه ومن عاصر معاصريه، مثال حديث: ( إنما الأعمال بالنيات )، فقد ورواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتفرد به لكنه اشتهر عن جمع من الصحابة تكلموا به، ثم تفرد به عن عمر، علقمة، ثم تفرد به محمد بن إبراهيم، وتفرد به بعده يحيى بن سعيد، ثم اشتهر عن يحيى ورواه عنه كثيرون ..
فهذا الحديث غريب متنا بأوله وبعد اشتهاره لم يبقى غريب الإسناد فهو غريب متنا لا سندا، لتفرد رواية متنه أو نصه كل من الصحابي و التابعي وتابعي التابعي ..
الغريب بعض المتن:
ومن أنواع الحديث الغريب، الغريب بعض المتن، ومن ذلك ما رواه الترمذي عن الإمام مالك بن أنس عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زكاة لفطر من رمضان على كل حر أو عبد، ذكرا كان أم أنثى من المسلمين، صاع من تمر أو صاع من شعير )، رواه مسلم في "صحيحة" [ج7/ص: 60/ر:2275]، ورواه أبو داود في "سننه" [ج1/ص: 506/ر:1611]، وصححه له الألباني في "صحيح أبي داود" [ر:1611]، ورواه الترمذي في "سننه" [ج3/ص: 61/ر:676]، وصححه له الألباني في "صحيح الترمذي" [ر:676]، ورواه النسائي في "سننه المجتبى" [ج5/ص: 50/ر:2502]، وصححه له الألباني في "صحيح النسائي" [ر:2502]، ورواه ألإمام مالك في "الموطأ" [ج1/ص: 284/ر:614]، ورواه الدارمي في "سننه" [ج1/ص: 420/ر:1616]، وصححه ابن حبان في "صحيحة" [ج8/ص: 94/ر:3301]، وصححه السيوطي في "الجامع الصغير" [ر:4557]، وصححه له الألباني في "صحيح الجامع" [ر:3571]، وخلاصة حكمه: [صحيح] ..
فهذا الحديث تفرد به الإمام مالك عن سائر رواته، بزيادة لفظ: [من المسلمين]، فالغرابة هنا لهذه الزيادة في المتن ..
الغريب إسنادا لا متنا: وهو الحديث الذي اشتهر بوروده من عدة طرق عن راوي أو عن صحابي أو عدة رواة ثم تفرد به راوي فرواه من وجه آخر أي من طريق آخر غير ما اشتهر به الحديث ..
مثال ذلك:
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا بُرَيْدٌ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وآلهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي معي وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ )، رواه مسلم في "صحيحة" [ج14/ص: 252/ر:5345]، ورواه ابن ماجه في "سننه" [ج3/ص: 153/ر:3258]، وصححه له الألباني في "صحيح ابن ماجه" [ر:3654]، وصححه ابن حبان في "صحيحة" [ج12/ص: 38/ر:5234]، وخلاصة حكمه: [صحيح] ..
وقال الترمذي في "سننه" برقم [4411]: هذا حديث غريب من هذا الوجه من قبل إسناده وقد رُوى من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما يُستغرب من حديث أبى موسى ..
وقال السخاوي في "فتح المغيث" [ج3/ص" 35]: غريب من حديث أبي موسى معروف من حديث غيره ..
والرواية الأخرى:
ما رواه ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي معي وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ )، رواه الشيخان في الصحيح، البخاري [ج5/ص: 2061/ر:5079]، ومسلم [ج14/ص: 251/ر:5343]، ورواه الترمذي "سننه" [ج4/ص:234/ر:1818]، وقال: حسن صحيح، ورواه ابن ماجه في "سننه" [ج3/ص: 153/ر:3256]، ورواه الدارمي في "سننه" [ج1/ص: 532/ر:1971]، ورواه أحمد في "مسنده" [ج2/ص: 314/ر:6283]، وصححه الشيخ شاكر في "مسند أحمد" [ج9/ص: 113]، وخلاصة حكمه: [متفق عليه] ..
ومثال آخر:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى [ثقة حافظ جليل]، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ [ثقة ثبت]، أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ [صدوق حسن الحديث]، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ [ثقة]، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر [صدوق إلا أنه يدلسِ]، عَنْ جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ: ( لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَلَا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاء، وَلَا تَخَيَّرُوا بِهِ الْمَجَالِسَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالنَّارُ النَّارُ )، رواه ابن ماجه في "سننه" [ج1/ص: 138/ر:254]، وصححه له الألباني في "صحيح ابن ماجه" [ر:208]، و صححه الألباني في "صحيح الجامع" [ر:7370]، وخلاصة حكمه: [صحيح] ..
وهذا الحديث غريب إسنادا إذ ورد من عدة طرق مرسلا لم يذكر فيه الصحابي الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكنه روي عن يحيى بن أيوب متصلا بذكر الصحابي جابر بن عبد الله رضي الله عنه، فقد انفرد يحيي بن أيوب به عن غيره من الرواة فقال:
حدثنا ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( لا تعلموا العلم ..... الحديث ..
فهذا الحديث غريب إسنادا لا متنا، ويعبر الترمذي عن هذا القسم من الأحاديث بنحو قوله: [غريب من هذا الوجه] ..
الحديث الفرد:
الحديث الفرد هو الذي تفرد فيه راوية بأي وجه من وجوه التفرد ..
وهو ينقسم إلى قسمين رئيسين هما: الفرد المطلق، والفرد المقيد ..
أ. الحديث الفرد المطلق "المصدر": وهو الحديث الذي تفرد به راويه تفردا مطلقا لم يشاركه فيه أحد غيره من الرواة الصحابة أو التابعين ..
مثال ذلك حديث عمر الفاروق بالنيات فهذا الحديث تفرد به الصحابي الجليل الراشدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يرويه أي صحابي سمعه منه إلى من منتهاه صلى الله عليه وآله وسلم، إلا منسوب إليه بأصل الرواية، غير أنه اشتهر بعد ذلك فرواه كثيرون ..
فالحديث المطلق مشابه للحديث الغريب بالظاهر مخالف له بالأحادية كمصدر إطلاق لأصل السند رفعا من الصحابي أو إرسالا من التابعي، ويعتمد بصحته على علو ثقة الراوي فيكون التفرد بمصدره الأول، مع تصديق أمثاله وأتباعه لأصالة مصدره من منتهاه رفعا أو إرسالا ..
ب. الحديث الفرد المقيد "النسبي": وهو الذي وقع فيه التفرد بالنسبة إلى جهة معينة، من خلال التقيد بثقة الرواية أي تفرد الثقة على ما دونه بثقة الرواية ..
وهذا إفراد بقيد نوعي، وهناك تقيد آخر وهو القصور أي الإجماع أن الرواية باللفظ والمعنى محصورة أو قاصرة على فلان، والقيد الأخير للإفراد هو قيد الجمع، هو ما تفرد به جمع من الناس في بلدة أو مدينة ومن أمثلة قيد الجمع، ما تفرد به أهل المدينة المنورة كما روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على سهيل بن بيضاء في المسجد )، رواه مسلم في"صحيحة" [ج7/ص: 43/ر:2249]، ورواه أبو داود في "سننه" [ج2/ص: 225/ر:3189]، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" [ر:3189]، ورواه الترمذي في "سننه" [ج3/ص: 351/ر:1133]، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" [ر:1032]، وقال: حديث حسن، ورواه النسائي في "سننه المجتبى" [ج4/ص: 371/ر:1967]، وصححه الألباني في "صحيح النسائي" [ر:1967]، ورواه ابن ماجه في "سننه" [ج2/ص: 32/ر:1518]، وصححه له الألباني في "صحيح ابن ماجه" [ر:1241]، ورواه الإمام أحمد في "مسنده" [ج7/ص: 372/ر:25713]، وصححه الحاكم في "المستدرك" [ج3/ص: 730/ر:6645]، وخلاصة حكمه: [صحيح] ..
قال أبو عيسى الترمذي في "سننه" [ج3/ص: 351]: هذا حديث حسن . والعمل على هذا عند بعض أهل العلم . قال الشافعي : قال مالك : لا يصلى على الميت في المسجد . وقال الشافعي : يصلى على الميت في المسجد . واحتج بهذا الحديث ..
فهذا الحديث تفرد به أهل المدينة شهرة لأن أكثرهم حضروا صلاة الجنازة وشهدوا عليها فلم يروه غيرهم، فالتفرد النسبي قد يقع يكون مقيد بجهة تمثل مجتمع أو أفراد مستقلين، فيقال به: هذا الحديث تفرد به فلان من الرواة في حكم الحديث، عند المحدث ..
حكم الحديث الغريب والفرد:
ينقسم الغريب و الفرد من حيث الحكم إلى: صحيح وحسن وضعيف، وفق درجة تحقيق الشروط التقوية والصحة، أو عدمها، ويعبر أبو عيسى الترمذي عن هذا بحكمه أنه صحيح غريب، أو حسن غريب، وفيما دون ذلك فالغالب على الغرائب عدم الصحة، والمعتمد فيما سوى الصحيح والحسن، أن الحكم إنما يقع على صحة المتن لفظا ومعنى ..
ومع أن كثير من المحدثين المتقدمين بخلاف المتأخرين، عارضوا إمكانية تقوية تفرد الحديث، بالمتابعة بتعدد الطرق، إن كان في روايته الآحاد علة، وحتى ولو لم يكن في الرواية شذوذ، ولكن استثنوا من ذلك روايات التابعين الكبار والمتقنين الثبوت، أمثال مالك، والزهري، والأوزاعي، وابن المسيب، وابن المنكدر، وابن عيينة وغيرهم من الشيوخ الثقات، ولكن تبين فيما بعد أن سبب رده كان من باب التخصيص، من الناحية الفقهية والأصولية ..
يقول بذلك ابن رجب : (أكثر الحفاظ المتقدمين يقولون في الحديث إذا انفرد به واحد وإن لم يرو الثقات خلافه؛ إنه لا يتابع عليه، ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضا، ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه)، ورد في "شرح العلل" لابن رجب [ج2/ص: 582] ..
العلوم المشتركة بين العلماء بالإسناد والمتن:
ولفظ العلماء هنا يشمل المحدثين المتخصصين، والفقهاء المجتهدين، والأصوليين المتحققين ..
وهي مصطلحات حديثيه، اصطلحها الأصوليين ووافق على مضمونها المحدثين والفقهاء مع بعض الاختلاف ..
وهي سبعة أقسام:
1. الحديث المتواتر ..
2. الحديث المشهور ..
3. الحديث المستفيض ..
4. الحديث العزيز ..
5. الحديث التابع ..
6. الحديث الشاهد ..
7. الحديث المدرج ..
وأقوى وأعلى أحاديث الاستدلال، عند الفقهاء والأصوليين والمحدثين هو الحديث المتواتر ..
1. الحديث المتواتر:
القرآن نقل بالتواتر جمعا غفير عن جمع غفير، من الأكابر إلى الأصاغر، ومن الخلف عن السلف، بقراءات عشرة؛اهـ
أما الحديث المتواتر فقد تكلمنا عنه سابقا في قسم الحديث الصحيح، وهو من رواه جمع كبير يؤمن عدم تواطؤهم على الكذب، عن جمع مثلهم، في أول السند أو أوسطه، إلى انتهاء السند ..
أي أن كثرتهم تحيل إمكانية تواطؤهم على الكذب، من باب الاستحالة وفق العادة ..
والتواتر لغة: التتابع المتسلسل مع الاتصال الحسي ..
وفي اصطلاح الحديث: ما رواه جمع غفير يستحيل في العادة اتفاقهم على الكذب، عن مثلهم إلى منتهاه ..
ويشترط في تواتر الرواية وجود جمع من الرواة تحيل معقول الكذب في تواطأ الكذب، مع توافر هذه الكثرة في جميع طبقات السند إلى منتهاه، مع شرطية واللقاء المباشر للراوي عن المروي عنه ..
والمتواتر عند الأصوليين هو : ما يفيد العلم الضروري، الذي يُضطر الإنسان إلى تصديقه تصديقًا جازمًا لا تردد ولا ظن فيه، ويستوجب العمل به من غير بحث دلالات حالة رجاله، ولكن ينظر بمتنه مقارنة بثابت الأصول وموافق المعقول، خشية أن يكون تواتره، تفشي كذب، لأن صحة السند تستوجب صحة المتن، وصحة المتن لا تستوجب صحة السند إن أخذ بمضمون معنى المتن ودلالته وليس بصريح لفظ عبارته، مرفوعا لمنتهاه ..
أقسام المتواتر: ورغم أننا بينا ذلك في قسم الحديث الصحيح، إلا أن الإعادة لزيادة الإفادة، فهو كما قلنا سابقا ينقسم إلى قسمين: الحديث المتواتر اللفظي والحديث المتواتر المعنوي ..
أ.المتواتر اللفظي: وهو ما رواه جمع كبير في أول سنده، وأوسطه ومنتهاه، بلفظ واحد وصورة واحدة وهو عزيز جدا على أن ينال من سنده ..
ومثال ذلك حديث : ( من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار )، قال ابن الجوزي في "تنزيه الشريعة" للكناني [ج1/ص: 8] : ( رواه من الصحابة ثمانية وتسعون نفسا منهم العشرة المبشرة )، وروى ابن الجوزي، عن أبي بكر محمد بن أحمد بن عبد الوهاب الإسفراييني أنه قال : ( ليس في الدنيا حديث اجتمع عليه العشرة غيره )، قال الحافظ زين الدين العراقي: وليس كذلك فقد ذكر الحاكم والبيهقي أن حديث رفع اليدين في الصلاة رواه العشرة وقالا: ليس حديث رواه العشرة غيره، وذكر أبو القاسم بن منده أن حديث المسح على الخفين رواه العشرة أيضا ..
وذكر النووي في مقدمة شرح مسلم عن بعضهم: ( أن عدة من رواه من الصحابة مائتان )، قال الحافظ العراقي: ( وأنا أستبعد وقوع ذلك، وقد جمع الحافظ أبو الحجاج الدمشقي طرقه فبلغ بها مائة واثنين )؛ انتهى.
ومما تقدم نجد من إشارات المحدثين أن اجتمع على روايته الصحابة العشرة المبشرين بالجنة وهم أكمال الصحابة بالعدالة والضبط فإن الحديث يأخذ أعلى درجات الصحة باللفظ المتواتر، كما هو الحال إذا ما أجمع الصحاح التسعة على صحة تخريج حديث كحديثنا أعلاه والذي يعتبر من أصح الأحاديث المروية والمخرجة قاطبة ..
ب. المتواتر المعنوي: وهو أن ينقل جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب لتمام عدالة مصدر رواة الأصل، وهم الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصعوبة إحصاء، رواة الفرع، ولكن روي في أساس ووقائع مختلفة تشترك في أمر واحد، وقد تختلف في لفظ نص المتن، دون تغيير في المعنى والدلالة والقصد ..
موجبات التواتر:
الأحاديث المتواترة كثيرة فشعائر الإسلام وفرائضه كالصلاة والوضوء والصيام وغيرها نقلها الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بعدد عديد ثم نقلها العدد العديد عن مثلهم في التابعين، وهكذا، وغيرهم من الأحاديث التي تناقلها وأجمعت على صحة سندها ومتنها، الأئمة في الأقوال والأفعال ..
وهو المتواتر المعنوي ما يكون في أوله آحاديا، ثم يشتهر الحديث ..
كحديث عمر بالنيات أو النوايا، فتمام عمر كضابط عدل توازي عدالة أمة من الرواة الثقاة، يكفي أنه ثاني الراشدين وثاني المبشرين ..
فالفاروق رواه عنه علقمة، ورواه عن علقمة، محمد بن إبراهيم التميمي، ورواه عن التميمي يحيى بن سعيد القطان، ورواه عن القطان جمع غفير من الرواة فاشتهر وأضحى متواترا ..
حكم المتواتر:
هو المعتمد من الأحاديث لأنه يفيد العلم القطعي الثبوت اليقيني الدلالة، لفظا كان أو معنويا ..