<blockquote class="postcontent restore ">
الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)
الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) واللاعنف
إحدى أهم الأدلة على أنّ الإسلام يتّبع اُسلوب اللاّعنف هي منهجية الرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله) وسيرته في تعامله حتى مع مناوئيه، حيث إنّه
(صلى الله عليه وآله) قدّم للبشرية جمعاء خير شاهد على أنّ الإسلام يدعو
إلى اللاّعنف وينبذ البطش والعنف.
ونذكر هنا بعض الشواهد:
الإرفاق بالأسرى
عندما فتح الإمام علي (عليه السلام) خيبر أخذ فيمن أخذ صفيّة بنت حييّ بن
أخطب فدعا بلالا فدفعها إليه، وقال له: يا بلال لا تضعها إلاّ في يدي رسول
الله (صلى الله عليه وآله) حتّى يرى فيها رأيه.
فأخرجها بلال ومرّ بها في طريقه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) على
القتلى، فكادت تزهق روحها جزعاً، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمّا
علم بذلك: أنُزعت منك الرحمة يابلال؟
ثمّ عرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليها الإسلام، فأسلمت، فاصطفاها لنفسه ثمّ أعتقها وتزوّجها، فكانت امرأة مؤدّبة[1].
من مكارم رسول الله (صلى الله عليه وآله)
إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يهدر دم أحد إلا إذا كان مستحقاً
للقتل لعظيم جرمه، وكانوا قلة، كقاتل عمه حمزة، ومع ذلك فإن أكثرهم استأمن
لهم بعض معارفهم، فأمنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخرجوا من
استتارهم، وجاءوا إليه (صلى الله عليه وآله) وأسلموا على يديه، فقبل
إسلامهم وعفا عنهم.
وكان أحد هؤلاء: صفوان بن اُميّة، وقد فرّ يومئذ، فاستأمن له عمير بن وهب
الجمحي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأمنه، وأعطاه عمامته التي دخل بها
مكّة.
فلحقه عمير وهو يريد أن يركب البحر فردّه وقال: ياصفوان، اذكر الله في نفسك
أن تهلكها، فهذا أمان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد جئتك به.
فقال صفوان، وهو يستبعد ذلك حسب رأيه وحسب الموازين الحاكمة في الجاهلية سابقاً: اُغرب عنّي فلا تكلّمني.
فقال له عمير، وهو يريد أن يطمئنه: أي صفوان اُعلمك أنّ أفضل الناس وأبرّ
الناس وخير الناس ابن عمّك، عزّه عزّك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك.
فقال صفوان، وهو يبدي ما في قرارة نفسه وما انطوى عليه الجاهليون من الغدر: إنّي أخافه على نفسي.
فقال له عمير: انّه ليس كما تتصوّر، بل هو أحلم من ذلك وأكرم.
فاطمأنّ صفوان لما أراه عمير عمامة رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي بعثها إليه علامة لأمانه.
فرجع معه حتّى وقف به على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: هذا يزعم أنّك أمّنتني؟
فقال (صلى الله عليه وآله): صدق.
قال: فاجعلني بالخيار شهرين.
قال (صلى الله عليه وآله): أنت بالخيار أربعة أشهر.
مع عكرمة بن أبي جهل
وكذلك من الأشخاص الذين أُستأمن لهم فآمنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)
عكرمة بن أبي جهل، حيث استأمنت له زوجته اُمّ حكيم بنت الحارث بن هشام
وأخبرت زوجها بذلك وهي تقول له: جئتك من عند أوصل الناس، وأبرّ الناس، وخير
الناس، لا تهلك نفسك وقد استأمنت لك فآمنك.
فجاء معها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأسلم على يديه، ثمّ قال: يا رسول الله مرني بخير ما تعلم فاعمله.
قال (صلى الله عليه وآله): قل أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله وجاهد في سبيل الله.
عفوه عن ابن الزبعرى
ينقل إن عبد الله بن الزبعرى كان يهجو رسول الله (صلى الله عليه وآله)
ويعظم القول فيه والوقيعة في المسلمين، وعندما فتحت مكّة فرّ منها، وبعد أن
عرف أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) رسول الرحمة والإنسانية رجع إلى مكّة
واعتذر من الرسول (صلى الله عليه وآله) ممّا بدا منه.
فقبل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) عذره وأمر له بحلّة، وعلى أثر ذلك أسلم، وأنشد شعراً يقول فيه:
ولقد شهدت أنّ دينك صادق***حقّاً وإنّك في العباد جسيم
والله يشهد أنّ أحمد مصطفى***مستقبل في الصالحين كريم
وقال أيضاً:
فالآن أخضع للنبي محمّد***بيد مطاوعة وقلب نائب
ومحمّد أوفى البريّة ذمّة***وأعزّ مطلوب وأظفر طالب
هادي العباد إلى الرشاد***وقائد للمؤمنين بضوء نور الثاقب
إنّي رأيتك يا محمّد عصمة ***للعالمين من العذاب الواصب[2]
يهودي يحبس الرسول (صلى الله عليه وآله)
عن أمير المؤمنين (عليه السلام) انّه قال: إنّ يهودياً كان له على رسول الله (صلى الله عليه وآله) دنانير، فتقاضاه.
فقال (صلى الله عليه وآله) له: يا يهودي، ما عندي ما أعطيك.
فقال: فإنّي لا اُفارقك يا محمّد حتّى تقضيني.
فقال: إذن أجلس معك.
فجلس (صلى الله عليه وآله) معه حتّى صلّى في ذلك الموضع الظهر والعصر
والمغرب والعشاء الآخر والغداة، وكان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)
يتهدّدونه ويتواعدونه.
فنظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليهم فقال: ما الذي تصنعون؟
فقالوا: يا رسول الله يهودي يحبسك؟
فقال: لم يبعثني ربّي عز وجل بأن أظلم معاهداً ولا غيره.
فلمّا علا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله وشطر مالي في سبيل الله[3].
الإسلام والسجون
من الشواهد على أنّ الإسلام يتبع أُسلوب اللاّعنف إنّه لم يكن للرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله) سجن اطلاقاً، بل كان إذا أراد أن يودع أحداً
في السجن ليوم أو لأيّام معدودات ـ أقلّ من أصابع اليد ـ كان يحفظه في دار
كانت بباب المسجد.
وقد بقي هذا القانون حتّى زمان أبي بكر أمّا في زمان عمر فقد استأجر داراً وجعلها سجناً ليوم أو لبعض الأيّام لأشخاص قلّة[4].
بل حتّى الأُسراء لم يودعهم الإسلام في السجون أو المعسكرات وإنّما كانوا
مطلقين، فمن شاء منهم أن يذهب إلى بلده ومن شاء منهم أن يبقى في المدينة
المنوّرة، وهذا ما يستفاد من قوله تعالى: ((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى
حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً))[5]. حيث كان الأسير يسير
بحريته.
عفوه (صلى الله عليه وآله) عن الأعرابي
عن جابر بن عبد الله: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) نزل تحت شجرة فعلّق
بها سيفه ثمّ نام، فجاء أعرابي فأخذ السيف وقام على رأسه، فاستيقظ النبي
(صلى الله عليه وآله).
فقال الرجل: يا محمّد من يعصمك الآن منّي؟
قال: الله تعالى.
فرجف وسقط السيف من يده.
وفي خبر آخر: إنّه بقي جالساً زماناً ولم يعاقبه النبي (صلى الله عليه وآله)[6].
رحلته (صلى الله عليه وآله) إلى الطائف
لمّا اشتدّ بلاء قريش على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعقيب وفاة ناصره
وحاميه أبي طالب (عليه السلام) عانى الرسول (صلى الله عليه وآله) من سفهاء
قريش ما عاناه، حيث إنّهم تجرّؤوا عليه وكاشفوه بالأذى ونالوا منه ما لم
ينل قومه في مكّة.
وقد كان معه آنذاك زيد بن حارثة مولاه، فأقام بينهم في الطائف عشرة أيّام لا يدع أحداً من أشرافهم إلاّ جاءه وكلّمه.
فقالوا: أخرج من بلادنا، وأغرّوا به سفهاءهم، فأخذوا يرجمون عراقيبه (صلى الله عليه وآله) بالحجارة حتّى اختضبت نعلاه بالدماء.
وكان (صلى الله عليه وآله) إذا أذلقته الحجارة قعد إلى الأرض فيأخذونه
بعضديه ويقيمونه، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون، بينما كان زيد بن حارثة يقيه
بنفسه، حتّى لقد شجّ في رأسه شجاجاً، وما زالوا به حتّى ألجئوه إلى حائط
لابنيّ ربيعة: عتبة وشيبة.
فعمد إلى الظلّ وانصرف عنه السفهاء، فأخذ (صلى الله عليه وآله) يناجي ربّه
ويدعوه بالدعاء المأثور قائلا (صلى الله عليه وآله): «اللهمّ إنّي أشكو
إليك ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، وربّ
المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني؟ إلى عدوّ بعيد يتجهّمني، أو إلى عدوّ
ملّكته أمري، إن لم يكن بك عليّ غضب فلا اُبالي، غير أنّ عافيتك هي أوسع
لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن
ينزل بي غضبك، أو يحلّ عليّ سخطك، لك العتبى حتّى ترضى، ولا حول ولا قوّة
إلاّ بك».
فلم يدع على القوم أبداً، بل كان يقول: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.
اللاّعنف في غزوة أُحد
عندما انكشف المسلمون يوم اُحد وانهزموا، عمد المشركون إلى رسول الله (صلى
الله عليه وآله) فرشقوه بالحجارة حتّى شجّ في وجهه وكلّمت شفته السفلى،
وكادوا أن يقتلوه (صلى الله عليه وآله) لولا حفظ الله تعالى له.
فقام (صلى الله عليه وآله) رافعاً يديه نحو السماء وهو يقول: إنّ الله
اشتدّ غضبه على اليهود حين قالوا: عزير ابن الله، واشتدّ غضبه على النصارى
أن قالوا: المسيح ابن الله، وانّ الله اشتدّ غضبه على من أراق دمي، وآذاني
في عترتي.
وفي الحديث: انّه (صلى الله عليه وآله) كلّما سال الدم على وجهه المبارك تناوله بيده فرمى به في الهواء، فلا يرجع منه شيء.
وقد قيل له (صلى الله عليه وآله): ألا تدعو عليهم؟
فقال (صلى الله عليه وآله): اللهمّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون.
ثمّ كان يقول (صلى الله عليه وآله) أسفاً عليهم: كيف يفلح قوم خضّبوا وجه نبيّهم بالدم وهو يدعوهم إلى الله.
عفوه عن هبّار
روي أنّ هبار بن الأسود كان ممّن عرض لزينب بنت رسول الله (صلى الله عليه
وآله) حين خرجت من مكّة إلى المدينة، حيث روعها هبّار بالرمح وهي في الهودج
وكانت حاملاً فلما رجعت طرحت ذا بطنها، وكانت من خوفها رأت دماً وهي في
الهودج، فلذلك أباح الرسول (صلى الله عليه وآله) يوم فتح مكة دم هبّار بن
الأسود، ففرّ هبّار.
ثمّ قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالمدينة ـ ويقال أتاه
بالجعرانة حين فرغ من حنين ـ فمثّل بين يديه وهو يقول: أشهد أن لا إله إلاّ
الله، وأنّك رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فقبل الرسول (صلى الله عليه وآله) إسلامه وعفا عنه[7].
مع ابنة الطائي
وفي التاريخ: انّه هجم جند الإسلام على جبل طي وفتحوه وأخذوا الأسرى إلى المدينة، فكانت بنت حاتم الطائي فيهم.
فمرّ بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقامت إليه وقالت: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد فامنُن عليّ منّ الله عليك.
فلم يجبها الرسول (صلى الله عليه وآله).
وفي اليوم الثالث أشار لها الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن تعيد طلبتها.
فقالت: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد فامنن عليَّ منَّ الله عليك.
فعفى النبي (صلى الله عليه وآله) عنها وقال: لا تعجلي بخروج حتّى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتّى يبلغك إلى بلادك.
ولمّا قدم من قومها من تثق بهم قالت لرسول الله (صلى الله عليه وآله): قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ.
فكساها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأعطاها نفقة، فخرجت معهم حتّى قدمت الشام.
اللاّعنف مع الأعرابي
روي عن أنس أنّه قال: كنت مع النبي (صلى الله عليه وآله) وعليه برد غليظ
الحاشية، فجذبه أعرابي بردائه جذبة شديدة حتّى أثّرت حاشية البرد في صفحة
عاتقه (صلى الله عليه وآله) ثمّ قال: يا محمّد احمل لي على بعيريَّ هذين من
مال الله الذي عندك، فإنّك لا تحمل لي من مالك ولا مال أبيك.
فسكت النبي (صلى الله عليه وآله) ثمّ قال: المال مال الله وأنا عبده.
ثمّ قال: ويُقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي؟
قال: لا.
قال: لِمَ؟
قال: لأنّك لا تكافئ بالسيّئة الحسنة.
فضحك النبي (صلى الله عليه وآله) ثمّ أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر[8].
مع عبد الله بن أبي اُميّة
جاء في تفسير قوله تعالى: ((وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ
لَنَا مِنْ الأرض يَنْبُوعاً))[9] أنّها نزلت في عبد الله بن أبي اُميّة
أخي اُمّ سلمة (رحمة الله عليها).
وذلك أنّه قال هذا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بمكّة قبل الهجرة،
فلمّا خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى فتح مكّة استقبله عبد الله
بن أبي اُميّة فسلّم، فلم يردّ عليه السلام وأعرض عنه ولم يجبه بشيء، وكانت
اُخته اُمّ سلمة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فدخل إليها فقال: يا
اُختي إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قبل إسلام الناس كلّهم وردّ
إسلامي، فليس يقبلني كما قبل غيري.
فلمّا دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على اُمّ سلمة قالت: بأبي أنت
واُمّي يا رسول الله! سعد بك جميع الناس إلاّ أخي من بين قريش والعرب رددت
إسلامه وقبلت إسلام الناس كلّهم.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا اُمّ سلمة إنّ أخاك كذّبني
تكذيباً لم يكذّبني أحد من الناس، هو الذي قال لي: «لن نؤمن لك حتّى تفجّر
لنا من الأرض ينبوعاً».
فقالت اُمّ سلمة: بأبي أنت واُمّي يا رسول الله ألم تقل: الإسلام يجبّ ما كان قبله؟
قال: نعم.
فقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) إسلامه[10].
اليوم يوم المرحمة
إحدى الشواهد المهمّة الدالّة على أنّ الإسلام يدعو إلى اللاّعنف هي
المواقف المهمّة التي اتّخذها رسول الإنسانية (صلى الله عليه وآله) إثر فتح
مكّة المكرّمة.
فلمّا دخل المسلمون مكّة كانت إحدى الرايات في يد سعد بن عبادة وهو ينادي
برفيع صوته: اليوم يوم الملحمة.. اليوم تستحلّ الحرمة. يا معشر الأوس
والخزرج، ثأركم يوم الجبل.
فأتى العبّاس النبي (صلى الله عليه وآله) وأخبره بمقالة سعد.
فقال (صلى الله عليه وآله): ليس بما قال سعد شيء، ثمّ قال للإمام علي (عليه
السلام): أدرك سعداً فخذ الراية منه وأدخلها إدخالا رفيقاً.
فأخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) الراية منه وأخذ ينادي برفيع صوته: اليوم يوم المرحمة.. اليوم تصان الحرمة[11].
أخ كريم وابن أخ كريم
وبعد أن فتح الجيش الإسلامي مكّة المكرّمة تجلّت أيضاً عظمة الإسلام وانبرت
حقيقته الناصعة الداعية إلى اللين واللاّعنف ونبذ العنف والبطش..
فبعد أن كان أسياد قريش يتفنّون في إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله)
وأصحابه دار فلك الزمان وانقلبت الموازين وإذا بنفس هؤلاء الأسياد يمتثلون
بين يدي رسول الرحمة (صلى الله عليه وآله) وينظرون ما هو صانع بهم..
فيا ترى ماذا صنع معهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
فهل ردّ إساءتهم بمثلها؟
أم ماذا؟
يقول المؤرخّون: لمّا دخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنّون أنّ السيف لا يرفع
عنهم، أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) البيت وأخذ بعضادتي الباب ثمّ
قال: لا إله إلاّ الله، أنجز وعده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده.
ثمّ قال: ما تظنّون؟
وما أنتم قائلون؟
فقال سهيل بن عمرو: نقول خيراً ونظنّ خيراً، أخ كريم وابن عمّ.
قال: فإنّي أقول لكم كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم
وهو أرحم الراحمين، ألا إنّ كلّ دم ومال ومأثرة كان في الجاهلية فإنّه
موضوع تحت قدمي[12].
هكذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله)
روي انّه بعد ما قتل وحشي حمزة سيد الشهداء عم النبي (صلى الله عليه وآله)
بعث وحشي جماعة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) انّه ما يمنعنا من دينك
إلاّ أنّنا سمعناك تقرأ في كتابك أنّ من يدعو مع الله إلهاً آخر ويقتل
النفس ويزني يلق آثاماً ويخلّد في العذاب ونحن قد فعلنا هذا كلّه؟
فبعث (صلى الله عليه وآله) إليهم بقوله تعالى: ((إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً))[13].
فقالوا نخاف أن لا نعمل صالحاً؟
فبعث إليهم (صلى الله عليه وآله): ((إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ))[14].
فقالوا: نخاف ألاّ ندخل في المشيئة.
فبعث إليهم (صلى الله عليه وآله): ((يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً))[15].
فجاءوا وأسلموا.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله) لوحشي قاتل حمزة: غيّب وجهك عنّي فإنّني لا أستطيع النظر إليك.
وهذا منتهى ما قال له الرسول (صلى الله عليه وآله).
الإمام علي (عليه السلام) واللاعنف
على خطى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وطبق منهجيته المؤكّدة على
اللاّعنف سار الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) واحتذى بخطاه المباركة
حيث انّه (عليه السلام) راح يقدّم للبشرية جمعاء أعظم دروس في اللاّعنف
التي بقي صداها يدوّي حتّى هذا اليوم في شتّى أنحاء العالم.
إنّ من يتمعّن في سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) العطرة ويتأمّل مواقفه
الخالدة يتجلّى له كالصبح لذي عينين، أنّه (عليه السلام) كان يدعو بشكل
حثيث إلى اللاّعنف والعفو والسلام، وكان يعتمد على اللين والصفح الجميل،
فمن تلك المواقف الخالدة التي قدّمها أمير المؤمنين (عليه السلام) في مجال
اللاّعنف هو:
الإمام علي (عليه السلام) وصاحب التمر
عن أبي مطر البصري: إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) مرّ بأصحاب التمر فإذا هو بجارية تبكي فقال (عليه السلام): يا جارية ما يبكيك؟
فقالت: بعثني مولاي بدرهم فابتعت من هذا تمراً فأتيتهم به فلم يرضوه، فلمّا أتيته به أبى أن يقبله.
قال: يا عبد الله إنّها خادم وليس لها أمر، فاردد إليها درهمها وخذ التمر.
فقام إليه الرجل فلكزه[16]!.
فقال الناس: هذا أمير المؤمنين!.
فربى الرجل[17] واصفرّ وأخذ التمر وردّ إليها درهمها، ثمّ قال: يا أمير المؤمنين ارضِ عنّي.
فقال (عليه السلام): ما أرضاني عنك إن أصلحت أمرك[18].
مع ابن الكوّاء
هناك واقعة أخرى يتجلّى فيها مدى سماحة أمير المؤمنين (عليه السلام) وعدم
عنفه التامّ حتّى في قبال من يرميه بالشرك الذي يعدّ من الكبائر.
ففي أحد الأيّام كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يصلّي صلاة الصبح فقال
ابن الكوّاء من خلفه: ((وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ
الْخَاسِرِينَ))[19].
فأنصت الإمام علي (عليه السلام) تعظيماً للقرآن حتّى فرغ من الآية، ثمّ عاد (عليه السلام) في قراءته.
ثمّ أعاد ابن الكوّاء الآية، فأنصت الإمام علي (عليه السلام) أيضاً، ثمّ قرأ.
فأعاد ابن الكوّاء، فأنصت الإمام علي (عليه السلام) ثمّ قال: ((فَاصْبِرْ
إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ
يُوقِنُونَ))[20] ثمّ أتمّ السورة وركع[21].
قد عفونا عنك
بعث أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى لبيد بن عطارد التميمي في كلام بلغه،
فمرّ به أمير المؤمنين (عليه السلام) في بني أسد، فقام إليه نعيم بن دجاجة
الأسدي فأفلته، فبعث إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) فأتوه به، وأمر به
أن يضرب، فقال له: نعم والله إنّ المقام معك لذلّ، وإنّ فراقك لكفر.
فلمّا سمع ذلك منه قال (عليه السلام): قد عفونا عنك إنّ الله عز وجل يقول: ((ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ))[22].
أمّا قولك إنّ المقام معك لذلّ فسيّئة اكتسبتها، وأمّا قولك إنّ فراقك لكفر فحسنه اكتسبتها فهذه بهذه[23].
عفو عن ذنب
بلغ من التزام أمير المؤمنين (عليه السلام) باللاّعنف إنّه حتّى مع الخوارج
لم يلجأ إلى القوّة معهم وإنّما عكف على نصيحتهم وتذكيرهم بالحقّ ولكنّهم
أبوا إلاّ محاربة المسلمين فحينذاك دافع الإمام (عليه السلام) عن الأمة.
ففي أكثر من مرّة يعاود متعصّبي الخوارج إساءتهم وتجاسرهم على أمير
المؤمنين (عليه السلام) إلاّ أنّه (عليه السلام) كان يلتزم باللاّعنف في
قبالهم، فضلا عن ذلك كان يحثّ المسلمين إلى عدم التعرّض لهم.
فقد نُقل انّه مرّت امرأة جميلة في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) فرمقها
القوم بأبصارهم فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) إنّ ابصار هذه الفحول
طوامح وإنّ ذلك سبب هناتها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجّبه فليمس أهله،
فإنّما هي امرأة كامرأة.
فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافراً ما أفقهه!
فوثب القوم ليقتلوه، فقال (عليه السلام): رويداً إنّما هو سبّ بسبّ أو عفو عن ذنب[24].
ليس لك عندي إلاّ ما تحبّ
بين الفترة والأخرى كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يشرع بنصيحة الذين
تقمصوا الخلافة ويرشدهم إلى درب الصواب، ولكنهم غالباً لم يلتزموا.
يقول قنبر مولى أمير المؤمنين (عليه السلام): دخلت مع أمير المؤمنين (عليه
السلام) على عثمان فأحبّ الخلوة فأومأ إليّ بالتنحّي فتنحّيت غير بعيد،
فجعل عثمان يعاتبه، وهو مطرق رأسه، وأقبل إليه عثمان، فقال: ما لك لا تقول؟
فقال (عليه السلام): ليس جوابك إلاّ ما تكره، وليس لك عندي إلاّ ما تحبّ، ثمّ خرج قائلا:
ولو أنّني جاوبته لأمضّه***نوافذ قولي واختصار جوابي
ولكنّني أغضي على مضض الحشا***ولو شئت أقداماً لأنشبّ نابي
قل أستغفر الله وأتوب إليه
نُقل انّه جيء بموسى بن طلحة بن عبيد الله، فقال له أمير المؤمنين (عليه
السلام): قل: «أستغفر الله وأتوب إليه» ثلاث مرّات، وخلّى سبيله، وقال:
اذهب حيث شئت، وما وجدت لك في عسكرنا من سلاح أو كراع فخذه، واتّق الله
فيما تستقبله من أمرك واجلس في بيتك[25].
عفوت وصفحت
جاء في التاريخ: إنّ الإمام علي (عليه السلام) كان إذا صلّى الفجر لم يزل
معقّباً إلى أن تطلع الشمس، فإذا طلعت اجتمع إليه الناس، فيعلّمهم الفقه
والقرآن، وكان له وقت يقوم فيه من مجلسه ذلك.
فقام (عليه السلام) يوماً فمرّ برجل، فرماه بكلمة هجا فيها الإمام (عليه السلام)، فرجع عوده على بدئه، وأمر فنودي: الصلاة جامعة.
ثمّ صعد (عليه السلام) المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيّها الناس إنّه
ليس شيء أحبّ إلى الله ولا أعمّ نفعاً من حلم إمام وفقهه، ولا شيء أبغض
إلى الله ولا أعمّ ضرراً من جهل إمام وخرقه، ألا وإنّه من لم يكن له من
نفسه واعظ لم يكن له من الله حافظ، ألا وإنّه من أنصف من نفسه لم يزده الله
إلاّ عزّاً، ألا وإنّ الذلّ في طاعة الله أقرب إلى الله من التعزّز في
معصيته، ثمّ قال: أين المتكلّم آنفاً؟
فلم يستطع الإنكار، فقال: ها أنذا يا أمير المؤمنين.
فقال: أما إنّي لو أشاء لقلت.
فقال الرجل: إن تعفو وتصفح فأنت أهل لذلك؟
فقال: عفوت وصفحت[26].
من أين الرجل؟
حاول معاوية بن أبي سفيان مراراً قتل أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد أسرّ إلى بعض خاصّته أنّ من قتل علياً فله عشرة آلاف دينار.
فانبرى لذلك أحدهم، ولكنّه تراجع في اليوم التالي، معتذراً منه، وقال: أسير إلى ابن عمّ رسول الله، وأبي ولديه، وأقتله؟
لا والله.. لا أفعل!
فزيّد معاوية الأجر، فجعله عشرين ألف دينار.
فقبله أحدهم، لكنّه ـ هو الآخر ـ تراجع وامتنع.
فزيّده إلى ثلاثين ألف، فقبل المهمّة رجل من «حمير»، وخرج من الشام قاصداً الكوفة.
فجاء حتّى دخل على أمير المؤمنين (عليه السلام) في الكوفة، وعليه ثياب السفر، فقال له الإمام: من أين الرجل؟
قال: من الشام.
وكانت عند الإمام (عليه السلام) أخباره، فاستنطقه، فاعترف، فقال له الإمام
(عليه السلام): فما رأيك الآن؟ أتمضي إلى ما اُمرت به؟ أم ماذا؟
فقال الرجل: لا..
ولكنّي أنصرف.
فقال الإمام لقنبر: يا قنبر أصلح راحلته، وهيّئ له زاده، وأعطه نفقته[27]
يا أيّها المدّعي لما لا يعلم
روي أنّ قوماً حضروا عند أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يخطب بالكوفة
ويقول: سلوني قبل أن تفقدوني، فأنا لا أُسأل عن شيء دون العرش إلاّ أجبت
فيه، لا يقولها بعدي إلاّ مدّع أو كذّاب مفتر.
فقام إليه رجل من جنب مجلسه، وفي عنقه كتاب كالمصحف، وهو رجل آدم ظربّ طوال
جعد الشعر، كأنّه من يهود العرب، فقال رافعاً صوته للإمام علي (عليه
السلام): يا أيّها المدّعي لما لا يعلم والمتقدّم لما لا يفهم أنا سائلك
فأجب.
قال: فوثب إليه أصحاب الإمام (عليه السلام) وشيعته من كلّ ناحية وهمّوا به.
فنهرهم الإمام علي (عليه السلام) وقال: دعوه ولا تعجلوه، فانّ العجل والطيش
لا يقوم به حجج الله، ولا بإعجال السائل تظهر براهين الله تعالى.
ثمّ التفت إلى السائل فقال: سل بكلّ لسانك ومبلغ علمك اُجبك إن شاء الله
تعالى بعلم لا تختلج فيه الشكوك، ولا تهيجه دنس ريب الزيغ، ولا حول ولا
قوّة إلاّ بالله العلي العظيم[28].
مع أبي هريرة
جاء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) أبو هريرة وكان يكلّم فيه ـ وأسمعه في
اليوم الماضي[29] ـ وسأله حوائجه فقضاها، فعاتبه أصحابه على ذلك، فقال
(عليه السلام): إنّي لأستحي أن يغلب جهله علمي وذنبه عفوي ومسألته
جودي[30].
أمنت عقوبتك
دعا أمير المؤمنين (عليه السلام) غلاماً له مراراً فلم يجبه، فخرج فوجده على باب البيت، فقال: ما حملك على ترك إجابتي؟
قال: كسلت عن إجابتك، وأمنت عقوبتك.
فقال: الحمد لله الذي جعلني ممّن تأمنه خلقه، امض فأنت حرّ لوجه الله[31].
هكذا هو اللاّعنف
عندما قاتل معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين (عليه السلام) وخرج عليه
جائراً، استولى عسكر معاوية على الماء وأحاطوا بشريعة الفرات، فقال له
رؤساء الشام: اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشاً.
وبالفعل، حينما سألهم الإمام علي (عليه السلام) وأصحابه أن يسوّغوا لهم شرب
الماء قالوا: لا والله ولا قطرة حتّى تموت ظمئاً كما مات ابن عفّان.
ولمّا رأى أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه الموت لا محالة تقدّم بأصحابه
وحمل على عساكر معاوية حملات كثيفة، حتّى أزالهم عن مراكزهم، وملكوا عليهم
الماء، وصار أصحاب معاوية في الفلات لا ماء لهم.
فقال للإمام (عليه السلام) أصحابه وشيعته: امنعهم الماء يا أمير المؤمنين
كما منعوك، ولا تسقهم منه قطرة، واقتلهم بسيوف العطش، وخذهم قبضاً بالأيدي،
فلا حاجة لك إلى الحرب.
فقال: لا والله لا اُكافيهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن بعض الشريعة[32].
اللاّعنف حتى مع قاتله
حينما ضرب ابن ملجم (لعنه الله تعالى) أمير المؤمنين (عليه السلام) على
رأسه تلك الضربة التي انهدّت منها أركان السماوات، بقي الإمام (عليه
السلام) يغشى عليه ويفيق، وفي تلك اللحظات الحرجة أفاق (عليه السلام)، فقال
له الإمام الحسن (عليه السلام): هذا عدوّ الله وعدوّك ابن ملجم قد أمكننا
الله منه وقد حضر بين يديك.
ففتح أمير المؤمنين (عليه السلام) عينيه ونظر إليه وقال له بضعف وإنكسار
صوت: يا هذا لقد جئت عظيماً وارتكبت أمراً عظيماً وخطباً جسيماً، أبئس
الإمام كنتُ لك حتّى جازيتني بهذا الجزاء؟
ألم أكن شفيقاً عليك وآثرتك على غيرك وأحسنت إليك وزدت في اعطائك؟
ألم يكن يقال لي فيك كذا وكذا فخلّيت لك السبيل ومنحتك عطائي وقد كنت أعلم
أنّك قاتلي لا محالة؟ ولكن رجوت بذلك الاستظهار من الله تعالى عليك علّ أن
ترجع عن غيّك، فغلبت عليك الشقاوة فقتلتني يا شقي الأشقياء.
فدمعت عينا ابن ملجم (لعنه الله تعالى) وقال: يا أمير المؤمنين أفأنت تنقذ من في النار؟
فقال له: صدقت.
ثمّ التفت (عليه السلام) إلى ولده الحسن (عليه السلام) وقال له: ارفق يا
ولدي بأسيرك وارحمه، وأحسن إليه وأشفق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد صارتا في
اُمّ رأسه وقلبه يرجف خوفاً ورعباً وفزعاً.
فقال له الإمام الحسن (عليه السلام): يا أبتاه قد قتلك هذا اللعين الفاجر وأفجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق
فيه؟
فقال له: نعم يا بني! نحن أهل البيت لا نزداد على المذنب إلينا إلاّ كرماً
وعفواً، والرحمة والشفقة من شيمتنا، بحقّي عليك أطعمه يا بني ممّا تأكله،
واسقه ممّا تشرب، فإن أنا متّ فاقتصّ منه ولا تحرقه بالنار، ولا تمثّل
بالرجل، فإنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إيّاكم والمثلة
ولو بالكلب العقور.
وإن أنا عشت فأنا أولى بالعفو عنه، وأنا أعلم بما أفعل به، فإن عفوت فنحن أهل البيت لا نزداد على المذنب إلينا إلاّ عفواً وكرماً.
[1] ـ راجع بحار الأنوار: ج21 ص22 ب22.
[2] ـ مناقب آل أبي طالب: ج1 ص167.
[3] ـ أمالي الشيخ الصدوق: ص465 المجلس 71 ح6.
[4] ـ جاء في كتاب تاريخ الإسلام السياسي: «ولم يكن السجن بمعناه المعروف
الآن موجوداً في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله)، ولا في عهد أبي بكر،
وإنّما استحدث في زمن عمر بن الخطاب، إذ كان الحبس لا يتعدّى في عهد الرسول
(صلى الله عليه وآله) منع المتّهم من الاختلاط بغيره، وذلك بوضعه في بيت
أو مسجد، وملازمة الخصم، أو ينيبه عنه له فلم يكن السجن إذن مكاناً يحبس
فيه المجرم كما كانت عليه الحال في عهد عمر، ومن جاء بعده من الخلفاء.
(تاريخ الإسلام السياسي) حسن إبراهيم حسن: ج1 ص451 طبعة مصر.
[5] ـ سورة الإنسان: 8.
[6] ـ بحار الأنوار: ج18 ص60 ب8 ح19.
[7] ـ راجع بحار الأنوار: 59 ص350-351 ب10.
[8] ـ قريب منه في بحار الأنوار: ج16 ص230 ب9 ح35.
[9] ـ سورة الإسراء: 90.
[10] ـ راجع تفسير القمّي: ج2 ص26-27 سورة الإسراء: 90 ـ 93.
[11] ـ مناقب آل أبي طالب: ج1 ص208 فصل في غزواته (صلى الله عليه وآله).
[12] ـ بحار الأنوار: ج21 ص132.
[13] ـ سورة الفرقان: 70.
[14] ـ سورة النساء: 48 و116.
[15] ـ سورة الزمر: 53.
[16] ـ اللكز: هو الدفع بالصدر بالكف. لسان العرب: ج5 ص406 مادة (لكز).
[17] ـ أي أخذه الربو، وهو علّة تحدث في الرئة فيصير النفس صعباً.
</blockquote>
الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)
الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) واللاعنف
إحدى أهم الأدلة على أنّ الإسلام يتّبع اُسلوب اللاّعنف هي منهجية الرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله) وسيرته في تعامله حتى مع مناوئيه، حيث إنّه
(صلى الله عليه وآله) قدّم للبشرية جمعاء خير شاهد على أنّ الإسلام يدعو
إلى اللاّعنف وينبذ البطش والعنف.
ونذكر هنا بعض الشواهد:
الإرفاق بالأسرى
عندما فتح الإمام علي (عليه السلام) خيبر أخذ فيمن أخذ صفيّة بنت حييّ بن
أخطب فدعا بلالا فدفعها إليه، وقال له: يا بلال لا تضعها إلاّ في يدي رسول
الله (صلى الله عليه وآله) حتّى يرى فيها رأيه.
فأخرجها بلال ومرّ بها في طريقه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) على
القتلى، فكادت تزهق روحها جزعاً، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمّا
علم بذلك: أنُزعت منك الرحمة يابلال؟
ثمّ عرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليها الإسلام، فأسلمت، فاصطفاها لنفسه ثمّ أعتقها وتزوّجها، فكانت امرأة مؤدّبة[1].
من مكارم رسول الله (صلى الله عليه وآله)
إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يهدر دم أحد إلا إذا كان مستحقاً
للقتل لعظيم جرمه، وكانوا قلة، كقاتل عمه حمزة، ومع ذلك فإن أكثرهم استأمن
لهم بعض معارفهم، فأمنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخرجوا من
استتارهم، وجاءوا إليه (صلى الله عليه وآله) وأسلموا على يديه، فقبل
إسلامهم وعفا عنهم.
وكان أحد هؤلاء: صفوان بن اُميّة، وقد فرّ يومئذ، فاستأمن له عمير بن وهب
الجمحي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأمنه، وأعطاه عمامته التي دخل بها
مكّة.
فلحقه عمير وهو يريد أن يركب البحر فردّه وقال: ياصفوان، اذكر الله في نفسك
أن تهلكها، فهذا أمان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد جئتك به.
فقال صفوان، وهو يستبعد ذلك حسب رأيه وحسب الموازين الحاكمة في الجاهلية سابقاً: اُغرب عنّي فلا تكلّمني.
فقال له عمير، وهو يريد أن يطمئنه: أي صفوان اُعلمك أنّ أفضل الناس وأبرّ
الناس وخير الناس ابن عمّك، عزّه عزّك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك.
فقال صفوان، وهو يبدي ما في قرارة نفسه وما انطوى عليه الجاهليون من الغدر: إنّي أخافه على نفسي.
فقال له عمير: انّه ليس كما تتصوّر، بل هو أحلم من ذلك وأكرم.
فاطمأنّ صفوان لما أراه عمير عمامة رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي بعثها إليه علامة لأمانه.
فرجع معه حتّى وقف به على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: هذا يزعم أنّك أمّنتني؟
فقال (صلى الله عليه وآله): صدق.
قال: فاجعلني بالخيار شهرين.
قال (صلى الله عليه وآله): أنت بالخيار أربعة أشهر.
مع عكرمة بن أبي جهل
وكذلك من الأشخاص الذين أُستأمن لهم فآمنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)
عكرمة بن أبي جهل، حيث استأمنت له زوجته اُمّ حكيم بنت الحارث بن هشام
وأخبرت زوجها بذلك وهي تقول له: جئتك من عند أوصل الناس، وأبرّ الناس، وخير
الناس، لا تهلك نفسك وقد استأمنت لك فآمنك.
فجاء معها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأسلم على يديه، ثمّ قال: يا رسول الله مرني بخير ما تعلم فاعمله.
قال (صلى الله عليه وآله): قل أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله وجاهد في سبيل الله.
عفوه عن ابن الزبعرى
ينقل إن عبد الله بن الزبعرى كان يهجو رسول الله (صلى الله عليه وآله)
ويعظم القول فيه والوقيعة في المسلمين، وعندما فتحت مكّة فرّ منها، وبعد أن
عرف أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) رسول الرحمة والإنسانية رجع إلى مكّة
واعتذر من الرسول (صلى الله عليه وآله) ممّا بدا منه.
فقبل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) عذره وأمر له بحلّة، وعلى أثر ذلك أسلم، وأنشد شعراً يقول فيه:
ولقد شهدت أنّ دينك صادق***حقّاً وإنّك في العباد جسيم
والله يشهد أنّ أحمد مصطفى***مستقبل في الصالحين كريم
وقال أيضاً:
فالآن أخضع للنبي محمّد***بيد مطاوعة وقلب نائب
ومحمّد أوفى البريّة ذمّة***وأعزّ مطلوب وأظفر طالب
هادي العباد إلى الرشاد***وقائد للمؤمنين بضوء نور الثاقب
إنّي رأيتك يا محمّد عصمة ***للعالمين من العذاب الواصب[2]
يهودي يحبس الرسول (صلى الله عليه وآله)
عن أمير المؤمنين (عليه السلام) انّه قال: إنّ يهودياً كان له على رسول الله (صلى الله عليه وآله) دنانير، فتقاضاه.
فقال (صلى الله عليه وآله) له: يا يهودي، ما عندي ما أعطيك.
فقال: فإنّي لا اُفارقك يا محمّد حتّى تقضيني.
فقال: إذن أجلس معك.
فجلس (صلى الله عليه وآله) معه حتّى صلّى في ذلك الموضع الظهر والعصر
والمغرب والعشاء الآخر والغداة، وكان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)
يتهدّدونه ويتواعدونه.
فنظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليهم فقال: ما الذي تصنعون؟
فقالوا: يا رسول الله يهودي يحبسك؟
فقال: لم يبعثني ربّي عز وجل بأن أظلم معاهداً ولا غيره.
فلمّا علا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله وشطر مالي في سبيل الله[3].
الإسلام والسجون
من الشواهد على أنّ الإسلام يتبع أُسلوب اللاّعنف إنّه لم يكن للرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله) سجن اطلاقاً، بل كان إذا أراد أن يودع أحداً
في السجن ليوم أو لأيّام معدودات ـ أقلّ من أصابع اليد ـ كان يحفظه في دار
كانت بباب المسجد.
وقد بقي هذا القانون حتّى زمان أبي بكر أمّا في زمان عمر فقد استأجر داراً وجعلها سجناً ليوم أو لبعض الأيّام لأشخاص قلّة[4].
بل حتّى الأُسراء لم يودعهم الإسلام في السجون أو المعسكرات وإنّما كانوا
مطلقين، فمن شاء منهم أن يذهب إلى بلده ومن شاء منهم أن يبقى في المدينة
المنوّرة، وهذا ما يستفاد من قوله تعالى: ((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى
حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً))[5]. حيث كان الأسير يسير
بحريته.
عفوه (صلى الله عليه وآله) عن الأعرابي
عن جابر بن عبد الله: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) نزل تحت شجرة فعلّق
بها سيفه ثمّ نام، فجاء أعرابي فأخذ السيف وقام على رأسه، فاستيقظ النبي
(صلى الله عليه وآله).
فقال الرجل: يا محمّد من يعصمك الآن منّي؟
قال: الله تعالى.
فرجف وسقط السيف من يده.
وفي خبر آخر: إنّه بقي جالساً زماناً ولم يعاقبه النبي (صلى الله عليه وآله)[6].
رحلته (صلى الله عليه وآله) إلى الطائف
لمّا اشتدّ بلاء قريش على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعقيب وفاة ناصره
وحاميه أبي طالب (عليه السلام) عانى الرسول (صلى الله عليه وآله) من سفهاء
قريش ما عاناه، حيث إنّهم تجرّؤوا عليه وكاشفوه بالأذى ونالوا منه ما لم
ينل قومه في مكّة.
وقد كان معه آنذاك زيد بن حارثة مولاه، فأقام بينهم في الطائف عشرة أيّام لا يدع أحداً من أشرافهم إلاّ جاءه وكلّمه.
فقالوا: أخرج من بلادنا، وأغرّوا به سفهاءهم، فأخذوا يرجمون عراقيبه (صلى الله عليه وآله) بالحجارة حتّى اختضبت نعلاه بالدماء.
وكان (صلى الله عليه وآله) إذا أذلقته الحجارة قعد إلى الأرض فيأخذونه
بعضديه ويقيمونه، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون، بينما كان زيد بن حارثة يقيه
بنفسه، حتّى لقد شجّ في رأسه شجاجاً، وما زالوا به حتّى ألجئوه إلى حائط
لابنيّ ربيعة: عتبة وشيبة.
فعمد إلى الظلّ وانصرف عنه السفهاء، فأخذ (صلى الله عليه وآله) يناجي ربّه
ويدعوه بالدعاء المأثور قائلا (صلى الله عليه وآله): «اللهمّ إنّي أشكو
إليك ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، وربّ
المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني؟ إلى عدوّ بعيد يتجهّمني، أو إلى عدوّ
ملّكته أمري، إن لم يكن بك عليّ غضب فلا اُبالي، غير أنّ عافيتك هي أوسع
لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن
ينزل بي غضبك، أو يحلّ عليّ سخطك، لك العتبى حتّى ترضى، ولا حول ولا قوّة
إلاّ بك».
فلم يدع على القوم أبداً، بل كان يقول: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.
اللاّعنف في غزوة أُحد
عندما انكشف المسلمون يوم اُحد وانهزموا، عمد المشركون إلى رسول الله (صلى
الله عليه وآله) فرشقوه بالحجارة حتّى شجّ في وجهه وكلّمت شفته السفلى،
وكادوا أن يقتلوه (صلى الله عليه وآله) لولا حفظ الله تعالى له.
فقام (صلى الله عليه وآله) رافعاً يديه نحو السماء وهو يقول: إنّ الله
اشتدّ غضبه على اليهود حين قالوا: عزير ابن الله، واشتدّ غضبه على النصارى
أن قالوا: المسيح ابن الله، وانّ الله اشتدّ غضبه على من أراق دمي، وآذاني
في عترتي.
وفي الحديث: انّه (صلى الله عليه وآله) كلّما سال الدم على وجهه المبارك تناوله بيده فرمى به في الهواء، فلا يرجع منه شيء.
وقد قيل له (صلى الله عليه وآله): ألا تدعو عليهم؟
فقال (صلى الله عليه وآله): اللهمّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون.
ثمّ كان يقول (صلى الله عليه وآله) أسفاً عليهم: كيف يفلح قوم خضّبوا وجه نبيّهم بالدم وهو يدعوهم إلى الله.
عفوه عن هبّار
روي أنّ هبار بن الأسود كان ممّن عرض لزينب بنت رسول الله (صلى الله عليه
وآله) حين خرجت من مكّة إلى المدينة، حيث روعها هبّار بالرمح وهي في الهودج
وكانت حاملاً فلما رجعت طرحت ذا بطنها، وكانت من خوفها رأت دماً وهي في
الهودج، فلذلك أباح الرسول (صلى الله عليه وآله) يوم فتح مكة دم هبّار بن
الأسود، ففرّ هبّار.
ثمّ قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالمدينة ـ ويقال أتاه
بالجعرانة حين فرغ من حنين ـ فمثّل بين يديه وهو يقول: أشهد أن لا إله إلاّ
الله، وأنّك رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فقبل الرسول (صلى الله عليه وآله) إسلامه وعفا عنه[7].
مع ابنة الطائي
وفي التاريخ: انّه هجم جند الإسلام على جبل طي وفتحوه وأخذوا الأسرى إلى المدينة، فكانت بنت حاتم الطائي فيهم.
فمرّ بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقامت إليه وقالت: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد فامنُن عليّ منّ الله عليك.
فلم يجبها الرسول (صلى الله عليه وآله).
وفي اليوم الثالث أشار لها الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن تعيد طلبتها.
فقالت: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد فامنن عليَّ منَّ الله عليك.
فعفى النبي (صلى الله عليه وآله) عنها وقال: لا تعجلي بخروج حتّى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتّى يبلغك إلى بلادك.
ولمّا قدم من قومها من تثق بهم قالت لرسول الله (صلى الله عليه وآله): قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ.
فكساها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأعطاها نفقة، فخرجت معهم حتّى قدمت الشام.
اللاّعنف مع الأعرابي
روي عن أنس أنّه قال: كنت مع النبي (صلى الله عليه وآله) وعليه برد غليظ
الحاشية، فجذبه أعرابي بردائه جذبة شديدة حتّى أثّرت حاشية البرد في صفحة
عاتقه (صلى الله عليه وآله) ثمّ قال: يا محمّد احمل لي على بعيريَّ هذين من
مال الله الذي عندك، فإنّك لا تحمل لي من مالك ولا مال أبيك.
فسكت النبي (صلى الله عليه وآله) ثمّ قال: المال مال الله وأنا عبده.
ثمّ قال: ويُقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي؟
قال: لا.
قال: لِمَ؟
قال: لأنّك لا تكافئ بالسيّئة الحسنة.
فضحك النبي (صلى الله عليه وآله) ثمّ أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر[8].
مع عبد الله بن أبي اُميّة
جاء في تفسير قوله تعالى: ((وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ
لَنَا مِنْ الأرض يَنْبُوعاً))[9] أنّها نزلت في عبد الله بن أبي اُميّة
أخي اُمّ سلمة (رحمة الله عليها).
وذلك أنّه قال هذا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بمكّة قبل الهجرة،
فلمّا خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى فتح مكّة استقبله عبد الله
بن أبي اُميّة فسلّم، فلم يردّ عليه السلام وأعرض عنه ولم يجبه بشيء، وكانت
اُخته اُمّ سلمة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فدخل إليها فقال: يا
اُختي إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قبل إسلام الناس كلّهم وردّ
إسلامي، فليس يقبلني كما قبل غيري.
فلمّا دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على اُمّ سلمة قالت: بأبي أنت
واُمّي يا رسول الله! سعد بك جميع الناس إلاّ أخي من بين قريش والعرب رددت
إسلامه وقبلت إسلام الناس كلّهم.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا اُمّ سلمة إنّ أخاك كذّبني
تكذيباً لم يكذّبني أحد من الناس، هو الذي قال لي: «لن نؤمن لك حتّى تفجّر
لنا من الأرض ينبوعاً».
فقالت اُمّ سلمة: بأبي أنت واُمّي يا رسول الله ألم تقل: الإسلام يجبّ ما كان قبله؟
قال: نعم.
فقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) إسلامه[10].
اليوم يوم المرحمة
إحدى الشواهد المهمّة الدالّة على أنّ الإسلام يدعو إلى اللاّعنف هي
المواقف المهمّة التي اتّخذها رسول الإنسانية (صلى الله عليه وآله) إثر فتح
مكّة المكرّمة.
فلمّا دخل المسلمون مكّة كانت إحدى الرايات في يد سعد بن عبادة وهو ينادي
برفيع صوته: اليوم يوم الملحمة.. اليوم تستحلّ الحرمة. يا معشر الأوس
والخزرج، ثأركم يوم الجبل.
فأتى العبّاس النبي (صلى الله عليه وآله) وأخبره بمقالة سعد.
فقال (صلى الله عليه وآله): ليس بما قال سعد شيء، ثمّ قال للإمام علي (عليه
السلام): أدرك سعداً فخذ الراية منه وأدخلها إدخالا رفيقاً.
فأخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) الراية منه وأخذ ينادي برفيع صوته: اليوم يوم المرحمة.. اليوم تصان الحرمة[11].
أخ كريم وابن أخ كريم
وبعد أن فتح الجيش الإسلامي مكّة المكرّمة تجلّت أيضاً عظمة الإسلام وانبرت
حقيقته الناصعة الداعية إلى اللين واللاّعنف ونبذ العنف والبطش..
فبعد أن كان أسياد قريش يتفنّون في إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله)
وأصحابه دار فلك الزمان وانقلبت الموازين وإذا بنفس هؤلاء الأسياد يمتثلون
بين يدي رسول الرحمة (صلى الله عليه وآله) وينظرون ما هو صانع بهم..
فيا ترى ماذا صنع معهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
فهل ردّ إساءتهم بمثلها؟
أم ماذا؟
يقول المؤرخّون: لمّا دخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنّون أنّ السيف لا يرفع
عنهم، أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) البيت وأخذ بعضادتي الباب ثمّ
قال: لا إله إلاّ الله، أنجز وعده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده.
ثمّ قال: ما تظنّون؟
وما أنتم قائلون؟
فقال سهيل بن عمرو: نقول خيراً ونظنّ خيراً، أخ كريم وابن عمّ.
قال: فإنّي أقول لكم كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم
وهو أرحم الراحمين، ألا إنّ كلّ دم ومال ومأثرة كان في الجاهلية فإنّه
موضوع تحت قدمي[12].
هكذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله)
روي انّه بعد ما قتل وحشي حمزة سيد الشهداء عم النبي (صلى الله عليه وآله)
بعث وحشي جماعة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) انّه ما يمنعنا من دينك
إلاّ أنّنا سمعناك تقرأ في كتابك أنّ من يدعو مع الله إلهاً آخر ويقتل
النفس ويزني يلق آثاماً ويخلّد في العذاب ونحن قد فعلنا هذا كلّه؟
فبعث (صلى الله عليه وآله) إليهم بقوله تعالى: ((إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً))[13].
فقالوا نخاف أن لا نعمل صالحاً؟
فبعث إليهم (صلى الله عليه وآله): ((إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ))[14].
فقالوا: نخاف ألاّ ندخل في المشيئة.
فبعث إليهم (صلى الله عليه وآله): ((يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً))[15].
فجاءوا وأسلموا.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله) لوحشي قاتل حمزة: غيّب وجهك عنّي فإنّني لا أستطيع النظر إليك.
وهذا منتهى ما قال له الرسول (صلى الله عليه وآله).
الإمام علي (عليه السلام) واللاعنف
على خطى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وطبق منهجيته المؤكّدة على
اللاّعنف سار الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) واحتذى بخطاه المباركة
حيث انّه (عليه السلام) راح يقدّم للبشرية جمعاء أعظم دروس في اللاّعنف
التي بقي صداها يدوّي حتّى هذا اليوم في شتّى أنحاء العالم.
إنّ من يتمعّن في سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) العطرة ويتأمّل مواقفه
الخالدة يتجلّى له كالصبح لذي عينين، أنّه (عليه السلام) كان يدعو بشكل
حثيث إلى اللاّعنف والعفو والسلام، وكان يعتمد على اللين والصفح الجميل،
فمن تلك المواقف الخالدة التي قدّمها أمير المؤمنين (عليه السلام) في مجال
اللاّعنف هو:
الإمام علي (عليه السلام) وصاحب التمر
عن أبي مطر البصري: إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) مرّ بأصحاب التمر فإذا هو بجارية تبكي فقال (عليه السلام): يا جارية ما يبكيك؟
فقالت: بعثني مولاي بدرهم فابتعت من هذا تمراً فأتيتهم به فلم يرضوه، فلمّا أتيته به أبى أن يقبله.
قال: يا عبد الله إنّها خادم وليس لها أمر، فاردد إليها درهمها وخذ التمر.
فقام إليه الرجل فلكزه[16]!.
فقال الناس: هذا أمير المؤمنين!.
فربى الرجل[17] واصفرّ وأخذ التمر وردّ إليها درهمها، ثمّ قال: يا أمير المؤمنين ارضِ عنّي.
فقال (عليه السلام): ما أرضاني عنك إن أصلحت أمرك[18].
مع ابن الكوّاء
هناك واقعة أخرى يتجلّى فيها مدى سماحة أمير المؤمنين (عليه السلام) وعدم
عنفه التامّ حتّى في قبال من يرميه بالشرك الذي يعدّ من الكبائر.
ففي أحد الأيّام كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يصلّي صلاة الصبح فقال
ابن الكوّاء من خلفه: ((وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ
الْخَاسِرِينَ))[19].
فأنصت الإمام علي (عليه السلام) تعظيماً للقرآن حتّى فرغ من الآية، ثمّ عاد (عليه السلام) في قراءته.
ثمّ أعاد ابن الكوّاء الآية، فأنصت الإمام علي (عليه السلام) أيضاً، ثمّ قرأ.
فأعاد ابن الكوّاء، فأنصت الإمام علي (عليه السلام) ثمّ قال: ((فَاصْبِرْ
إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ
يُوقِنُونَ))[20] ثمّ أتمّ السورة وركع[21].
قد عفونا عنك
بعث أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى لبيد بن عطارد التميمي في كلام بلغه،
فمرّ به أمير المؤمنين (عليه السلام) في بني أسد، فقام إليه نعيم بن دجاجة
الأسدي فأفلته، فبعث إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) فأتوه به، وأمر به
أن يضرب، فقال له: نعم والله إنّ المقام معك لذلّ، وإنّ فراقك لكفر.
فلمّا سمع ذلك منه قال (عليه السلام): قد عفونا عنك إنّ الله عز وجل يقول: ((ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ))[22].
أمّا قولك إنّ المقام معك لذلّ فسيّئة اكتسبتها، وأمّا قولك إنّ فراقك لكفر فحسنه اكتسبتها فهذه بهذه[23].
عفو عن ذنب
بلغ من التزام أمير المؤمنين (عليه السلام) باللاّعنف إنّه حتّى مع الخوارج
لم يلجأ إلى القوّة معهم وإنّما عكف على نصيحتهم وتذكيرهم بالحقّ ولكنّهم
أبوا إلاّ محاربة المسلمين فحينذاك دافع الإمام (عليه السلام) عن الأمة.
ففي أكثر من مرّة يعاود متعصّبي الخوارج إساءتهم وتجاسرهم على أمير
المؤمنين (عليه السلام) إلاّ أنّه (عليه السلام) كان يلتزم باللاّعنف في
قبالهم، فضلا عن ذلك كان يحثّ المسلمين إلى عدم التعرّض لهم.
فقد نُقل انّه مرّت امرأة جميلة في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) فرمقها
القوم بأبصارهم فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) إنّ ابصار هذه الفحول
طوامح وإنّ ذلك سبب هناتها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجّبه فليمس أهله،
فإنّما هي امرأة كامرأة.
فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافراً ما أفقهه!
فوثب القوم ليقتلوه، فقال (عليه السلام): رويداً إنّما هو سبّ بسبّ أو عفو عن ذنب[24].
ليس لك عندي إلاّ ما تحبّ
بين الفترة والأخرى كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يشرع بنصيحة الذين
تقمصوا الخلافة ويرشدهم إلى درب الصواب، ولكنهم غالباً لم يلتزموا.
يقول قنبر مولى أمير المؤمنين (عليه السلام): دخلت مع أمير المؤمنين (عليه
السلام) على عثمان فأحبّ الخلوة فأومأ إليّ بالتنحّي فتنحّيت غير بعيد،
فجعل عثمان يعاتبه، وهو مطرق رأسه، وأقبل إليه عثمان، فقال: ما لك لا تقول؟
فقال (عليه السلام): ليس جوابك إلاّ ما تكره، وليس لك عندي إلاّ ما تحبّ، ثمّ خرج قائلا:
ولو أنّني جاوبته لأمضّه***نوافذ قولي واختصار جوابي
ولكنّني أغضي على مضض الحشا***ولو شئت أقداماً لأنشبّ نابي
قل أستغفر الله وأتوب إليه
نُقل انّه جيء بموسى بن طلحة بن عبيد الله، فقال له أمير المؤمنين (عليه
السلام): قل: «أستغفر الله وأتوب إليه» ثلاث مرّات، وخلّى سبيله، وقال:
اذهب حيث شئت، وما وجدت لك في عسكرنا من سلاح أو كراع فخذه، واتّق الله
فيما تستقبله من أمرك واجلس في بيتك[25].
عفوت وصفحت
جاء في التاريخ: إنّ الإمام علي (عليه السلام) كان إذا صلّى الفجر لم يزل
معقّباً إلى أن تطلع الشمس، فإذا طلعت اجتمع إليه الناس، فيعلّمهم الفقه
والقرآن، وكان له وقت يقوم فيه من مجلسه ذلك.
فقام (عليه السلام) يوماً فمرّ برجل، فرماه بكلمة هجا فيها الإمام (عليه السلام)، فرجع عوده على بدئه، وأمر فنودي: الصلاة جامعة.
ثمّ صعد (عليه السلام) المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيّها الناس إنّه
ليس شيء أحبّ إلى الله ولا أعمّ نفعاً من حلم إمام وفقهه، ولا شيء أبغض
إلى الله ولا أعمّ ضرراً من جهل إمام وخرقه، ألا وإنّه من لم يكن له من
نفسه واعظ لم يكن له من الله حافظ، ألا وإنّه من أنصف من نفسه لم يزده الله
إلاّ عزّاً، ألا وإنّ الذلّ في طاعة الله أقرب إلى الله من التعزّز في
معصيته، ثمّ قال: أين المتكلّم آنفاً؟
فلم يستطع الإنكار، فقال: ها أنذا يا أمير المؤمنين.
فقال: أما إنّي لو أشاء لقلت.
فقال الرجل: إن تعفو وتصفح فأنت أهل لذلك؟
فقال: عفوت وصفحت[26].
من أين الرجل؟
حاول معاوية بن أبي سفيان مراراً قتل أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد أسرّ إلى بعض خاصّته أنّ من قتل علياً فله عشرة آلاف دينار.
فانبرى لذلك أحدهم، ولكنّه تراجع في اليوم التالي، معتذراً منه، وقال: أسير إلى ابن عمّ رسول الله، وأبي ولديه، وأقتله؟
لا والله.. لا أفعل!
فزيّد معاوية الأجر، فجعله عشرين ألف دينار.
فقبله أحدهم، لكنّه ـ هو الآخر ـ تراجع وامتنع.
فزيّده إلى ثلاثين ألف، فقبل المهمّة رجل من «حمير»، وخرج من الشام قاصداً الكوفة.
فجاء حتّى دخل على أمير المؤمنين (عليه السلام) في الكوفة، وعليه ثياب السفر، فقال له الإمام: من أين الرجل؟
قال: من الشام.
وكانت عند الإمام (عليه السلام) أخباره، فاستنطقه، فاعترف، فقال له الإمام
(عليه السلام): فما رأيك الآن؟ أتمضي إلى ما اُمرت به؟ أم ماذا؟
فقال الرجل: لا..
ولكنّي أنصرف.
فقال الإمام لقنبر: يا قنبر أصلح راحلته، وهيّئ له زاده، وأعطه نفقته[27]
يا أيّها المدّعي لما لا يعلم
روي أنّ قوماً حضروا عند أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يخطب بالكوفة
ويقول: سلوني قبل أن تفقدوني، فأنا لا أُسأل عن شيء دون العرش إلاّ أجبت
فيه، لا يقولها بعدي إلاّ مدّع أو كذّاب مفتر.
فقام إليه رجل من جنب مجلسه، وفي عنقه كتاب كالمصحف، وهو رجل آدم ظربّ طوال
جعد الشعر، كأنّه من يهود العرب، فقال رافعاً صوته للإمام علي (عليه
السلام): يا أيّها المدّعي لما لا يعلم والمتقدّم لما لا يفهم أنا سائلك
فأجب.
قال: فوثب إليه أصحاب الإمام (عليه السلام) وشيعته من كلّ ناحية وهمّوا به.
فنهرهم الإمام علي (عليه السلام) وقال: دعوه ولا تعجلوه، فانّ العجل والطيش
لا يقوم به حجج الله، ولا بإعجال السائل تظهر براهين الله تعالى.
ثمّ التفت إلى السائل فقال: سل بكلّ لسانك ومبلغ علمك اُجبك إن شاء الله
تعالى بعلم لا تختلج فيه الشكوك، ولا تهيجه دنس ريب الزيغ، ولا حول ولا
قوّة إلاّ بالله العلي العظيم[28].
مع أبي هريرة
جاء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) أبو هريرة وكان يكلّم فيه ـ وأسمعه في
اليوم الماضي[29] ـ وسأله حوائجه فقضاها، فعاتبه أصحابه على ذلك، فقال
(عليه السلام): إنّي لأستحي أن يغلب جهله علمي وذنبه عفوي ومسألته
جودي[30].
أمنت عقوبتك
دعا أمير المؤمنين (عليه السلام) غلاماً له مراراً فلم يجبه، فخرج فوجده على باب البيت، فقال: ما حملك على ترك إجابتي؟
قال: كسلت عن إجابتك، وأمنت عقوبتك.
فقال: الحمد لله الذي جعلني ممّن تأمنه خلقه، امض فأنت حرّ لوجه الله[31].
هكذا هو اللاّعنف
عندما قاتل معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين (عليه السلام) وخرج عليه
جائراً، استولى عسكر معاوية على الماء وأحاطوا بشريعة الفرات، فقال له
رؤساء الشام: اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشاً.
وبالفعل، حينما سألهم الإمام علي (عليه السلام) وأصحابه أن يسوّغوا لهم شرب
الماء قالوا: لا والله ولا قطرة حتّى تموت ظمئاً كما مات ابن عفّان.
ولمّا رأى أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه الموت لا محالة تقدّم بأصحابه
وحمل على عساكر معاوية حملات كثيفة، حتّى أزالهم عن مراكزهم، وملكوا عليهم
الماء، وصار أصحاب معاوية في الفلات لا ماء لهم.
فقال للإمام (عليه السلام) أصحابه وشيعته: امنعهم الماء يا أمير المؤمنين
كما منعوك، ولا تسقهم منه قطرة، واقتلهم بسيوف العطش، وخذهم قبضاً بالأيدي،
فلا حاجة لك إلى الحرب.
فقال: لا والله لا اُكافيهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن بعض الشريعة[32].
اللاّعنف حتى مع قاتله
حينما ضرب ابن ملجم (لعنه الله تعالى) أمير المؤمنين (عليه السلام) على
رأسه تلك الضربة التي انهدّت منها أركان السماوات، بقي الإمام (عليه
السلام) يغشى عليه ويفيق، وفي تلك اللحظات الحرجة أفاق (عليه السلام)، فقال
له الإمام الحسن (عليه السلام): هذا عدوّ الله وعدوّك ابن ملجم قد أمكننا
الله منه وقد حضر بين يديك.
ففتح أمير المؤمنين (عليه السلام) عينيه ونظر إليه وقال له بضعف وإنكسار
صوت: يا هذا لقد جئت عظيماً وارتكبت أمراً عظيماً وخطباً جسيماً، أبئس
الإمام كنتُ لك حتّى جازيتني بهذا الجزاء؟
ألم أكن شفيقاً عليك وآثرتك على غيرك وأحسنت إليك وزدت في اعطائك؟
ألم يكن يقال لي فيك كذا وكذا فخلّيت لك السبيل ومنحتك عطائي وقد كنت أعلم
أنّك قاتلي لا محالة؟ ولكن رجوت بذلك الاستظهار من الله تعالى عليك علّ أن
ترجع عن غيّك، فغلبت عليك الشقاوة فقتلتني يا شقي الأشقياء.
فدمعت عينا ابن ملجم (لعنه الله تعالى) وقال: يا أمير المؤمنين أفأنت تنقذ من في النار؟
فقال له: صدقت.
ثمّ التفت (عليه السلام) إلى ولده الحسن (عليه السلام) وقال له: ارفق يا
ولدي بأسيرك وارحمه، وأحسن إليه وأشفق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد صارتا في
اُمّ رأسه وقلبه يرجف خوفاً ورعباً وفزعاً.
فقال له الإمام الحسن (عليه السلام): يا أبتاه قد قتلك هذا اللعين الفاجر وأفجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق
فيه؟
فقال له: نعم يا بني! نحن أهل البيت لا نزداد على المذنب إلينا إلاّ كرماً
وعفواً، والرحمة والشفقة من شيمتنا، بحقّي عليك أطعمه يا بني ممّا تأكله،
واسقه ممّا تشرب، فإن أنا متّ فاقتصّ منه ولا تحرقه بالنار، ولا تمثّل
بالرجل، فإنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إيّاكم والمثلة
ولو بالكلب العقور.
وإن أنا عشت فأنا أولى بالعفو عنه، وأنا أعلم بما أفعل به، فإن عفوت فنحن أهل البيت لا نزداد على المذنب إلينا إلاّ عفواً وكرماً.
[1] ـ راجع بحار الأنوار: ج21 ص22 ب22.
[2] ـ مناقب آل أبي طالب: ج1 ص167.
[3] ـ أمالي الشيخ الصدوق: ص465 المجلس 71 ح6.
[4] ـ جاء في كتاب تاريخ الإسلام السياسي: «ولم يكن السجن بمعناه المعروف
الآن موجوداً في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله)، ولا في عهد أبي بكر،
وإنّما استحدث في زمن عمر بن الخطاب، إذ كان الحبس لا يتعدّى في عهد الرسول
(صلى الله عليه وآله) منع المتّهم من الاختلاط بغيره، وذلك بوضعه في بيت
أو مسجد، وملازمة الخصم، أو ينيبه عنه له فلم يكن السجن إذن مكاناً يحبس
فيه المجرم كما كانت عليه الحال في عهد عمر، ومن جاء بعده من الخلفاء.
(تاريخ الإسلام السياسي) حسن إبراهيم حسن: ج1 ص451 طبعة مصر.
[5] ـ سورة الإنسان: 8.
[6] ـ بحار الأنوار: ج18 ص60 ب8 ح19.
[7] ـ راجع بحار الأنوار: 59 ص350-351 ب10.
[8] ـ قريب منه في بحار الأنوار: ج16 ص230 ب9 ح35.
[9] ـ سورة الإسراء: 90.
[10] ـ راجع تفسير القمّي: ج2 ص26-27 سورة الإسراء: 90 ـ 93.
[11] ـ مناقب آل أبي طالب: ج1 ص208 فصل في غزواته (صلى الله عليه وآله).
[12] ـ بحار الأنوار: ج21 ص132.
[13] ـ سورة الفرقان: 70.
[14] ـ سورة النساء: 48 و116.
[15] ـ سورة الزمر: 53.
[16] ـ اللكز: هو الدفع بالصدر بالكف. لسان العرب: ج5 ص406 مادة (لكز).
[17] ـ أي أخذه الربو، وهو علّة تحدث في الرئة فيصير النفس صعباً.
</blockquote>