الاحترام
قيمة إنسانية عامة أولتها البشرية عناية واهتماماً ، لكن الإسلام أعطاها
مكانة كبيرة جعلتها تمتد لتشمل كثيراً من العلاقات التي تربط بالمسلم بغيره
، بل امتدت لتشمل المجتمع والعلاقات الاجتماعية.
وإذا
كان المسلم مأموراً باحترام المسلم ، فإنه مأمور أيضاً باحترام غير المسلم
، و لنا في المصطفى صلى الله عليه و سلم خير قدوة حين كتب إلى هرقل قائلاً
بعد بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ...
فلم يشتمه و لم يدعه بما يسيء إليه بل أنزله المكانة التي هو فيها .
أصدرت
منظمة اليونسكو مجموعة من القيم رأتها أنها من المشترك بين الإنسانية كلها
، وسمتها بالقيم النشيطة ، وأوصت بأن تتضمنها كل مناهج التعليم في
العالم. وجاءت قيمة الاحترام أول هذه القيم قيمة الاحترام .
والإسلام
كما ذكرنا آنفاً أولى هذه القيمة أهمية كبيرة ، وربطها بتصرفات وسلوك يضمن
تحقيقها ديانة وعبودية لله تعالى وليس مجرد قيمة أخلاقية مجردة لا يثاب
الانسان عليها .
وقد تعددت
صور الاحترام في الإسلام لتشمل : احترام الذات ، واحترام الوالدين ،
واحترام المرأة ، واحترام المجتمع وقيمه ، واحترام العلماء ، واحترام
الأمراء ، واحترام غير المسلمين بحفظ كراماتهم وآدميتهم .
* ـــ أولاً ، احترام الذات :
احترام
الذات هو الصورة الذهنية الجميلة التي يرسمها المرء عن نفسه ، وهذه الصورة
تتكون من خلال خبراته وتتأثر بقوة بالرسائل التي نتلقاها من الآخرين ، ولا
شك أن الطريقة التي ينظر بها الإنسان لنفسه تؤثر في كل نواحي حياته . وإن
عدم احترام المرء لذاته يجعل منه عدواً لنفسه .
من سبل تحقيق احترام الذات :
أ
ـ تقوى الله تعالى . قال تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}. عن ابن عباس
قال : لا أرى أحدا يعمل بهذه الآية {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر
وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فيقول
الرجل للرجل : أنا أكرم منك فليس أحد أكرم من أحد إلا بتقوى الله . البخاري
في الأدب المفرد ، وقال الشيخ الألباني : صحيح
وعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال قيل يا رسول الله من أكرم الناس ؟، قال :" أتقاهم ". رواه البخاري .
وقال
تعالى{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ
بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .والحياة الطيبة تحقق للإنسان ما
يحتاجه من احترام الذات . قال أبو سليمان الداراني رحمه الله : من أصلح
سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح آخرته أصلح الله دنياه ، ومن أصلح ما
بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس . وقد صدق رحمه الله ، فمن
جمعت فيه تلك الخصال الثلاث جمع الله له سعادة الدنيا والآخرة .
وقال
تعالى { وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } . قال القرطبي
رحمه الله أي من أهانه بالشقاء والكفر لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه
(تفسير القرطبي 12 /24 ) . وهذا من شؤم المعاصي .
فللمعاصي
عقوبات تتعدى إلى الدين والدنيا والقلب والبدن ، ومن عقوباتها : أنها تجعل
المرء يفقد احترامه لنفسه ورضاه عنها ، بل تجرئ السفهاء عليه ، كما أنها
تورث سواداً في الوجه وظلمة في القلب وتجلب له الضيق والهم والغم والحزن
والألم والانحصار ، وشدة القلق والاضطراب .( المعاصي لعبد الحميد تركستاني 3
بتصرف كبير).
قال ابن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
و ترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
ب
ـ ومن سبل تحقيق احترام الذات : البعد عن مواطن الريب والشبهات . فقد جاءت
الشريعة صريحة في الحث على ترك الشبه ومواطن الريب والتهم ، وفي هذا دليل
واضح يبين حرص الشريعة على حفظ كرامة الناس .
عن
النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول :" الحلال بيَّن والحرام بيَّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير
من الناس ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات
كراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ، ألا وإن لكل ملك حمى ألا إن حمى
الله في أرضه محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا
فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".رواه البخاري .
فهذا
الحديث فيه حث على أن يستبرأ الإنسان لدينه وعرضه بترك الشبه ، ومن الشبه
ورود الإنسان مواطن الريب .قال الخطابي : هذا الحديث أصل في الورع وفيما
يلزم الإنسان اجتنابه من الشبه والريب . (بذل المجهود في حل أبي داود 14
292) .
وللشيخ محمد أنور
الكشميري رحمه الله في شرحه لهذا الحديث كلاماً نفيساً حيث قال: إن الحديث
بعد ذكر الحلال والحرام انتقل من الأحكام والمسائل إلى الحوادث والوقائع ،
وذكر ضابطة عرفية ، ولذا تعرض إلى استبراء العرض ، فاندفع ما كان يخطر
بالبال أنه لا دخل لذكر العرض من باب الحلال والحرام فمعناه أن الرجل إذا
اتقى الشبهات ومواضع التهم فقد أحرز دينه عن الضياع وعرضه عن القدح فيه ،
وهو مراد قول علي رضي الله عنه : إياك وما يسبق إلى الأذهان إنكاره ، وإن
كان عندك اعتذاره فليس كل سامع نكرا يطيق أن تسمعه عذرا ، فإنه ليس واردا
في المسائل فقط بل أعم منها.(فيض الباري على صحيح البخاري (1 153) .
ومن
الأحاديث الدالة على أن الإنسان ينبغي له أن يحافظ على احترامه لنفسه
واحترام الناس له بالابتعاد عن مواطن الريب ما أخرجه الإمام البخاري رحمه
الله :" أن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم جاءت رسول الله صلى
الله عليه وسلم تزوره وهو معتكف في المسجد في العشر الغوابر من رمضان ،
فتحدثت عنده ساعة من العشاء ثم قامت تنقلب ، فقام معها النبي صلى الله عليه
وسلم يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد الذي عند مسكن أم سلمة زوج النبي صلى
الله عليه وسلم مر بهما رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، ثم نفذا فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم :" على رسلكما
، إنما هي صفية بنت حيي "، قالا : سبحان الله يا رسول الله ، وكبر عليهما
ما قال، قال : "إن الشيطان يجري من ابن آدم مبلغ الدم ، وإني خشيت أن يقذف
في قلوبكما ". أخرجه البخاري.
فالنبي
صلى الله عليه وسلم نفى التهمة عن نفسه باجتناب مواطن الريب ، ونبه على
ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : "على رسلكما إنها صفية ".
ج
ـ ومن سبل تحقيق احترام الذات : عدم التطاول على الآخرين ، فمن تطاول على
الناس تطاولوا عليه ، ومن نال منهم نالوا منهم ، والعكس بالعكس ، وهذه
قاعدة قررها أهل العلم استنباطاً من قوله تعالى {ولا تسبوا الذين يدعون من
دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } . قال النووي في شرح مسلم : قال
العلماء : فالله نهى عن سب آلهة الكفار وهو أمر مباح ومندوب إليه شرعاً لما
فيه من إغاظة الكافرين وإغاظتهم قربة لله جل جلاله ، ومع ذلك نهى الله عن
ذلك السب وجعله محرماً لكونه يفضي إلى سب الله جل جلاله ، ومن هذا قالوا أن
سد الذريعة في هذا واضح . (شرح الترمذي للشنقيطي 12 /17 )
وعن علي رضي
الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لعن الله من لعن والديه :
قالوا يا رسول الله ويلعن الرجل والديه ، قال : يسب الرجل أبا الرجل فيسب
أباه ويسب أمه ، فيسب أمه " .
فنهى
النبي صلى الله عليه وسلم الرجل أن يسب أبا الرجل لأنه إذا سبه أفضى إلى
سب الثاني لأبي الأول فكأنه تذرع بهذا الأمر للمحذور.(المصدر السابق ) .
د
ـ ومن سبل تحقيق احترام الذات : عدم سؤال المخلوقين : ومن ترك مسألة
المخلوقين ورجاءهم ، وعلق رجاءه بالله وحده لا شريك له ، عوضه الله خيراً
مما ترك فرزقه حرية القلب وعزة النفس والاستغناء عن الخلق ، " ومن يستعفف
يعفه الله " . متفق عليه .
ومثله من ترك التكالب على الدنيا جمع الله له
أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة . فليس الغنى عن كثرة
العرض ولكن الغنى غنى القلب ، قال صلى الله عليه وسلم : " من كان همه
الآخرة جمع الله عليه أمره وجعل غناه في قلبه وآتاه الدنيا وهي راغمة، ومن
كان همه طلب الدنيا جعل الله فقره بين عينيه وشتت عليه أمره ولم يأتيه من
الدنيا إلا ما كتب له " .
هـ
ـ ومن سبل احترام الذات : الاهتمام بالنظافة الشخصية ، كحسن الملبس وجمال
الهندام قدر الاستطاعة. عن الأحوص الجشمي قال: رآني النبي صلى الله عليه
وسلم وعلي أطمارٌ ـ أي ثياب بالية ـ فقال: "هل لك من مال؟ قلت: نعم، قال:
"ومن أي المال"؟ قلت: من كل ما أتى الله من الإبل والشاء، قال: "فلتر نعمته
وكرامته عليك؛ فهو سبحانه يحب ظهور أثر نعمته على عبده ". وقال عليه
الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر؛ فقال
رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة؛ فقال عليه الصلاة
والسلام: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس ".
قال
ابن الجوزي : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظف الناس وأطيب الناس،
وكان لا يفارقه السواك، ويكره أن يشم منه ريح ليست طيبة. فهو عليه الصلاة
والسلام كامل في العلم والعمل فبه يكون الاقتداء وهو الحجة على الخلق .
و
ـ ومن سبل تحقيق احترام الذات : أن يستمع الانسان أكثر مما يتكلم، فكلما
كثر الكلام ازدادت فرص الوقوع في الخطأ ، ما يؤدي إلى زعزعة احترامه لنفسه
واحترام الآخرين له .
ز ـ
ومن السبل : لا يقلل المرء من منجزاته، فعندما يقول : كنتُ محظوظاً لأني
فعلت كذا ، فإن هذا القول وأمثاله يفقده بعضاً من ثقته بنفسه ، فلا يقلل
أحد من شأن نفسه ، لأنه سيفقد احترام الآخرين له أيضاً .
* ـ ثانيا ً ، ومن قيم الاحترام الهامة : احترام الوالدين ولا يكون ذلك إلا ببرهما وتوقيرهما .
قال
تعالى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا
وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ
مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا
}.فقد قرن سبحانه عبادته وتوحيده بالإحسان إلى الوالدين ولين الجانب وخفض
الجناح لهما .كان محمد بن المنكدر يضع خده على التراب ويقول: يا أماه ضعي
رجلك على خدي.
بل وصى الله تعالى بهما في وصية خالدة إلى يوم القيامة
نزل بها سيد الملائكة على سيد البشر والأنبياء والمرسلين صلى الله عليه
وسلم ، فقال {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا } ، وقال
{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى
وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ
إِلَيَّ الْمَصِيرُ}. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ثلاث آيات نزلت مقرونة
بثلاثة، لا يقبل الله واحدة بدون قرينتها، أما الأولى فهي قوله تعالى:{
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } فمن أطاع الله ولم يطع الرسول
فلن يقبل منه، وأما الثانية فهي قول الله {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ
وَءَاتُوا الزَّكَاةَ }، فمن أقام الصلاة وضيع الزكاة لن يقبل منه، أما
الثالثة فهي قول الله تعالى {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } ، فمن شكر
الله ولم يشكر لوالديه فلن يقبل منه.
وشكر الوالدين يكون ببرهما
والإحسان إليهما ، وهذا من مقامات النبوة ومن أخلاق الأنبياء، فهذا نبي
الله نوح يقول {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي
مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } . وهذا نبي الله إبراهيم ،
يتحبّب إلى والده بأحب كلمة له كلمة : يا أبتِ ، مع أن أباه كافر يصنع
الأصنام ويبيعها ، ومع ذلك ناداه نداء رقيقاً رقراقاً يلين القلوب القاسية ،
فقال {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا
نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ
وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا *يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ
جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ
صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ
الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ
أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا
}
إن البر من أعظم الطاعات وأجلّ الأعمال . ففي الصحيحين عن ابن مسعود
رضي الله عنه قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم : أيّ العمل أحب إلى
الله؟ قال: "الصلاة على وقتها"، قلت: ثمّ أيّ؟ قال: "بر الوالدين "، قلت:
ثمّ أيّ؟ قال: "الجهاد في سبيل الله".
وفي صحيح البخاري عن عبد الله ابن
عمرو رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له :
أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله تعالى، فقال صلى الله عليه
وسلم : "فهل لك من والديك أحد حيّ؟ ". قال: نعم، بل كلاهما، فقال صلى الله
عليه وسلم : "فتبتغي الأجر من الله تعالى؟"، قال: نعم، قال: "فارجع إلى
والديك فأحسن صحبتهما".
الوالدان
من أبواب الجنّة ، كما قال أحد الصالحين عندما ماتت أمه فبكى بكاء مريرا،
فلما سألوه: لِمَ تبكي هكذا؟ قال: كيف لا أبكي وقد كان لي بابان إلى الجنة،
واليوم أغلق أحدهما؟!
وبرهما
سبب في دخول الجنة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم :" رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك والديه عند الكبر
أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة ".
وفي
الحديث الذي رواه البيهقي ورواه ابن ماجة وحسنه الألباني أن رجلاً جاء إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أردت أن أغزو ـ أي في سبيل
الله ـ وقد جئت أستشيرك، فقال: "هل لك أم؟" قال: نعم، قال: "فالزمها، فإن
الجنة عند رجلها".
* ـ ثالثاً ، ومن قيم الاحترام الهامة : احترام
المرأة : فقد بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وبعض الأمم تنكر إنسانية
المرأة ، وآخرون يرتابون بها ، وغيرهم يعترف بإنسانيتها ، لكنه يعتبرها
مخلوقاً خلق لخدمة الرجل، وكان العرب في جاهليتهم يئدونها حية ، وكانوا
يرون أنها سلعة تباع وتشترى لا قيمة لها ولا مقام ، كما قال عمر بن الخطاب
رضي الله عنه :" والله إنا كنا في جاهلية ما نعير للنساء أمراً حتى أنزل
الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم ".
جاء الإسلام فكرَّمها، وأكَّد
وجوب احترامها ، وجعل لها ما للرجل وعليها ما عليه ، لأنهما فرعان من شجرة
واحدة ، متساويان في أصل النشأة ، وفي الخصائص الإنسانية العامة، وقال صلى
الله عليه وسلم :" إنما النساء شقائق الرجال ". رواه أحمد وأبو داوود.
فلا تفضيل لذكر على أنثى وإنما يكون التفضيل الحقيقي بينهما إنما بالتقوى فقط { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
فهما
متساويان في التكاليف والمسؤولية وفي الجزاء والمصير ، ولا قوام للإنسانية
إلا بهما .قال تعالى {ولهن مثل الذي عليهن}.فكما أن الواجب عليها أن تحترم
الرجل ، فإن الرجل مأمور أن يحترم المرأة . عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ،
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : استوصوا بالنساء فإن المرأة
خلقت من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته
لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء.رواه البخاري .
هذا الاحترام من حقوقها سواءً كانت أماً أو زوجة أو أختاً أو ابنة .
أ
ـ فإن كانت أماً ، كان لها من البر ثلاث أضعاف ما للأب . عن أبي هريرة ،
رضي الله عنه ، قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول
الله من أحق بحسن صحابتي قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أمك قال
ثم من قال ثم أبوك. رواه الشيخان .
ب ـ وإن كانت زوجة ، كان احترامها
علامة على الخيرية . عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم :" خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي". رواه الترمذي وصححه
الألباني .
ج ـ وإن كانت
أختاً أو بنتاً ، فإن الإحسان إليها من أسباب دخول الجنة . عن عائشة رضي
الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ليس أحد من أمتي
يعول ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فيحسن إليهن إلا كن له سترا من النار ". رواه
البيهقي وصححه الألباني .
فهذه
النصوص - وغيرها كثير - تؤكد وجوب احترام المرأة واحترام إنسانيتها
وبشريتها وإعطائها حقوقها ، ووجوب العناية بها وتربيتها على الحشمة والستر
والعفاف والإنفاق عليها .
لكن
شرط ذلك كله : أن يكون وفق ما شرع الله عز وجل ، أما ما خالف الشرع فهو من
إهانة المرأة وعدم احترامها ، والصور المؤلمة كثيرة جداً .
*ـ رابعاً ، من قيم الاحترام الهامة : احترام المجتمع ، وله صور عديدة ، منها :
أ
ـ احترام الصغير. عن سهل بن سعد الساعدي ، رضي الله عنه ، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ
فقال للغلام :" أتأذن لي أن أعطي هؤلاء " ؟ ، فقال الغلام : لا والله يا
رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحداً ، قال : فتلَّه رسول الله صلى الله
عليه وسلم في يده. رواه البخاري ومسلم .
ورواية
الترمذي أن الغلام هو ابن عباس . فعنه رضي الله عنه قال : دخلت مع رسول
الله صلى الله عليه و سلم أنا وخالد بن الوليد على ميمونة فجاءتنا بإناء
فيه لبن فشرب رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا على يمينه وخالد على
شماله فقال لي :" الشربة لك فإن شئت آثرت بها خالداً " ، فقلت : ما كنت
أوتر على سؤرك أحداً ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" من أطعمه
الله الطعام فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه ومن سقاه الله لبنا
فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه " ، وقال رسول الله صلى الله عليه و
سلم :" ليس شيء يجزي مكان الطعام والشراب غير اللبن". وحسنه الألباني.
مكانة كبيرة جعلتها تمتد لتشمل كثيراً من العلاقات التي تربط بالمسلم بغيره
، بل امتدت لتشمل المجتمع والعلاقات الاجتماعية.
وإذا
كان المسلم مأموراً باحترام المسلم ، فإنه مأمور أيضاً باحترام غير المسلم
، و لنا في المصطفى صلى الله عليه و سلم خير قدوة حين كتب إلى هرقل قائلاً
بعد بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ...
فلم يشتمه و لم يدعه بما يسيء إليه بل أنزله المكانة التي هو فيها .
أصدرت
منظمة اليونسكو مجموعة من القيم رأتها أنها من المشترك بين الإنسانية كلها
، وسمتها بالقيم النشيطة ، وأوصت بأن تتضمنها كل مناهج التعليم في
العالم. وجاءت قيمة الاحترام أول هذه القيم قيمة الاحترام .
والإسلام
كما ذكرنا آنفاً أولى هذه القيمة أهمية كبيرة ، وربطها بتصرفات وسلوك يضمن
تحقيقها ديانة وعبودية لله تعالى وليس مجرد قيمة أخلاقية مجردة لا يثاب
الانسان عليها .
وقد تعددت
صور الاحترام في الإسلام لتشمل : احترام الذات ، واحترام الوالدين ،
واحترام المرأة ، واحترام المجتمع وقيمه ، واحترام العلماء ، واحترام
الأمراء ، واحترام غير المسلمين بحفظ كراماتهم وآدميتهم .
* ـــ أولاً ، احترام الذات :
احترام
الذات هو الصورة الذهنية الجميلة التي يرسمها المرء عن نفسه ، وهذه الصورة
تتكون من خلال خبراته وتتأثر بقوة بالرسائل التي نتلقاها من الآخرين ، ولا
شك أن الطريقة التي ينظر بها الإنسان لنفسه تؤثر في كل نواحي حياته . وإن
عدم احترام المرء لذاته يجعل منه عدواً لنفسه .
من سبل تحقيق احترام الذات :
أ
ـ تقوى الله تعالى . قال تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}. عن ابن عباس
قال : لا أرى أحدا يعمل بهذه الآية {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر
وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فيقول
الرجل للرجل : أنا أكرم منك فليس أحد أكرم من أحد إلا بتقوى الله . البخاري
في الأدب المفرد ، وقال الشيخ الألباني : صحيح
وعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال قيل يا رسول الله من أكرم الناس ؟، قال :" أتقاهم ". رواه البخاري .
وقال
تعالى{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ
بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .والحياة الطيبة تحقق للإنسان ما
يحتاجه من احترام الذات . قال أبو سليمان الداراني رحمه الله : من أصلح
سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح آخرته أصلح الله دنياه ، ومن أصلح ما
بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس . وقد صدق رحمه الله ، فمن
جمعت فيه تلك الخصال الثلاث جمع الله له سعادة الدنيا والآخرة .
وقال
تعالى { وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } . قال القرطبي
رحمه الله أي من أهانه بالشقاء والكفر لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه
(تفسير القرطبي 12 /24 ) . وهذا من شؤم المعاصي .
فللمعاصي
عقوبات تتعدى إلى الدين والدنيا والقلب والبدن ، ومن عقوباتها : أنها تجعل
المرء يفقد احترامه لنفسه ورضاه عنها ، بل تجرئ السفهاء عليه ، كما أنها
تورث سواداً في الوجه وظلمة في القلب وتجلب له الضيق والهم والغم والحزن
والألم والانحصار ، وشدة القلق والاضطراب .( المعاصي لعبد الحميد تركستاني 3
بتصرف كبير).
قال ابن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
و ترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
ب
ـ ومن سبل تحقيق احترام الذات : البعد عن مواطن الريب والشبهات . فقد جاءت
الشريعة صريحة في الحث على ترك الشبه ومواطن الريب والتهم ، وفي هذا دليل
واضح يبين حرص الشريعة على حفظ كرامة الناس .
عن
النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول :" الحلال بيَّن والحرام بيَّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير
من الناس ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات
كراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ، ألا وإن لكل ملك حمى ألا إن حمى
الله في أرضه محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا
فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".رواه البخاري .
فهذا
الحديث فيه حث على أن يستبرأ الإنسان لدينه وعرضه بترك الشبه ، ومن الشبه
ورود الإنسان مواطن الريب .قال الخطابي : هذا الحديث أصل في الورع وفيما
يلزم الإنسان اجتنابه من الشبه والريب . (بذل المجهود في حل أبي داود 14
292) .
وللشيخ محمد أنور
الكشميري رحمه الله في شرحه لهذا الحديث كلاماً نفيساً حيث قال: إن الحديث
بعد ذكر الحلال والحرام انتقل من الأحكام والمسائل إلى الحوادث والوقائع ،
وذكر ضابطة عرفية ، ولذا تعرض إلى استبراء العرض ، فاندفع ما كان يخطر
بالبال أنه لا دخل لذكر العرض من باب الحلال والحرام فمعناه أن الرجل إذا
اتقى الشبهات ومواضع التهم فقد أحرز دينه عن الضياع وعرضه عن القدح فيه ،
وهو مراد قول علي رضي الله عنه : إياك وما يسبق إلى الأذهان إنكاره ، وإن
كان عندك اعتذاره فليس كل سامع نكرا يطيق أن تسمعه عذرا ، فإنه ليس واردا
في المسائل فقط بل أعم منها.(فيض الباري على صحيح البخاري (1 153) .
ومن
الأحاديث الدالة على أن الإنسان ينبغي له أن يحافظ على احترامه لنفسه
واحترام الناس له بالابتعاد عن مواطن الريب ما أخرجه الإمام البخاري رحمه
الله :" أن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم جاءت رسول الله صلى
الله عليه وسلم تزوره وهو معتكف في المسجد في العشر الغوابر من رمضان ،
فتحدثت عنده ساعة من العشاء ثم قامت تنقلب ، فقام معها النبي صلى الله عليه
وسلم يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد الذي عند مسكن أم سلمة زوج النبي صلى
الله عليه وسلم مر بهما رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، ثم نفذا فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم :" على رسلكما
، إنما هي صفية بنت حيي "، قالا : سبحان الله يا رسول الله ، وكبر عليهما
ما قال، قال : "إن الشيطان يجري من ابن آدم مبلغ الدم ، وإني خشيت أن يقذف
في قلوبكما ". أخرجه البخاري.
فالنبي
صلى الله عليه وسلم نفى التهمة عن نفسه باجتناب مواطن الريب ، ونبه على
ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : "على رسلكما إنها صفية ".
ج
ـ ومن سبل تحقيق احترام الذات : عدم التطاول على الآخرين ، فمن تطاول على
الناس تطاولوا عليه ، ومن نال منهم نالوا منهم ، والعكس بالعكس ، وهذه
قاعدة قررها أهل العلم استنباطاً من قوله تعالى {ولا تسبوا الذين يدعون من
دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } . قال النووي في شرح مسلم : قال
العلماء : فالله نهى عن سب آلهة الكفار وهو أمر مباح ومندوب إليه شرعاً لما
فيه من إغاظة الكافرين وإغاظتهم قربة لله جل جلاله ، ومع ذلك نهى الله عن
ذلك السب وجعله محرماً لكونه يفضي إلى سب الله جل جلاله ، ومن هذا قالوا أن
سد الذريعة في هذا واضح . (شرح الترمذي للشنقيطي 12 /17 )
وعن علي رضي
الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لعن الله من لعن والديه :
قالوا يا رسول الله ويلعن الرجل والديه ، قال : يسب الرجل أبا الرجل فيسب
أباه ويسب أمه ، فيسب أمه " .
فنهى
النبي صلى الله عليه وسلم الرجل أن يسب أبا الرجل لأنه إذا سبه أفضى إلى
سب الثاني لأبي الأول فكأنه تذرع بهذا الأمر للمحذور.(المصدر السابق ) .
د
ـ ومن سبل تحقيق احترام الذات : عدم سؤال المخلوقين : ومن ترك مسألة
المخلوقين ورجاءهم ، وعلق رجاءه بالله وحده لا شريك له ، عوضه الله خيراً
مما ترك فرزقه حرية القلب وعزة النفس والاستغناء عن الخلق ، " ومن يستعفف
يعفه الله " . متفق عليه .
ومثله من ترك التكالب على الدنيا جمع الله له
أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة . فليس الغنى عن كثرة
العرض ولكن الغنى غنى القلب ، قال صلى الله عليه وسلم : " من كان همه
الآخرة جمع الله عليه أمره وجعل غناه في قلبه وآتاه الدنيا وهي راغمة، ومن
كان همه طلب الدنيا جعل الله فقره بين عينيه وشتت عليه أمره ولم يأتيه من
الدنيا إلا ما كتب له " .
هـ
ـ ومن سبل احترام الذات : الاهتمام بالنظافة الشخصية ، كحسن الملبس وجمال
الهندام قدر الاستطاعة. عن الأحوص الجشمي قال: رآني النبي صلى الله عليه
وسلم وعلي أطمارٌ ـ أي ثياب بالية ـ فقال: "هل لك من مال؟ قلت: نعم، قال:
"ومن أي المال"؟ قلت: من كل ما أتى الله من الإبل والشاء، قال: "فلتر نعمته
وكرامته عليك؛ فهو سبحانه يحب ظهور أثر نعمته على عبده ". وقال عليه
الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر؛ فقال
رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة؛ فقال عليه الصلاة
والسلام: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس ".
قال
ابن الجوزي : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظف الناس وأطيب الناس،
وكان لا يفارقه السواك، ويكره أن يشم منه ريح ليست طيبة. فهو عليه الصلاة
والسلام كامل في العلم والعمل فبه يكون الاقتداء وهو الحجة على الخلق .
و
ـ ومن سبل تحقيق احترام الذات : أن يستمع الانسان أكثر مما يتكلم، فكلما
كثر الكلام ازدادت فرص الوقوع في الخطأ ، ما يؤدي إلى زعزعة احترامه لنفسه
واحترام الآخرين له .
ز ـ
ومن السبل : لا يقلل المرء من منجزاته، فعندما يقول : كنتُ محظوظاً لأني
فعلت كذا ، فإن هذا القول وأمثاله يفقده بعضاً من ثقته بنفسه ، فلا يقلل
أحد من شأن نفسه ، لأنه سيفقد احترام الآخرين له أيضاً .
* ـ ثانيا ً ، ومن قيم الاحترام الهامة : احترام الوالدين ولا يكون ذلك إلا ببرهما وتوقيرهما .
قال
تعالى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا
وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ
مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا
}.فقد قرن سبحانه عبادته وتوحيده بالإحسان إلى الوالدين ولين الجانب وخفض
الجناح لهما .كان محمد بن المنكدر يضع خده على التراب ويقول: يا أماه ضعي
رجلك على خدي.
بل وصى الله تعالى بهما في وصية خالدة إلى يوم القيامة
نزل بها سيد الملائكة على سيد البشر والأنبياء والمرسلين صلى الله عليه
وسلم ، فقال {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا } ، وقال
{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى
وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ
إِلَيَّ الْمَصِيرُ}. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ثلاث آيات نزلت مقرونة
بثلاثة، لا يقبل الله واحدة بدون قرينتها، أما الأولى فهي قوله تعالى:{
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } فمن أطاع الله ولم يطع الرسول
فلن يقبل منه، وأما الثانية فهي قول الله {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ
وَءَاتُوا الزَّكَاةَ }، فمن أقام الصلاة وضيع الزكاة لن يقبل منه، أما
الثالثة فهي قول الله تعالى {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } ، فمن شكر
الله ولم يشكر لوالديه فلن يقبل منه.
وشكر الوالدين يكون ببرهما
والإحسان إليهما ، وهذا من مقامات النبوة ومن أخلاق الأنبياء، فهذا نبي
الله نوح يقول {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي
مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } . وهذا نبي الله إبراهيم ،
يتحبّب إلى والده بأحب كلمة له كلمة : يا أبتِ ، مع أن أباه كافر يصنع
الأصنام ويبيعها ، ومع ذلك ناداه نداء رقيقاً رقراقاً يلين القلوب القاسية ،
فقال {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا
نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ
وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا *يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ
جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ
صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ
الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ
أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا
}
إن البر من أعظم الطاعات وأجلّ الأعمال . ففي الصحيحين عن ابن مسعود
رضي الله عنه قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم : أيّ العمل أحب إلى
الله؟ قال: "الصلاة على وقتها"، قلت: ثمّ أيّ؟ قال: "بر الوالدين "، قلت:
ثمّ أيّ؟ قال: "الجهاد في سبيل الله".
وفي صحيح البخاري عن عبد الله ابن
عمرو رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له :
أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله تعالى، فقال صلى الله عليه
وسلم : "فهل لك من والديك أحد حيّ؟ ". قال: نعم، بل كلاهما، فقال صلى الله
عليه وسلم : "فتبتغي الأجر من الله تعالى؟"، قال: نعم، قال: "فارجع إلى
والديك فأحسن صحبتهما".
الوالدان
من أبواب الجنّة ، كما قال أحد الصالحين عندما ماتت أمه فبكى بكاء مريرا،
فلما سألوه: لِمَ تبكي هكذا؟ قال: كيف لا أبكي وقد كان لي بابان إلى الجنة،
واليوم أغلق أحدهما؟!
وبرهما
سبب في دخول الجنة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم :" رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك والديه عند الكبر
أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة ".
وفي
الحديث الذي رواه البيهقي ورواه ابن ماجة وحسنه الألباني أن رجلاً جاء إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أردت أن أغزو ـ أي في سبيل
الله ـ وقد جئت أستشيرك، فقال: "هل لك أم؟" قال: نعم، قال: "فالزمها، فإن
الجنة عند رجلها".
* ـ ثالثاً ، ومن قيم الاحترام الهامة : احترام
المرأة : فقد بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وبعض الأمم تنكر إنسانية
المرأة ، وآخرون يرتابون بها ، وغيرهم يعترف بإنسانيتها ، لكنه يعتبرها
مخلوقاً خلق لخدمة الرجل، وكان العرب في جاهليتهم يئدونها حية ، وكانوا
يرون أنها سلعة تباع وتشترى لا قيمة لها ولا مقام ، كما قال عمر بن الخطاب
رضي الله عنه :" والله إنا كنا في جاهلية ما نعير للنساء أمراً حتى أنزل
الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم ".
جاء الإسلام فكرَّمها، وأكَّد
وجوب احترامها ، وجعل لها ما للرجل وعليها ما عليه ، لأنهما فرعان من شجرة
واحدة ، متساويان في أصل النشأة ، وفي الخصائص الإنسانية العامة، وقال صلى
الله عليه وسلم :" إنما النساء شقائق الرجال ". رواه أحمد وأبو داوود.
فلا تفضيل لذكر على أنثى وإنما يكون التفضيل الحقيقي بينهما إنما بالتقوى فقط { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
فهما
متساويان في التكاليف والمسؤولية وفي الجزاء والمصير ، ولا قوام للإنسانية
إلا بهما .قال تعالى {ولهن مثل الذي عليهن}.فكما أن الواجب عليها أن تحترم
الرجل ، فإن الرجل مأمور أن يحترم المرأة . عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ،
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : استوصوا بالنساء فإن المرأة
خلقت من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته
لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء.رواه البخاري .
هذا الاحترام من حقوقها سواءً كانت أماً أو زوجة أو أختاً أو ابنة .
أ
ـ فإن كانت أماً ، كان لها من البر ثلاث أضعاف ما للأب . عن أبي هريرة ،
رضي الله عنه ، قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول
الله من أحق بحسن صحابتي قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أمك قال
ثم من قال ثم أبوك. رواه الشيخان .
ب ـ وإن كانت زوجة ، كان احترامها
علامة على الخيرية . عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم :" خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي". رواه الترمذي وصححه
الألباني .
ج ـ وإن كانت
أختاً أو بنتاً ، فإن الإحسان إليها من أسباب دخول الجنة . عن عائشة رضي
الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ليس أحد من أمتي
يعول ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فيحسن إليهن إلا كن له سترا من النار ". رواه
البيهقي وصححه الألباني .
فهذه
النصوص - وغيرها كثير - تؤكد وجوب احترام المرأة واحترام إنسانيتها
وبشريتها وإعطائها حقوقها ، ووجوب العناية بها وتربيتها على الحشمة والستر
والعفاف والإنفاق عليها .
لكن
شرط ذلك كله : أن يكون وفق ما شرع الله عز وجل ، أما ما خالف الشرع فهو من
إهانة المرأة وعدم احترامها ، والصور المؤلمة كثيرة جداً .
*ـ رابعاً ، من قيم الاحترام الهامة : احترام المجتمع ، وله صور عديدة ، منها :
أ
ـ احترام الصغير. عن سهل بن سعد الساعدي ، رضي الله عنه ، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ
فقال للغلام :" أتأذن لي أن أعطي هؤلاء " ؟ ، فقال الغلام : لا والله يا
رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحداً ، قال : فتلَّه رسول الله صلى الله
عليه وسلم في يده. رواه البخاري ومسلم .
ورواية
الترمذي أن الغلام هو ابن عباس . فعنه رضي الله عنه قال : دخلت مع رسول
الله صلى الله عليه و سلم أنا وخالد بن الوليد على ميمونة فجاءتنا بإناء
فيه لبن فشرب رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا على يمينه وخالد على
شماله فقال لي :" الشربة لك فإن شئت آثرت بها خالداً " ، فقلت : ما كنت
أوتر على سؤرك أحداً ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" من أطعمه
الله الطعام فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه ومن سقاه الله لبنا
فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه " ، وقال رسول الله صلى الله عليه و
سلم :" ليس شيء يجزي مكان الطعام والشراب غير اللبن". وحسنه الألباني.