كنا في الحلقة السابقة قد بدأنا الحديث عن الغيبة، وتحدثنا عن معنى الغيبة وعن صورها وأشكالها المختلفة، واليوم بإذن الله نستكمل حديثنا عن جُرم الغيبة.
كنا ذكرنا أننا أمة الإيمان بالغيب، فكيف ونحن كذلك نجد أننا نستسهل الغيبة ونبسطها؟
حقاً.. الفكرة كلها أن نبدأ في تعظيم الأشياء التي أحياناً ننسى تعظيمها؛ لأنها قد تبدو غير ملموسة، ولكن إن عظمناها، فالله الله على التغيير الذي سنراه في قلوبنا. وقلوبنا هي الموضع الذي لو لحق به التغيير لوجدنا كل شيء آخر سهلا، وكل ما نشكو منه في ظاهر الأمر أخلاقيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا سيتحول إلى الأحسن لأننا إن نصرْنا الله نصرَنا...
فالحل هو أن نبدأ كلنا في تزكية نفوسنا، وأن نبحث عن الأشياء غير الملموسة التي من الممكن أن تفسد علينا حياتنا.. ولهذا نقول بصراحة إن الغيبة كارثة، وعندما نتأمل قول الله تعالى في سورة الحجرات: {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} سنجد أن الأمر عظيم، فتخيل أن أمامك أحدا تعرفه جيدا وهو ميت ومعروض عليك جزء منه لتأكله -اعذرني- ولكن تخيل أن أحدا يبدأ في تجهيز هذا الجزء من لحم صاحبه وكأنه طعام، إلى أي مدى يمكن للإنسان أن يشمئز من هذا، ولكنني أبشرك أننا إذا بدأنا نعظم هذه الأشياء غير الملموسة ونزكي نفوسنا تزكية حقيقية ونغار على قلوبنا من أن يدخلها أي شيء يدنسها، عندها سأجد بعد فترة قصيرة -إن شاء الله- أنه عندما أسمع أحدا يغتاب غيره أمامي فإنني سأعرض عنه تماماً بل وبسهولة.
ما هو موقف الشخص المستمع للغيبة؟ هل يقول: لا شأن لي؟
جاء في الأثر أن المستمع يعتبر أحد المغتابين فأنا لي دور ما دمت أسمع، والمستمع شريك طالما لم يَنْهَ عن الغيبة وإساءة الظن بالآخرين.. ويجب أن نتأمل ماذا قال الله سبحانه بعد: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}، قال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} اتقوا الله ولا تغتابوا.. والإنسان المتقي هو الذي سيدخل الجنة بسرعة: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الجَنَّةِ زُمَرًا} ومن أهم صفاته أنه لا يغتاب، وأنه ليس فقط يمتنع عن الغيبة بلسانه، لكنه أيضا لا يشترك في الغيبة بالاستماع، فلو أن أحدا اغتاب أحدا أمامه فإنه لا يقبل..
ولكن عليه ألا يواجه المغتاب بأسلوب غليظ؛ فإن كان المغتاب في سنه أو قريب من ذلك فيشعره باللطف وبالحكمة أنه لا يصح أن نتكلم في فلان، وإن كان أكبر منه سنا فعليه أن يشعره بذلك أيضاً ولكن بأسلوب ألطف، وأحياناً غير مباشر، فمثلاً، يقوم من المجلس كلما تأتي الغيبة، فيدرك المغتاب بعد حين أن كلامه غير الجميل هو السبب
ونحن المفروض أن نقول في داخلنا: "ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك"، ونُعرض ونبتعد.. فإذا فعلنا ذلك سنجد بعد فترة أن الناس من حولنا تحذر أن تغتاب أمامنا.. وهنا ألفت انتباهك إلى أنك ستعود للمطب الذي تكلمنا عنه في السابق وربما تعجب بنفسك وتفخر بأنك الشخص الذي تحترمه الناس وتحذر الغيبة في وجوده.
والشيطان في هذه الحالة جاهز ودائما يحاول أن يشجع الإنسان على هذا الذنب أو ذاك..
بالضبط، لذلك فإننا نستحضر دائما كل ما تكلمنا عنه من قبل حتى نبني عليه، فنراعي مطب الغيبة ومطب العُجْب كذلك، لكن لو ابتعدنا تماما عن مطب العُجْب خاصة بعد تطبيقنا ما تكلمنا عنه فيما يخص الغيبة، فعلاً ساعتها ستجد الناس تحذر أن تغتاب أمامك، وأنهم يحترمون الشرف والنور الذي يكون في قلب من أمامهم، المتقي الله في الغيبة، وبذلك تكون فعلاً قد نجوت؛ لأننا كما أوضحنا أن المستمع أحد المغتابين...
وهناك مواضع معينة لا تعتبر غيبة وهي قليلة جدا جدا.. وأنا أريد أن أذكرها حتى نعلمها.. وأريد أن أذكرها حتى نتجنب الشك الذي يقع في قلوبنا عندما نسأل: هل هذا الذي أفعله غيبة أم لا.. فلو أنني أعلم المواضع الحقيقية التي ليست من الغيبة فلن أعرف أن أضحك على نفسي، سأستطيع أن أرى الفرق بوضوح جدا، وأنا أتمنى أن نصل لمرحلة، أن نمشي في نفس الخط مع قلوبنا.. مع الفطرة.. وما أروع الناس الذين تحركهم الفطرة وتكون لهم مؤشرا.. عندما تجد أحدا يذكر أحدا أمامك بطريقة سيئة وأنت ساكت لا ترد، لا تبتعد ولا تعترض وتسكت.. فهناك شيء داخلك يرفض الخطأ ويأمرك بالخير.. وهذا يحدث لنا جميعاً، فأتمنى أن نصل لمرحلة أننا عندما ينادي هذا الصوت نقول له: نحن معك على الخط تماما. صحيح كانت هذه غيبة ولا يجب عليّ أن أهرب من صوت الصواب داخلي وأجد لنفسي تبريرا.. فهذا الصوت هو صوت الخير {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} وهو الذي يقول لك: يا ليتني كنت رفضت وأعرضت، وهناك جزء آخر داخل الإنسان وهو الجزء الذي يشتهي الكلام عن الآخرين فتجده يقول: لماذا لا أتركه يكمل وأستمتع بكلامه، فلست أنا الذي أتكلم، أنا فقط أستمع، فلنُغَلِّب التقوى على الفجور.
ستة مواضع تجوز فيها الغيبة
هذه المواضع التي تجوز فيها الغيبة مذكورة في أبيات شعرية، وقد كان الناس قديما يحاولون أن يضغطوا المعاني في أبيات شعرية ليحفظوها.. تقول الأبيات:
لِسِـتٍّ غــيبةً جـوّزْ وخُــــذْها منظّـــمةً كـأمـثال الجـــواهرْ
تظـلّم واستعِنْ واستفْتِ حذِّرْ وعَرِّفْ واذكُرَنْ فِسْقَ المُجاهر
معناه أن هذه الأسباب الستة فقط يجوز فيها الغيبة، فأنت تذكر أحدا في غيابه بشيء يكرهه، لكنها هنا لا تعد من الغيبة المحرمة، وهي الآن مباحة وجائزة، وسأبين سبب ذلك بعد قليل.. والشاعر يقول: خذها منظمة كأمثال الجواهر.. كاللؤلؤ وعليك أن تحفظها:
أولها (تظلَّم): ومعناها أنك من الممكن أن تكون عند قاضٍ أو سلطان وأنت مظلوم فلابد أن آخذ حقي فلكي آخذ حقي لابد أن أحكي ما حدث لي، و لا يصح ساعتها عندما يسألني القاضي أو السلطان عمّا عمله فيك الجاني، أقول له: لا أستطيع لأنها غيبة!!.
(استعِن): ومعناها أنك من الممكن أن تستعين بأحد لرفع الظلم عنك ومن الممكن أن تتكلم مع أحد وتُعرِّفه بالقدر الذي يستطيع به أن يعينك على التخلص من هذا الظلم، أو من هذه المشكلة أو من تغيير هذا المنكر..... إلى آخره، فانتبه إلى أن كل هذا من أجل تغيير ظلم أو تغيير منكر أو إحقاق للحق في الأرض فهو هدف أسمى.
و(استَفْتِ): فإذا كنت أطلب فتوى فمن الضروري أن أذكر الوضع بالتفصيل، ولكن مثلا لو أن زوجةً يظلمها زوجُها فلو أنها تستطيع أن تأخذ الفتوى من غير أن تقول زوجي، كأن تقول مثلا: زوجٌ يظلم زوجته... فهذا يكون أفضل؛ لأن هناك قاعدة عامة تقول: "الضرورة تقدّر بقدرها" فلا أظل أتلذذ بالكلام عن الظالم لأنني ظُلِمت.
و(حذّر): وهنا خطأ نقع فيه، فلو مثلا أحد يريد أن يفتح شركة مع آخر، وهذا الآخر معروف أنه "نصاب"، فطبعا لابد أن أحذّر الأول، لكن هناك فرق بين أن أحذره في البداية وبين أن أنتظر أن يصبح الموضوع في طور التنفيذ، فساعتها يجب أن أُسِرّ له وأقول له لإنقاذه، وهذا أيضاً لهدف أسمى وهو حمايته من السرقة والضياع، وبشكل مستتر بعيدا عن الفضيحة... ومثلٌ آخر، لو أن شخصا يريد أن يتزوج من امرأة أريد أنا كذلك أن أتزوجها، فهل أذهب لأبيها وأحذره من أن فلاناً به العيب الفلاني وربما فيّ أنا كذلك عيب أكبر منه، لذلك فـ(حذّر) هذه لابد أن تستخدم بحذر.
و(عرّف): ومعناها التعريف بمعنى أن أحدا يكون عنده اسم أو صفة غلبت عليه، على سبيل المثال "الأعرج"، وأصبح هذا اسما معروفا به، وهو لا يكرهه ولا يكره بأن ينادى بهذا الاسم إذن فهو قد عُرِف به، هنا فقط من الممكن أن تُعرِّفه به وتقول "الأعرج"، لكن لو هو يكره هذا اللقب فلا يصح أن تعرّفه به.
و(اذكرن فسق المجاهر): معناه أن هناك أناساً يعصون ويفعلون ذنوبا كثيرة في الملأ وأمام الناس، والذنب في الخفاء شيء وأن أنشره وأجعله فتنة في المجتمع شيء آخر، فهذه المجاهرة أسقطت عنهم حرمة الغيبة، وبعض حكمة ذلك أن ذكر الناس لفسقهم بأسمائهم يعيد التوازن للمجتمع، ويؤكد للناس أن ما يفعلونه منكر كبير، حتى لا تُفتن الناس بأفعالهم السيئة.
ولنا حديث آخر بإذن الله عن كيفية علاج الغيبة.. وكيف نتخلص منها.
المصدر : بص وطل
منتديات عرب مسلم | منتدى برامج نت | منتدى عرب مسلم | منتديات برامج نت | منتدى المشاغب | منتدى فتكات | منتديات مثقف دوت كوم | منتديات العرب | إعلانات مبوبة مجانية | إعلانات مجانية |اعلانات مبوبة مجانية | اعلانات مجانية | القرآن الكريم | القرآن الكريم قراءة واستماع | المكتبة الصوتية للقران الكريم mp3 | مكتبة القران الكريم mp3 | ترجمة القرآن | القرآن مع الترجمة | أفضل ترجمة للقرآن الكريم | ترجمة القرآن الكريم | Quran Translation | Quran with Translation | Best Quran Translation | Quran Translation Transliteration | تبادل إعلاني مجاني